كسر الجمود السياسي وعقبات الانتخابات في ليبيا

بينما تبحث ليبيا عن لحظة يستقر فيها الوضع السياسي، بتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، وتوحيد المناصب السيادية، وتشكيل حكومة تنفيذية تحكم البلاد برمتها، عبرت ليبيا المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية في السادس عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، من خلال 58 بلدية، هي مجموع المرحلة الأولى للانتخابات، في حين تنجز البلديات الأخرى استحقاقها الانتخابي خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2025.

الانتخابات البلدية والمشهد السياسي

بدت الانتخابات البلدية، على الرغم من عزوف المواطنين عن المشاركة الفعالة، لاختيار ممثليهم في البلديات المنوط بها تقديم الخدمات المباشرة، مساحة ينبغي من خلالها تجاوز حالة عدم الاستقرار، التي عاشت فيها ليبيا خلال السنوات الأخيرة. ومن هنا جاءت تحركات نائبة المبعوث الأممي ستيفاني خوري، واللقاءات المتعددة التي تجريها مع القوى المحلية، حيث اتفقت مع رئيسي مجلسي النواب والرئاسي عقيلة صالح ومحمد المنفي، على ضرورة إيجاد حكومة موحدة لمعالجة الانسداد السياسي، وكسر الجمود السياسي والاتفاق على ميزانية موحدة وصولاً إلى الانتخابات. وكذلك الحديث عن اجتماع دولي مغلق مرتقب، في العاصمة البريطانية لندن، بمشاركة الولايات المتحدة وفرنسا وايطاليا والمانيا وتركيا ومصر والإمارات وقطر، لمناقشة عقبات إجراء الانتخابات في ليبيا وحينها ستقدم ستيفاني خوري خطتها في هذا الشأن.

ثمّة ملاحظة في هذا الاجتماع، وهو استبعاد روسيا من المحادثات، والتي تنخرط في الجغرافيا الليبية منذ سنوات الحرب بين المشير خليفة حفتر وحكومة السراج في الغرب لصالح الأول، فضلاً عن حضورها السياسي والدبلوماسي في بنغازي والعاصمة طرابلس. غير أن تطورات الوضع في الشرق الأوسط عموماً وسورية تحديداً، قد تدفع الملف الليبي نحو سيناريوهات عديدة من الصعب التكهن بترجيح أي منها قبل أن تحسم الأمور في سوريا.

توظيف المشهد وفق الأهداف

على هامش ذلك، سعت الأطراف الفاعلة في الداخل الليبي توظيف المشهد، كل بحسب أهدافه المباشرة وغير المباشرة، إذ جاءت تحركات رئيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس عبدالحميد الدبيبة، لتبرز قدرة حكومته على إدارة الانتخابات، مما يجعلها تقدم نفسها للقوى الدولية والإقليمية لإدارة المرحلة القادمة، واستكمال مهامها ومن ناحية أخرى فهم مدلول قراره بضم بعض البلديات لبعضها البعض، بغية تعزيز مكانته ونفوذه مرة في محيط مدن الغرب الليبي، مثلما كان في قرار ضم بلدية تاورغاء لمصراته، إحدى أكبر المدن التجارية، أو لتمتين سيطرته في مقابل قيادة الجيش في الشرق من خلال بلدية أبو نجيم وضمها لمصراته، وهو الأمر الذي أدى إلى غضب شعبي ورفض لتلك القرارت، كما أنّ الحكومة المكلفة من مجلس النواب في شرق البلاد، عدّت ذلك فوضى إدارية وزعزعة للاستقرار، سيما بعد تجاوز البلاد المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية، يحسب بيان لرئيس الحكومة المكلف من البرلمان بشرق البلاد أسامة حماد.

في هذا السياق يشير الكاتب الليبي عبدالله الغرياني، إلى أنّه بطبيعة الحال استغلت الأطراف السياسية الليبية، بما فيها حكومة الوحدة الوطنية، الانتخابات البلدية في محاولة التسويق لنفسها، وتوظيف مشهد الانتخابات البلدية، لتزعم أنّها مؤهلة لتنفيذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ما يمنحها حق البقاء في السلطة.

ويتابع الغرياني في تصريح لـ”التقرير العربي”، أنّ اللافت في الأمر، أنّ كل الأطراف المعارضة للانتخابات، هي ذات الأطراف التي أيدت هذه الانتخابات، ما يكشف عبث القادة السياسيين الليبيين بالمشهد عامة، واستغلال التناقضات لصالحهم، بعيداً عن مصلحة البلاد على حد تعبيره.

ويستبعد الغرياني وجود أي آثر حقيقي للانتخابات البلدية في تطوير المشهد السياسي، ودفعه نحو لحظة مستقرة، ببد أنه استطرد قائلاً: ” كان لها أثر نحو محاولة إنعاش المجتمعات المحلية في هذه المناطق، والعمل على تنمية الخدمات وتطويرها، من خلال سلطة محلية منتخبة، رغم العزوف الذي طال العملية الانتخابية في أغلب البلديات مما يعكس حالة اليأس لدى أغلب المواطنين من الوضع العام في البلاد.”

ويلفت الغرياني إلى أن مسألة التنمية والإعمار في مناطق جنوب وشرق البلاد تعود للسلطة المركزية، كصندوق إعادة الأعمار والجهاز الوطني للتنمية، وجميعها تابعة للقيادة العامة للجيش، وبالتالي تستطيع النظر إاليها كبديل واقعي للبلديات في مناطق الشرق الليبي.

يتابع الكاتب الليبي حديثه، مؤكداً أنهه بالتدقيق في شكل القوائم المتنافسة داخل بعض البلديات، مثل القبة شرق ليبيا ومصراته والزنتان غرب ليبيا، غلب عليها الطابع والتنافس السياسي بعيداً عن الأدوار الخدمية المنوط بها البلديات المحلية، فضلاً عن الأوزان المتغيرة للبلديات من ناحية العدد والقدرة على التأثير.

أهداف ضم البلديات

وبسؤاله عن تداعيات قرار رئيس الحكومة في طرابلس غرب البلاد، ضم بعض البلديات ودمجه، أشار المصدر ذاته أن هذا القرار قوبل بالرفض والاحتجاج. ويفسر الغرياني القرار من خلال محاولة رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة صياغة الجغرافيا بالصورة التي يبرز معها نفوذه وسيطرته في الغرب، مثلما كان في ضم بلدية تاورغاء لبلدية مصراته.

ويختتم الكاتب الليبي عبدالله الغرياني حديثه بشرح قرار آخر، وهو ضم بلدية ابونجيم مع بلدية مصراته، وأنها تمثل النقطة الفاصلة بين مناطق القيادة في الشرق وما بين الغرب. وبالتالي يبدو قرار ضم بلدية ابو نجيم إلى بلدية مصراتة كرسالة مباشرة لخليفة حفتر والقيادة العامة في شرق البلاد عبر الجغرافيا.

بيان القذافي الابن

كان لافتاً البيان المنسوب لسيف الاسلام القذافي، عقب إعلان نتائج الانتخابات البلدية تحقيق أنصاره فوزاً فيها، إذ قال “وعليه نقول للذين يحاولون طمس هذه الحقيقة لن يفلحوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.”

من الصعوبة العثور على واقع حقيقي يتماس مع هذا البيان، على الرغم من بعض الهتافات التي جرت مؤخراً في العاصمة طرابلس، أثناء مباراة لكرة القدم جمعت المنتخب الليبي بمنتخب بنين  ورفعت الجماهير حينها شعارات تؤيد نظام العقيد الراحل معمر القذافي.

بالعودة لبيان القذافي الابن وحديثه عن الانتصار الكاسح في تلك الانتخابات، نجد أن الأمر لا يتجاوز أن سيف الاسلام القذافي سعى لاستثمار اللحظة سياسياً، وخصوصاً أنه مرشح رئاسي محتمل ويطرح نفسه كرقم في المعادلة السياسية والأخرى، كونه يدرك حالة الاحباط والتصحر السياسي الذي ضرب البلاد سواء خلال حكم العقيد الراحل أو سنوات العقد الفائت والأزمات المتتالية التي عرفتها البلاد، مما يجعل بيانه له نصيب لابأس به من القبول الشعبي واستدعاء الحنين لاستقرار الدولة والخدمات.

إلى ذلك يشير الدبلوماسي الليبي الشتيوي الجدي بقوله، إلى أن إعلان سيف الإسلام  القذافي  تحقيق أنصاره الفوز بالانتخابات، إضافة إلى الهتاف باسم الزعيم الليبي الشهيد معمر القذافي في قلب العاصمة الليبية طرابلس خلال مباراة كرة القدم ومهرجان للفروسية الشعبية، هي مؤشرات  أكدت حنين الليبيين إلى فترة حكم نظام القذافي.

وهذه ليست أول مرة ترفع فيها شعارات مؤيدة لنظام القذافي، ففي العديد من المناسبات رفعت شعارات وهتافات تشير إلى توق وحنين عدد كبير من الليبيين لفترة حكم القذافي؛ فالشعب ضاق درعا من الاضطرابات الأمنية والصراعات السياسية وتردي أوضاع الليبيين المعيشية في ظل تتالي فشل الحكومات المتعاقبة منذ 2012 في تأسيس دولة ذات سيادة وطنية تنهي الفوضى الحالية وتخلص البلاد من الهيمنة الأجنبية بحسب المصدر ذاته.

ويتابع الشتيوي الجدي تصريح لـ”التقرير العربي”، أن وجود موالين للنظام السابق في كثير من البلديات على رغم ممارسة سلطات طرابلس وبنغازي أقصى قدر من البطش ضد أنصار سيف الإسلام القذافي، الذي تعتبره حكومات طرابلس وبنغازي خصماً قوياً لهما، وذلك تجلى من خلال اعتقالها لعدد من الأشخاص الذين يرون أن سيف الإسلام القذافي، هو المشروع السياسي الوحيد لاستقرار ليبيا، وهو أمر أكدته الانتخابات البلدية الأخيرة، التي بينت أن لنجل القذافي حظوظاً وافرة للفوز بالانتخابات الرئاسية أكثر من أي مرشح آخر في ليبيا إذا ما توفر مناخ انتخابي سليم على حد تعبير المصدر.

ويختتم الشتيوي الجدي حديثه بتأكيد أن “المشهد السياسي الليبي الراهن يؤكد أن سيف الإسلام القذافي طرف سياسي لا يمكن الاستهانة به، خصوصاً أنه فرض نفسه من دون أن يستخدم القوة العسكرية أو المالية، بعكس الأطراف المتصارعة الأخرى، وهو ما أعطاه إضافة وجعل الأمم المتحدة والمجلس الرئاسي لا يغيبون ممثليه عن أية مشاورات سياسية محلية كانت أو دولية.”

حسم الملفات العالقة

إذاً، وعلى الرغم من جميع المعطيات السابقة المتعلقة بنتائج الانتخابات البلدية، ومدى حقيقة فوز قوائم تتبع سيف الإسلام في تلك الانتخابات، فإن المشهد السياسي في ليبيا لا ينتظر تغييراً جذرياً في الأفق المنظور قبل أن تحسم التطورات الأخيرة في سورية، وترقب وصول الرئيس المنتخب دونالد ترامب للبيت الأبيض مطلع العام القادم، مما يعني أن السيناريو الأكثر ترجيحاً في الأزمة الليبية سيكون خلال نهاية الربع الأول من 2025، ومن خلال تشكيل حكومة مصغرة وحسم اسم المبعوث الأممي ومن خلال ذلك يمكن الحديث عن الانتخابات الرئاسية.

وربما السيناريو الأكثر تشاؤماً هو انفراط حالة السيولة الميدانية، في البلاد والرجوع مرة أخرى لحالة الحرب سواء بين الشرق والغرب أو بين الميلشيات المسلحة في الغرب.