سيناريوهات تفاعل القاهرة بعد الملء الخامس للسد الأثيوبي

مع قيام إثيوبيا بإنهاء عملية المليء الخامس لسد النهضة، بشكل منفرد، أضافت عملية التعبئة الخامسة نحو 23 مليار متر مكعب من المياه إلى خزان السد، الأمر الذي أدّى إلى رفع كمية المياه في الخزان إلى 64 مليار متر مكعب، تشغل مساحة 300 كيلومتر مربع.

وكانت القاهرة انسحبت من المسار الدبلوماسي، في كانون الأول/ ديسمبر الفائت، في إثر فشل كل الجهود الرامية إلى التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم لأديس أبابا، بعدم ملء خزان السد بشكل يتسبب في إلحاق ضرر بحصة مصر والسودان من المياه، وهو ما ترى فيه إثيوبيا تعدياً على سيادتها.

وبدأت أعمال بناء سد النهضة في الثاني من نيسان/ أبريل 2011 بتكلفة 4,8 مليار دولار، وهو يقع على النيل الأزرق، وتبلغ سعة خزانه 74 مليار متر مكعب، ومن المتوقع أن يولد ما يصل إلى 6 آلاف ميغاواط من الكهرباء، لكن التقديرات تشير إلى أنه سيولد 3 آلاف ميغاوات فقط، حيث تم تقليص عدد التوربينات إلى 13 توربيناً بدلاً من 16، الأمر الذي يشير إلى نيّة إثيوبيا التحكم في مياه النهر وفرض شروط على دول المصب، ربما من بينها شراء المياه.

وبحسب تقارير فنيّة متخصصة، فإنّه من المرجح أن يتسبب سد النهضة في خسائر اقتصادية هائلة لمصر، إذ من المحتمل أن يؤدي إلى تصحر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وزيادة الاعتماد على الواردات الغذائية من الخارج، مع استفحال الفقر المائي الذي باتت تعاني منه مصر بشكل ملحوظ في السنوات السابقة، الأمر الذي يعني أن خفض حصة مصر من المياه، والتي تقدر بنحو 55,5 مليار متر مكعب سنوياً، سوف تصيب المصريين بالعطش لأول مرة في تاريخهم. إذ يساهم نهر النيل بنسبة 90% من المياه العذبة في مصر، وهو ضروري لنظام الري وتوليد الطاقة.

الملء بقرار أحادي

بدأت عملية الملء الخامس لسد النهضة، بقرار أحادي من إثيوبيا، يوم 17 تمّوز/ يوليو الفائت، وانتهت في الأسبوع الأول من شهر أيلول/ سبتمبر الماضي. وكانت البوابات أُغلقت في 27 كانون الثاني/ يناير 2024، بعد إطلاق ستة مليارات متر مكعب من المياه، وانخفض منسوب الخزان بمقدار 10 أمتار، ليصل إلى 615 متراً فوق مستوى سطح البحر.

وبحسب الخبير الجيولوجي عباس شراقي، فإنّه تمّ إطلاق 6 مليارات متر مكعب لتوسيع الجدار الأوسط إلى 640 متراً حالياً، ثم إعادة تعبئته، وبذلك أصبح الخزان جاهزاً لاستيعاب 64 مليار متر مكعب ارتفاعاً، من 41 مليار متر مكعب.

كما تدفقت كميات إضافية من المياه فوق الجدار الأوسط، وبلغ معدل تدفق المياه في السد 300 مليون متر مكعب يومياً، قبل أن يرتفع تدريجياً إلى متوسط ​​600 مليون متر مكعب يومياً في آب/ أغسطس الماضي.

وبحسب الخبراء، فإن المياه التي تزيد عن سعة الخزان، لم تعد تمر بعد الآن فوق الجدار الأوسط فحسب، بل يتم رفعها، مما يتيح لأول مرة السيطرة الكاملة على عملية الملء. وسوف يتم إطلاق المياه الاحتياطية عبر بوابتين علويتين (300 مليون متر مكعب يومياً) وبوابتين سفليتين (150 مليون متر مكعب يومياً) وتوربينتين (50 مليون متر مكعب يومياً) قبل موسم الأمطار.

تأخر فيضان النيل

على الصعيد العام، بدأت مصر تعاني من الناحية البيئية، حيث أدّى انخفاض تدفق مياه نهر النيل، إلى انخفاض إجمالي كمية المياه في المجاري المائية، ممّا أثر بشكل خطير على الاستهلاك المحلي والزراعة والصناعة، وسط مؤشرات تؤكد أن ارتفاع أسعار الفاكهة والخضروات، ناتج عن انخفاض الإنتاجية الزراعية، بسبب نقص المياه، الأمر الذي يُفاقم من معاناة المصرين بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية والتضخم ونقص العملات الأجنبية.

وسوف تؤدي تأثيرات سد النهضة الإثيوبي، إلى تفاقم الضرر الناجم عن تغير المناخ في مصر، فمع نقص تدفق المياه نحو المصب، أصبح الساحل الشمالي مهدداً ​​بالغرق، بسبب ارتفاع مستوي سطح البحر المتوقع بسبب تغير المناخ، بل وأصبحت دلتا النيل التي تنتج معظم الغذاء في مصر، مهددة هي الأخرى بالغرق.

وبالإضافة إلى الخسائر التي ستلحق بالزراعة، والتسبب بارتفاع أسعار المواد الغذائية، فإن هناك مخاوف أخرى تتعلق بالتأثيرات المتوقعة على قطاع توليد الطاقة الكهرومائية، مع زيادة تكاليف مصادر الطاقة البديلة.

هذا وتسبب الملء الخامس لسد النهضة، في تأخير وصول المياه إلى السد العالي في مصر لمدة شهر، والتي بلغت 19 مليار متر مكعب، حيث كان من المفترض أن تصل المياه إلى مصر في نهاية تمّوز/ يوليو، لكنها وصلت في نهاية آب/ أغسطس)، لأنّ عملية الملء تمت خلال شهري تمّوز/ يوليو وآب/ أغسطس، بإغلاق بوابات السد، واحتواء الخزّان الآن على أكثر من 60,5 مليار متر مكعب على ارتفاع 638,25 متراً.

ومنذ الخامس من أيلول/ سبتمبر الفائت، تمّ فتح بوابتي الفيضانات العلويتين، بالتزامن مع توقف تشغيل التوربينات الأربعة المثبتة. وظل تدفق المياه إلى السد ومنه مستقراً عند 400 مليون متر مكعب يومي، الأمر الذي عطل تدفق المياه نحو دول المصب في الشمال.

سيناريوهات التفاعل مع الأزمة

من الواضح أن إثيوبيا ماضية في خططها، من دون التنسيق مع أحد، الأمر الذي قد يدفع القاهرة إلى اتخاذ ردود فعل، تترواح بين الضغط السياسي، والمواجهة الخشنة، إذ إن تأثر حصة مصر من المياه، سيكون الاختبار الأول للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه القاهرة، من أجل حماية حقوقها المائية، وفق سيناريوهات، ربما لن تخرج عن ثلاثة احتمالات:

التدخل العسكري: لوحت القاهرة مراراً باحتمال اللجوء إلى الخيار العسكري، وكان وصول القوات المصرية إلى السودان، قبل اندلاع الحرب الأهلية، نوعاً من الضغط على إثيوبيا، كما أن وجود قوات مصرية في الوقت الراهن في الصومال، يندرج أيضاً تحت مسمى الضغط العسكري، على الرغم من وجود تلك القوات ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام.

وربما يعزز وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض من احتمالات الدخل العسكري، حيث سبق وصرّح إبان فترة رئاسته الأولى، في سنة 2020، أنّ “الوضع خطير للغاية، لأن مصر لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة، وسينتهي بها الأمر إلى تفجير السد”، مضيفاً: “قلت ذلك وأقوله بصوت عالٍ وواضح، سوف يفجرون هذا السد، وعليهم أن يفعلوا شيئًا”.

وفي في آذار/ مارس الماضي، حذر وزير الري والموارد المائية المصري هاني سويلم، من أن أي ضرر قد يلحق ببلاده بسبب سد إثيوبيا، سيكون له ثمن. وقال الوزير إن “بناء سد على نهر النيل يؤثر على مصر، وبعض التأثيرات يمكن تحملها، والبعض الآخر لا يمكن تحمله، وإثيوبيا ستدفع ثمن أي تأثير على مصر يومًا ما.”

وتؤكد تقارير أنّ القضية أحيلت بالفعل إلى المؤسسة الأمنية المصرية، بما في ذلك وكالة المخابرات والقوات المسلحة، للنظر في التدابير اللازمة لمنع السد من تهديد بقاء مصر.

ويظل هذا الاحتمال مرتهناً بمدى قدرة مصر من الناحية الاقتصادية، على خوض حرب بعيدة عن نطاقها الجغرافي، في ظل توتر الأوضاع في السودان، ووجود فصيل عسكري بحجم الدعم السريع، معادٍ تماماً للقاهرة، أضف إلى ذلك طول خطوط الإمداد، وحسابات رد الفعل الإثيوبي، وكذلك التوازنات السياسية مع الدول العربية المشاركة في استثمارات السد، وعلى رأسها الإمارات العربية.

الضغط السياسي: ربما ترى القاهرة أن باب المفاوضات لا يزال مفتوحا، وأنّه من الممكن التوصل إلى صيغة قانونية تحفظ حقوق مصر المائية، وربما تدعو القاهرة إلى تدخل الاتحاد الأفريقي، أو الاستعانة بالإدارة الأميركية مرة أخرى، كما تبدو الوساطة الإماراتية حلاً جيداً في الأفق المنظور، يجنب القاهرة الدخول في صراع عسكري، يستنزف مقدراتها الاقتصادية، في وقت تحاول فيه الخروج من أزمتها الطاحنة. وهو الاحتمال الأرجح لدى دوائر صنع القرار في مصر.

البحث عن موارد مائية بديلة: تحاول القاهرة منذ فترة، بالتزامن مع ممارسة الضغط السياسي، الشروع في تنفيذ برنامج باهظ التكلفة، يتضمن بناء سلسلة من مرافق تحلية المياه، ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، وتبطين الترع والمسطحات المائية، مع ترشيد الاستهلاك لأقصى حد ممكن، من أجل مواجهة الانخفاض المتوقع في عائدات المياه من نهر النيل، وهو سيناريو لا يمكن التخلي عنه، ويعمل في خط موازي، ذلك بأن حصة مصر القانونية من المياه، لم تعد تكفي منذ سنوات.