الصين والعرب على طريق الحرير
تسببت جائحة كورونا التي بدأت في مدينة ووهان الصينية في سنة 2019 وتفشت في في أنحاء العالم، بأضرار اقتصادية بالغة تضمنت ركوداً عالمياً هو الأكبر منذ الكساد الكبير الذي ضرب أولاً الولايات المتحدة في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1929 مع انهيار سوق الأسهم الأميركية (الثلاثاء الأسود)، وعم أرجاء العالم واستمر حتى ثلاثينيات القرن العشرين، ولم يستعيد العالم قوته الاقتصادية إلّا بعد تعافي الاقتصاد الأميركي على وجه الخصوص.
في حينه كانت الصين تغرق في ظلام التخلف الاقتصادي، وكانت الولايات المتحدة المهيمنة على الاقتصاد العالمي، وخصوصاً عقب الحرب العالمية الأولى التي أنهكت أوروبا الاستعمارية، ثم النزاعات في القارة العجوز، والتي قادت إلى الحرب العالمية الثانية وتسببت، فضلاً عن مقتل ملايين البشر، في انهيار اقتصادي لأوروبا واليابان، وتحكُّم الولايات المتحدة أكثر باقتصاد العالم، ثم ربطه بالدولار الأميركي اعتباراً من سبعينيات القرن العشرين، بعد تخلي الإدارة الأميركية عن غطاء الذهب للدولار، وربطه بقوة الاقتصاد الأميركي، وتحكم أسواق نيويورك المالية ببورصات العالم، بحيث باتت أي أزمة تصيب قطاعاً من قطاعات الاقتصاد الأميركي تسحب نفسها على اقتصادات العالم جميعها.
في الأزمة الاقتصادية الأخيرة ما بعد كورونا، لم تلعب الولايات المتحدة دوراً ريادياً في تعافي الاقتصاد العالمي، إنما جاء التعافي من جهة أخرى من العالم، حيث تركز الولايات المتحدة حربها الناعمة منذ فترة، أي المنطقة الجغرافية التي تُعرف بأوراسيا، وتحديداً الصين.
وفق توقعات صندوق النقد الدولي لسنة 2023، فإن منطقة آسيا والمحيط الهادئ ستشهد نمواً بمعدل 3,6%، بزيادة قدرها 0,3% عن توقعات الصندوق السابقة، في إثر نمو اقتصادات هذه المنطقة بنسبة 3,8% في سنة 2022، وبالتالي فإن هذه المنطقة سوف تساهم بأكثر من 70% من نمو الاقتصاد العالمي.
ووفق التوقعات، فإن اقتصاد الصين يلعب دوراً ريادياً في النمو، وسوف ينمو بنسبة 5% في سنة 2023، بعدما حقق نسبة 3% في سنة 2022.
لقد بات من الواضح أن الصين تقود اقتصاد العالم، بينما يتراجع تأثير الولايات المتحدة في هذا المضمار، على الرغم من استمرار تحكمها بكثير من دول العالم عبر هيمنتها الأمنية والعسكرية، وبات من الواضح أن حرباً باردة جديدة اندلعت، اقتصادياً هذه المرة بين قطبين هما الولايات المتحدة والصين، وتمثلت بالعقوبات الشديدة التي فرضتها واشنطن على الكثير من الشركات الصينية، ولا سيما شركة هواوي بسبب امتلاكها قدرات الجيل الخامس من تكنولوجيا الإتصالات، والمخاوف الأميركية من استخدام الصين هذه القدرات في عمليات التجسس، وفق مزاعم واشنطن طبعاً.
من المعروف أن أمن معظم بلدان الشرق الأوسط وأكبر اقتصاداتها كانت تحت هيمنة الولايات المتحدة التي بدأت الانسحاب من هذه المنطقة في العقد الأخير، انزياحاً نحو آسيا، بنيّة منع الصين من التمدد اقتصادياً وأمنياً. وبتركها المنطقة، أو أقله تخفيف قبضتها عليها، وترك الدول التي كانت تعول على الحماية الأميركية من دون غطاء كانت تؤمنه سابقاً، كان لا بد من أن تملأ قوة أخرى هذا الفراغ، ومن غير القوة الاقتصادية الأكبر، الصين، هي من سوف تملأ الفراغ.
عندما اندلعت الحرب في اليمن، وتدخلت دول الخليج العربي بقيادة السعودية لمؤازرة الشرعية اليمنية في وجه الاجتياح الحوثي المدعوم من قبل إيران، وعندما تطورت المعركة وقصف الحوثيون الأراضي السعودية وأبو ظبي بصواريخ وطائرات مسيرة انتحارية، تلكأت الولايات المتحدة عن المساعدة، الأمر الذي دفع دول الخليج ذات الاقتصادات الكبيرة، إلى البحث عن بدائل، وجدتها في بكين التي لا تفرض الكثير من الشروط للتعامل الاقتصادي مع الدول الأخرى، وبالطبع بسبب حاجتها الماسة للطاقة المستجرة من الشرق الأوسط، المادة التي تخلت عنها الولايات المتحدة منذ مدة طويلة، وأعلنت اكتفائها ذاتياً.
على أن العلاقات الصينية العربية عموماً، والصينية الخليجية خصوصاً، ليست وليدة السنوات الأخيرة، بل هي ممتدة سنوات إلى الوراء، فضلاً عن أن المنطقة كانت من ضمن أهم مسارات طريق الحرير القديم، وهي ضمن خارطة طريق الحرير الجديد الذي الصين في إنشائه مجدداً.
أبرز مظاهر الاهتمام المتبادل بين الصين ودول الخليج، ولا سيما السعودية، وباقي الدول العربية، القمم التي استضافتها الرياض في كانون الأول/ ديسمبر 2022، وهي ثلاث: صينية- سعودية؛ صينية- خليجية؛ صينية- عربية، وأثمرت اتفاقات استراتيجية بين الصين والبلدان التي شاركت في القمم، وتميزت بالاستقبال الحافل والمميز في المملكة للرئيس الصيني شي جين بينغ.
لقد باتت الصين المستورد الأكبر للنفط من الشرق الأوسط، وأكبر شركاء التجارة مع أكبر الاقتصادات العربية، وخصوصاً السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، وهي في طور تعاون عسكري وأمني واسع مع السعودية، بل باتت لاعباً في سياسات المنطقة، من خلال وساطتها الناجحة بين المملكة السعودية وإيران، والتي أنتجت عودة للعلاقات المقطوعة بين البلدين، وتطبيعاً للعلاقات، لا بد أن يعكس نفسه، آجلاً على ملفات المنطقة كلها.
وتبقى الأسئلة المحورية التي تحتاج وقتاً للإجابة عليها، وسبر غور ما يمكن أن يخبئه المستقبل: هل تتمكن الصين من الحلول مكان الدول الاستعمارية الأوروبية القديمة، أو الاستعمار الأميركي الحديث لهذه المنطقة من العالم؟ وكيف ستكون العلاقات بين طرفي المعادلة الجديدة (الصين والعرب) إن حدثت؟ أخذاً بالاعتبار أن لا الصين تحمل الأفكار والمفاهيم والآليات ذاتها للاستعمارين السابقين، وهي أقرب إلى “البزنس” منها إلى التحكم الاستعماري، ولا القادة العرب الجدد، ولا سيما الخليجيون، هم مثل الحكّام السابقين، إنما أكثر حرصاً وتشدداً لمصلحة دولهم، ومساعداتهم لم تعد بلا ثمن، ومجرد كرم عربي.. فلكل شيء ثمنه، والشفافية باتت مطلوبة لمعرفة أين وكيف تُنفق أموال المساعدات، كما أن علاقاتها مع الاقتصادات الكبرى لم تعد تلك العلاقات التابعة، إنما هي تسعى لأن تنوع اقتصاداتها وعلاقاتها الاقتصادية، وحتى العسكرية، كي لا تقع تحت ابتزاز جهة دولية واحدة. فهل تنجح الدول العربية بقياداتها الجديدة في الاستقلال الحقيقي وفرض التنوع في العلاقات مع الخارج؟ وهل سوف يسمح هذا الخارج القوي المتصارع بعضه مع البعض، في ترك الدول التي كانت تقع تحت الهيمنة من التلفت من هذه الهيمنة؟
إن العلاقات الصينية العربية تحتاج إلى ملف كامل وشامل ومفصل للإحاطة بها، ولهذا ينشر “موقع التقرير العربي” ملفاً عن العلاقات الصينية العربية بعنوان “الصين والعرب على طريق الحرير”، في مساهمة بسيطة، نسعى لتطويرها مع الوقت.
فقراءة ممتعة لملفنا هذا الذي يكتبه الزملاء: رامي (الصين– السعودية، والصين- الخليج)؛ سامح (الصين- مصر)؛ علي (الصين– العراق)؛ عماد (الصين- لبنان، والصين- الأردن)؛ زين (الصين– سورية)؛ على أمل أن نضيف مع الوقت علاقات الصين بدول عربية أخرى.