حرب النهايات المفتوحة بين واشنطن والمليشيات العراقية

يمكن توصيف الانتقام العسكري الأميركي المتواصل على الهجوم الذي شنته ميليشيات عراقية على مركز قرب الحدود السورية مع الاردن وأسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة العشرات منهم، تعبيراً عن حالة الضيق وتوالي الصفعات الإيرانية على أيدي وكلائها في العراق، والتي هزت الصورة السائدة عن القوة الأولى في العالم.

نفوذ تحت انظار واشنطن

لم يكن تمدد طهران وتناسل أذرعها التي تجاوزت أكثر من 30 فصيلاً في العراق، إلى جانب فصائل اخرى في سورية، خلال السنوات الماضية، يعيداً عن انظار الولايات المتحدة التي غضت الطرف عن ذلك النفوذ وتجاهلت المخاوف العربية منه حتى ذاقت بشكل ملموس آثار ذلك التمدد وانعكاساته على الأرض بعد الحرب الاسرائيلية على غزة وما خلفته من تداعيات خطيرة على منطقة الشرق الأوسط، وذلك بعد دخول وكلاء طهران على خط الأزمة في محاولة لفرض واقع عسكري يتمثل بالضغط على المصالح الأميركية لدفع واشنطن إلى العمل على وقف الهجوم الاسرائيلي.

ووفق المعطيات التي سجلها بارومتر الأحداث في المنطقة فإن واشنطن وعلى الرغم مما تملكه من فائض قوة، إلا أنها لا تملك القدرة حالياً على مهاجمة الرأس وتفضل الاكتفاء بتقليم أظافر الأطراف، في مؤشر واضح على الضعف الأميركي وعدم الجرأة على كبح جماح النفوذ الإيراني المستشري في العديد من دول المنطقة، والذي يؤثر على المصالح الاقتصادية الغربية، وهو ما نراه واقعاً من خلال استهداف السفن على يد الحوثيين في منطقة باب المندب، كما ان المناوشات على الحدود اللبنانية الاسرائيلية تهدد بانفجار الاوضاع إذا ما فشلت الوساطات الدولية في ضبطها.

حرب النهايات المفتوحة

ويمكن تسمية الهجمات الاميركية على مواقع المليشيات العراقية بما يصطلح عليه “نهاية مفتوحة” وضربات عسكرية خاطفة، بعد أن تخطت الحرب حدود غزة وبات صدى الصواريخ يسمع في ارجاء المنطقة، حتى أن البواخر أصبحت عاجزة عن المرور في الممرات الدولية المائية.

وتعيش السياسة الأمريكية تناقضاً صارخاً بشأن الهجمات من قبل أذرع إيران في العراق والمنطقة، فواشنطن ما زالت تسير على ذات النمط الكلاسيكي في التعامل مع طهران، وما زالت قواعد الاشتباك التقليدية سائدة بين البلدين.

وتبدو الساحة العراقية الأكثر إحراجاً بالنسبة لواشنطن التي لا تريد تعكير صفو علاقتها مع بغداد المدفوعة بفعل غضب الفصائل المسلحة إلى إعادة صوغ العلاقة مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، فالروابط العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية بين بغداد وواشنطن محكومة بإرث ثقيل ناجم عن محاولات احزاب سياسية شيعية وأذرع مسلحة، تطويق أي نفوذ أميركي على حساب مصالح إيران، لكن الولايات المتحدة تلوذ بالاتفاقية الأمنية الاستراتيجية التي تتيح تواجداً عسكرياً تحت عناوين مختلفة.

هجمات أغضبت بغداد

جاءت الهجمات الاميركية على قيادات ومواقع فصائل تنتمي للحشد الشعبي في قلب بغداد وفي غرب العراق والتي أودت بحياة قيادات نافذة في الحشد، واوقعت عشرات القتلى والجرحى، لتعزز وجهة نظر أطراف الإطار التنسيقي (تجمع سياسي يضم قوى حليفة لإيران) الرافض للوجود الأميركي، ولا سيما أن الإطار يرسم صورة قاتمة لشكل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة ويعقّد مسألة التعاون الأمني والعسكري بينهما، وخصوصاً في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كما أن تلك القوى تضغط على حكومة محمد شياع السوداني منذ أن تولى منصبه لإجلاء المستشارين العسكريين الأميركيين من القواعد العسكرية العراقية، وهو موقف انسجم مع ما عبرت عنه رئاسة الجمهورية وأحزاب تشكل الخارطة السياسية العراقية.

وتريد الفصائل المسلحة العراقية احتكار قرار الحرب والسلم، فضلاً عن تعبئة الراي العام العراقي، أو أجزاء منه برفض الوجود الأميركي في البلد، على الرغم من أن واشنطن بنفسها حريصة كل الحرص على عدم إرباك الوضع الداخلي وإحراج حكومة السوداني، فتأخير الهجوم الأميركي لمدة أسبوع تقريباً، كان يهدف إلى السماح لإيران بتجنب صراع أوسع.

ومنحت السياسة الأمريكية في العراق، والتي يغلب عليها الطابع المتردد، الفصائل العراقية المسلحة فرص واسعة للتوغل في الساحة السياسية والقطاع الأمني والهيمنة على الاقتصاد والقطاع المالي والمصرفي الذي يواجه هو الأخر هجمات أميركية عبر وضع المصارف العراقية الخاصة على اللوائح السوداء والعقوبات على وقع تورطها بتهريب الدولار إلى إيران.

ويدرك كثر بأن الميليشيات المسلحة تشكل أبرز تهديد على تماسك العراق وأمنه منذ ظهور تنظيم “داعش”، لكن واشنطن، وبخلاف الاستراتيجية ضد “داعش”، لا تملك استراتيجية واضحة المعالم ومتماسكة وقوية ضد الميليشيات التي تزداد قوة ونفوذ في العراق.

أبعاد الهجمات الاميركية

1 – سيرتبط استمرار الهجمات الأميركية على قيادات ومواقع الفصائل المسلحة في العراق بمدى التزام تلك الفصائل باستعادة الردع الأميركي أولاً، وعدم قصف المصالح الأميركية والقواعد العسكرية ثانياً، فواشنطن مستعدة لتكرار الهجمات كما هو الحال في اليمن في حال تعرضها لهجمات مسلحة.

2 – تمثل الهجمات الأميركية تحولاً تكتيكياً أكثر من كونها استراتيجيا تسهم بتغيير الموازين في المنطقة.

3 – تحمل الهجمات الأميركية رسالة تحذير إلى إيران بأن أذرعها باتت عرضه للهجمات ودخلت ضمن نطاق الردع الأميركي.

4 – تدلل ردود الفعل الرسمية على الهجمات الأميركية مدى سيطرة الفصائل على صنع القرار في العراق من خلال ما صدر من مواقف رسمية وضعت العلاقة الاستراتيجية مع أميركا على المحك .

5 – أدت الهجمات وتداعياتها، إلى إثبات أن فعالية الوجود الأميركي تتضاءل في العراق مقارنة بالتأثير الإيراني، لكن الانسحاب الأميركي من العراق من شأنه أن يزيد خطر عدم الاستقرار.