تغيرات المناخ تهدد الواقع الزراعي في شرق المتوسط
شهدت منطقة شرق المتوسط تغيرات مناخية ملحوظة خلال السنوات القليلة الماضية، تمثلت في ارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها المعهودة، وتقلبات حادة في الطقس، مع نقصٍ في كميات الأمطار، وزيادة تواتر موجات الجفاف.
هذه التغيرات المناخية وغيرها كان لها تأثير مباشر على الأنشطة الزراعية في المنطقة، والتي تعتمد بشكل كبير على الأمطار الموسمية ودرجات الحرارة المعتدلة.
ووفقاً لتقارير مناخية متعددة، انخفض متوسط الهطول المطري في بلدان مثل سورية ولبنان وفلسطين والأردن بنسب تتراوح بين 10-20% في بعض السنوات، في حين ارتفعت درجات الحرارة بمقدار يتراوح بين 1-2 درجة مئوية مقارنة بما كان عليه الوضع قبل عقدين. هذه التغيرات أدت إلى تراجع ملحوظ في الإنتاج الزراعي.
التغيرات التي طرأت
تمثلت التغيرات المناخية التي طرأت على المنطقة بنقص الموارد المائية والهطولات المطرية وارتفاع درجات الحرارة.
ويقول المهندس الزراعي حسان أبو اسماعيل لموقع “التقرير العربي” أنه لاحظ فقدان نحو ثلث كميات الهطولات المطرية في الجنوب السوري خلال العشر سنوات الأخيرة من خلال متابعته لقياس معدل الأمطار، حيث سجل متوسط المعدل 170 ملم في الأعوام القليلة الماضية، بعدما كان المتوسط يعادل نحو 270 ملم منذ أن بدأ بالقياس في ثمانينيات القرن المنصرم.
أما عن درجات الحرارة، فيؤكد أبو اسماعيل ارتفاعها عن معدلها، مبرهناً ذلك بأن ثماراً كالزيتون والتين لم يكن إنتاجها ممكناً في منطقته التي ترتفع نحو 1400متر عن سطح البحر بسبب تدني درجات الحرارة في بلدته مَلَح جنوب السويداء في سورية، إلا أن مزارعين كثر تمكنوا من إنتاجها مؤخراً.
المزارع تمام مسعود الذي يعتمد على الزراعة البعلية، صرح لـ “التقرير العربي” بأن محاصيله من القمح والشعير صارت أقل إنتاجاً بشكل ملحوظ، وأنه لاحظ تغيّراً واضحاً في مواعيد وكميات الأمطار في منطقة اللجاة التي يقطن ويزرع فيها، حيث “بات الموسم المطري يبدأ متأخراً عن موعده المعهود وينتهي متأخراً”، إلى جانب اختفاء الوديان التي كانت تمر من منطقته. وعلى الرغم من “الإنتاجية البعلية العالية” لمنطقته على حد تعبيره، إلا أن متوسط إنتاج الدونم الواحد من الشعير انخفض من نحو 100 كغ إلى نحو 50 كغ، وبيّن أنه لم يشهد إنتاجاً مقبولاً في زراعته منذ سنة 2018.
وأضاف: “اعتدنا على استقبال أولى الهطولات المطرية مع انقضاء شهر أيلول/ سبتمبر، وآخرها عادة ما يأتي في نهاية نيسان/ أبريل إلا أن هذا النظام اختل في السنوات الأخيرة؛ ففي بعض الأحيان يتأخر الهطول حتى مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر، وكذلك انقضاء الموسم، فبات يستمر حتى نهاية شهر أيار/ مايو في آخر ست سنوات.”
وأدى ارتفاع درجات الحرارة إلى تغييرات في الإنتاجية الزراعية للمنطقة، حيث أصبحت المحاصيل التي كانت تزرع في مواسم معينة غير قادرة على التأقلم مع الظروف المناخية الجديدة، اذ أصبحت بعض المحاصيل مثل الزيتون والحمضيات تواجه مشاكل في النمو الطبيعي، مع انخفاض واضح في كميات الإنتاج وجودة المحصول. كما ظهرت زراعات هجينة عن المنطقة ذات المناخ المتوسطي كزراعة الموز مثلاً.
كذلك فإن انخفاض معدل الهطولات المطرية وزيادة فترات الجفاف في منطقة شرق البحر المتوسط، أثرا بشكل مباشر على المحاصيل الأساسية مثل القمح والزيتون والفواكه. المزارعون الذين يعتمدون على الزراعة المطرية واجهوا صعوبة كبيرة في تحقيق إنتاج مستدام، حيث أصبحت مواسم الجفاف الطويلة تحدياً كبيراً للزراعة التقليدية.
التأثير على المزارعين
مع ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة، زادت الآفات الزراعية بشكل ملحوظ، فظهرت أنواع جديدة من الحشرات والأمراض التي تهدد المحاصيل. هذه الآفات أثرت بشكل خاص على الأشجار المثمرة والخضروات، مما دفع المزارعين إلى اللجوء لاستخدام المزيد من المبيدات، وهو ما زاد من التكاليف وأضر بالتوازن البيئي.
ومنها حشرة توتا ابسلوتا (Tuta absoluta) التي تعرف علمياً باسم حفار أوراق الطماطم، وهي حشرة تظهر في المناطق الاستوائية كأميركا الجنوبية. وتشرح المزارعة اللبنانية رشا العريضي لـ “التقرير العربي” عن خسائرها في ثمار الطماطم بسبب هذه الآفة، معربة عن استغرابها عند اكتشاف الآفة بقولها إن “ظهورها منذ 6 سنوات كان غير مألوف”، حين بدأت تجد ثماراً نضرة من الخارج لكنها تالفة من الداخل بسبب الحشرة، ثم تطور الأمر لظهور ثقوب سوداء في قشرة الثمرة، وفي بعض الأحيان تشاهد الحشرة من خلال الثقوب.
ويدل ظهور هذه الآفة على ارتفاع معدل درجات الحرارة في المنطقة لا سيما أن الموطن الأصلي لها هو البيرو، لكن منظمة كابي (cabi) المعنية بالحماية الحيوية للنبات أشارت في تقرير لها عن ظهور الابسلوتا شرقي المتوسط.
وأضافت العريضي أن قلة الثلوج وتواتر مواعيد الهطول في مرتفعات لبنان ساهمت بكثرة الآفات وانتشار الفئران المضرة بالمحاصيل أيضاً، وأن محاصيل من الحمضيات قد لوحظ فيها نوع من الديدان “مع أن الحمضيات أقل عرضة لهجمات الديدان.”
ويبدو جلياً التأثير السلبي لعوامل المناخ على الزراعة، ومع ازدياد الآفات وتراجع الإنتاجية يكبر التحدي في استدامة الزراعة من خلال اعتمادها كمدخول ثابت لشريحة كبيرة من سكان المنطقة، وتشكل وسائل الري الحديثة تحدياً أكبر للمزارعين الذين يعتمدون موارد الري الطبيعية، إلى جانب ارتفاع الحاجة للمبيدات الحشرية ما يهدد الزراعة بارتفاع تكاليفها، وبالتالي ارتفاع أسعار الخضار والفاكهة عالمياً.
التأقلم والهجرة
العديد من المزارعين، وخصوصاً الصغار منهم، لم يعودوا قادرين على مواجهة هذه الظروف، الأمر الذي دفع بعضهم إلى هجرة القرى إلى المدن بحثاً عن فرص عمل أخرى. وهذا النزوح الريفي أدى إلى تراجع الاعتماد على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل في بعض المناطق.
وعلى الرغم من التحديات، هناك بعض المحاولات من قبل المزارعين للتكيف مع الظروف المناخية المتغيرة، مثل استخدام تقنيات الري الحديثة لمن استطاع أو زراعة محاصيل مقاومة للجفاف أو أكثر تأقلماً. ومع ذلك، فإن هذه الحلول لا تزال مكلفة وتحتاج إلى دعم حكومي أو دولي لتكون قابلة للتطبيق على نطاق واسع.
المطلوب استراتيجيات فعّالة
إذا استمرت هذه التغيرات المناخية بنفس الوتيرة، فمن المتوقع أن يزداد الضغط على القطاع الزراعي في منطقة شرق المتوسط، وستواجه المحاصيل التقليدية تحديات أكبر، وقد يصبح الاعتماد على الزراعة المروية باستخدام التقنيات الحديثة أمراً لا مفر منه. بالإضافة إلى ذلك، قد تتزايد الحاجة إلى استيراد المواد الغذائية لتلبية الطلب المحلي، مما يرفع من مستوى الاعتماد على الأسواق الخارجية ويزيد من الضغط على اقتصاد الزراعات المحلية.
إن الخروج من التهديدات التي تواجه الواقع الزراعي يتطلب تطوير استراتيجيات فعالة لإدارة الموارد المائية لتقليل الاعتماد على المواسم المطرية، ومواجهة الآفات بالطرق المناسبة، بالإضافة لتوجه الحكومات لدعم المزارعين مالياً وتقنياً لتخفيف أعبائهم وتشجيعهم على تبني تقنيات زراعة مستدامة ومساعدتهم في التكيف مع التغيرات المناخية.