تضعضع الممانعة ينعش فكرة الانفصال الشيعي في العراق

عندما أطلق الزعيم الشيعي الراحل عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، في 2004 فكرته بدعم تقسيم العراق إلى أقاليم تبعاً للنظام الفدرالي المعمول به في العديد من دول العالم، جوبه برفض شيعي وسخط سني كان أقرب إلى الهيجان بعد تعرضهم إلى صدمة فقدان السلطة لمصلحة الشيعة بعد الغزو الاميركي في 2003 وسقوط نظام صدام حسين.

كان مستغرباً وقتذاك مطالبة أحد أبرز القوى الشيعية الاسلامية لمبدأ الفدرالية في وقت منح فيه الأميركيون مقاليد الحكم للشيعة على طبق من ذهب، والذيين نالوا ثقة الراعي الأميركي الذي قدم لهم كل ما يمكن من أجل تحقيق حلمهم بإدارة دفة العراق وفق رؤيتهم الخاصة، سواء بالاستئثار تارة أو بإشراك المكونات الأخرى، تارة أُخرى.

من رفض الفدرالية إلى تبنيها

لم تكن فكرة الأقاليم، أو الإقليم الشيعي بعد سقوط نظام صدام حسين، مهضومة لدى معظم الساسة العراقيين باستثناء أكراد العراق الذين كان لديهم إقليماً خاصاً بهم من قبل سنة 2003، ولا سيما أن الوضع الإقليمي كان يميل لمصلحة إيران التي بدأت بمد نفوذها وبسط سيطرتها وتعزيز قبضتها على أكثر من عاصمة عربية، من دون أن تكتفي بجيب جغرافي أو كانتون مذهبي هنا أو هناك. كما أن البوصلة الأميركية خصوصاً ومعها الغرببة عموماً، لم تكونا تتعارضان مع الرغبة الشيعية في منحهم الفرصة للقيادة والنهوض سياسياً في المنطقة وصناعة توازن قوى مع الأغلبية السنية، وخصوصاً ان “السنة فوبيا” باتت عقب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وتورط متطرفين سنة فيها، تخيف دوائر صنع القرار الغربي.

ومع تضعضع محور”الممانعة” بعد الضربات الموجعة لحركة “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان وسقوط نظام بشار الأسد في سورية، أصبح العراق حائط الصد الأخير لإيران، وهذا ما دفع ببعض الساسة، ومنهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وكثير من الإعلاميين الشيعة، إلى معاودة طرح فكرة الإقليم الشيعي، بل البعض وصل إلى حد طرح فكرة الاستقلال والانفصال الشيعي وتجزئة العراق، إذ على الرغم من أن تلك الطروحات لا تبدو قابلة للتحقق لكنها أصبحت جزءاً من التفكير السياسي الشيعي، وسط تعقيدات المشهد السياسي والاقتصادي في العراق.

العدوى الكردية تصيب الشيعية السياسية

نصت المادة 119 الدستور العراقي لسنة 2005 على إمكانية إنشاء الأقاليم، علماً بأن إقليم كردستان العراق كان إقليماً بحكم الأمر الواقع وبات مكرساً بالدستور الجديد أيضاً، فيما بقيت بقية المحافظات ضمن الإدارة المركزية، على الرغم من أن بعض المحافظات مثل البصرة أو ديالى أطلقت دعوات  لإنشاء أقاليم لكنها لم تتحقق.

كما أن أكراد العراق لجأوا في 25 أيلول/ سبتمبر 2017 إلى الاستفتاء على الانفصال عن العراق، وقد أظهرت النتائج التمهيدية للاستفتاء في حينه، أن 92% من المشاركين صوتوا لمصلحة الاستقلال، وبنسبة مشاركة بلغت 72%، لكن هذه الورقة بقيت من دون تفعيل على وقع الاعتراضات الدولية والداخلية، وجعلت الأمر يبدو معنوياً أكثر من كونه حقيقياً.

وباتت دوافع بعض القوى الشيعية في تعبئة الرأي العام لمبدأ الانفصال الشيعي ناجمة عن التغيرات الدراماتيكية في منطقة الشرق الأوسط واستمرار الأزمات السياسية بين الكتل الشيعية نفسها من جهة، ومع القوى السنية والكردية من جهة أخرى، وذلك بما يتيح للقوى السياسية الشيعية إدارة شؤونها بعيداً عن الصراعات المركزية.

كما أن تفشي الفساد وسوء الإدارة وضعف الخدمات في الجنوب، قد يجعل لمثل هذه الدعوات صدى إيجابياً لمنح المحافظات الجنوبية المزيد من الصلاحيات لإدارة مواردها خاصة مع امتلاكها ثروة نفطية ضخمة.

كما أسهم نجاح تجربة إقليم كردستان في تحقيق نوع من الاستقرار النسبي مقارنة ببقية العراق بجعل بعض القوى الشيعية ترى في الفيدرالية نموذجاً يمكن استنساخه في الجنوب.

تحديات تعوق الانفصال الشيعي

لكن على الرغم من بروز فكرة الفدرالية في الوسط الشيعي، بل فكرة الانفصال الكامل عن العراق، إلا أن ثمّة الكثير من المعوقات التي لا تزال تمنع تحول الفكرة إلى واقع، ومنها:

1 – الانقسام الشيعي الداخلي: هناك خلافات عميقة بين القوى الشيعية بشأن جدوى إنشاء إقليم خاص بالشيعة الذي ترفضه بعض الأحزاب التي تستفيد من بقاء السلطة في بغداد، بينما تدعمه جهات أخرى ترى فيه فرصة لتوسيع نفوذها.

2 – الموقف الرسمي للحكومة العراقية: السلطة المركزية في بغداد ترفض تقسيم البلد خوفاً من نشوء نزاعات جديدة تؤدي إلى تفكيك الدولة التي يسيطر على حكمها الشيعة، من دون ضمان تأسيس إقليماً شيعياً قوياً.

3 – المخاوف من العزلة الاقتصادية: على الرغم من الثروة النفطية، فإن محافظات الجنوب تعتمد على بنية تحتية وطنية، وأي إنفصال إداري قد يؤدي إلى تعقيدات اقتصادية في إدارة الموارد وتوزيعها.

4 – التداعيات الأمنية: يمكن أن يؤدي إنشاء إقليم شيعي إلى تصعيد التوترات الطائفية، وخصوصاً مع وجود مخاوف من ردة فعل المحافظات السنية التي قد تسعى بدورها لإنشاء أقاليم خاصة بها.

5 – الموقف الإقليمي والدولي: دول الجوار، وخصوصاً إيران، قد يكون لها موقف متباين تجاه هذه الفكرة، إذ إن بعض القوى الإيرانية قد ترى في الإقليم فرصة لتعزيز نفوذها، بينما تخشى أخرى من أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات تؤثر على أمن إيران القومي، وتعزيز موقف بعض الانفصاليين في إيران نفسها.

طرح الفكرة تطور بحد ذاته

مع أن فكرة الإقليم، أو الدولة الشيعية المستقلة، لا تزال في مهدها، فإن استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية والتغييرات الشاملة في الشرق الأوسط، قد تجعلها تأخذ حيزاً أكبر في تفكير الأوساط الشيعية، على الرغم من أن تحديات كبرى قد تمنعها من التحقق على أرض الواقع في المستقبل القريب.