صراع قسد والعشائر بين المظلومية والتأثير الإقليمي والدولي

تجدد المواجهات مؤخراً بين “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) ومقاتلي العشائر العربية في شمال شرقي سورية وخصوصاً في محافظة دير الزور يشكل حدثاً مهماً يفاقم الازمة المستمرة في البلد منذ أكثر من 13 عاماً.

هذه المواجهات كانت جرت أول مرة قبل نحو عام، وتجددها يثير تساؤلات بشأن استقرار شمال شرق سورية في السنوات المقبلة، وهل بات لهذا الصراع بعداً إقليمياً ودولياً، وهل ستستغل الأطراف المعنية هذا الصراع لانهاء الوجود الأميركي في تلك المنطقة؟

تجدد الصراع

في أوائل آب/ أغسطس الفائت هاجمت العشائر العربية “قسد” في ريف دير الزور، وطال الهجوم في أيامه الأولى مناطق واسعة في الضفة الشرقية لنهر الفرات في محافظة دير الزور. وسيطر جيش العشائر على عدد من المناطق المهمة منها الصبحة وذبيان والرغيب والحوايج والطيانة وأبو حمام وغرانيج والباغوز، ونتج عنه السيطرة على معسكر تابع لـ “قسد”، بالإضافة إلى مقتل وجرح العشرات من الطرفين ومن المدنيين.

وأصدر أحد مشايخ قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل الذي تصدر المشهد في الهجومين في بيان له إن “جيش العشائر لن يترك السلاح والأرض حتى التحرير وتطهيرها من عصابات قنديل” في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني.

“قسد” التي اتهمت الحكومة السورية بالمسؤولية عن الهجوم بمحاصرة المربعين الامنين في القامشلي والحسكة التابعين للسلطات السورية، تصدت لهجوم جيش العشائر كما استقدمت تعزيزات ضخمة بمساندة طيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، مما أجبر جيش العشائر إلى الانسحاب إلى الضفة الغربية لنهر الفرات الخاضعة لسيطرة قوات النظام السوري. تلا ذلك تدخل روسي لرعاية اتفاق بين السلطات السورية وقسد قضى بفك الحصار ووقف القتال.

الأزمة مستمرة

على الرغم من السبب الظاهر للعيان في اندلاع المواجهات بين الجانبين في أيلول/ سبتمبر 2023 هو اعتقال “قسد” لقائد المجلس العسكري لدير الزور أحمد الخبيل الملقب بـ “أبو خولة” إلّا أن جذور الأزمة هي اقتصادية وسياسية أعمق من ذلك.

ففي أواخر آب/ أغسطس 2023، اعتقلت “قسد” الخبيل وعدداً من أعضاء مجلس دير الزور العسكري بعد دعوتهم لحضور اجتماع في الحسكة، لتندلع اشتباكات بين “قسد” ومقاتلين تابعين للمجلس بمساندة رجال من العشائر المحلية.

تلا ذلك شن “قسد” عمليات دهم استهدفت قبيلة العكيدات التي استنجدت بالعشائر لقتال “قسد” فاندلعت معارك عنيفة بين الجانبين اسفرت عن سقوط اكثر من 100 قتيل، لكن “قسد” تمكنت، بمساعدة من التحالف الدولي في منتصف أيلول/ سبتمبر، من حسم الأمور لصالحها وإعادة سيطرتها على المنطقة وحل مجلس دير الزور العسكري واستبداله بقوى أخرى كالاسايش والاستخبارات وغيرها.

شكلت الحادثة شرارة لاندلاع المواجهات بين الجانبين، إلّا ان الأسباب الحقيقية، كما سبق أن ذكرنا، تأتي جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية في مناطق سيطرة “قسد”، فضلاً الإدارة التسلطية للمكون الكردي الذي يسيطر على الإدارة الذاتية وقوات “قسد”، مما ساهم بتنفير العشائر العربية منها وشعور افرادها بالمظلومية من تلك الممارسات على الرغم من ان الكتلة السكانية الوازنة هي الكتلة العربية.

حوار صوري

بعد انتهاء المعارك وبضغط من التحالف الدولي، نظمت “قسد” عدة جلسات حوارية مع ناشطين من المنطقة، والتي افضت إلى وعود بالإصلاح مثل إنهاء حالة الوصاية التي يمارسها كوادر حزب “العمال الكردستاني” على المنطقة، وإنهاء العملية العسكرية، وإيقاف حملات المداهمة والاعتقال، والسماح بعودة النازحين، وإصدار عفو عام، وإعادة المنازل المستولى عليها، وتحسين معاملة الحواجز، ونشر نقاط مراقبة عسكرية وإدارة مدنية لدير الزور بعيدة عن “قسد”، وتحسين الخدمات، وتحسين سياسات الصحة والتعليم، والعمل على تنمية المنطقة، إلّا أن تلك الإصلاحات بقيت صورية.

تأثيرات إقليمية ودولية

بات الصراع بين “قسد” والعشائر يخضع لتأثير القوى الإقليمية والدولية في سورية، وبات لكل طرف مصلحة في استثمار هذا الصراع وفقا لحساباته:

فالحكومة السورية سعت لتصوير الأحداث الأخيرة في المنطقة على أنها انتفاضة ضد القوات الأميركية ذراعها في المنطقة “قسد” ذات النزعة الانفصالية، فدمشق تعتبر الوجود الأميركي غير شرعي وهو السبب الرئيسي في وجود نزعة انفصالية عند الاكراد وحرمان دمشق التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة من الموارد النفطية في المنطقة.

أما إيران فسعت للاستفادة من الأحداث تلك لزيادة نفوذها، إذ تمكنت من استغلال الحراك العشائري لتجنيد مزيد من أبناء العشائر في الشرق السوري لصالح مشروعها، مستغلة السخط على الموقف الأمريكي الداعم لـ “قسد” في وجه الحراك العشائري.

وترغب إيران في أن تسهم حالة عدم الاستقرار في تلك المنطقة بإجبار الأميركيين على إنهاء وجودهم العسكري  الذي يشكل عقبة أمام المشروع الإيراني بربط طهران بلبنان عبر العراق وسورية.

اما بالنسبة للموقف التركي فقد عبرت انقرة عن دعمها السياسي للعشائر ضد “قسد”، وحذر وزير الخارجية هاكان فيدان من استمرار اعتبار حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية كقوة شرعية، مشيراً إلى أن الانتفاضة الحالية قد تكون مجرد بداية.

بدورها حاولت الولايات المتحدة بداية الأحداث الناي بنفسها واعتبار ما يحدث مشكلة داخلية، إلّا أنه مع ازدياد حدة المعارك تدخلت لحسم الأمور لمصلحة “قسد”، خشية من تدهور الأمور في المنطقة وإتاحة الفرصة للفصائل الإيرانية بتهديد قوات التحالف هناك من جهة، كما عملت على التواصل مع وجعاء وناشطين في المنطقة لاحتواء ما حصل وتلبية مطالب الناس، رافضة الحديث عن إنشاء أي إدارة مدنية وعسكرية لدير الزور مستقلة عن “قسد”.

لا يقين

يبدو ان شمال شرق سورية سيبقى غير مستقري في قادم الأيام، وخصوصاً أنه لم تتم معالجة الأسباب الرئيسية للصراع المتعلقة بممارسات “قسد” التي تنفر العشائر العربية من خلال تحكمها بالقرار وتهميش المكون العربي ومناطقه اقتصادياً وخدمياً وسياسياً.

كما ان الأطراف المعادية لقسد كالسلطات السورية وإيران وتركيا ستعمل على استثمار الصراع من أجل الضغط على الولايات المتحدة لاتخاذ قرار الانسحاب من سورية، وخصوصاً مع احتمال وصول دونالد ترامب الى سدة الرئاسة الأميركية والحديث عن توصل العراق والولايات المتحدة الى اتفاق على انسحاب القوات الأجنبية من العراق في نهاية 2026.