اندثار إبداعات دمشق الثقافية التي أغنت العالم
شكلت إبداعات الدمشقيين علامة فارقة في دمشق القديمة، حيث كانت تحول شوارعها العتيقة متحفاً، كما شكلت مورداً اقتصادياً، عبر تصدير المنتجات الثقافية واقتنائها من قبل الكثير من المشاهير والمتاحف في العالم.
هذه الصناعات الإبداعية أحلات المواد الأولية كالخشب والصدف إلى قطع فنية جميلة ومتقنة صنعت بأيد ماهرة تتحلى بالصبر والذوق الفني الرفيع.
لكن هذه الصناعات الإبداعية كانت، مثل غيرها، ضحية الحرب وتداعياتها والتي لم يسلم منها البشر والحجر، وأدت إلى تدهور تلك الصناعات حتى وصل الكثير منها إلى حافة الاندثار، على الرغم من سعي البعض إلى المحافظة على تلك الإبداعات
موطن الحرف
تعتبر دمشق القديمة موطناً للعديد من الحرف الإبداعية في العالم، حيث يزيد عمر بعضها عن آلاف السنين، فالبروكار الذي ينسج من خيوط الحرير الطبيعي المستخلصة من شرانق دودة القز تضاف إليه الخيوط الذهبية والفضية، هي أحد أعرق الصناعات الدمشقية وارقاها، اقتناه باباوات الفاتيكان، والملكة الراحلة اليزابيث الثانية الذي ارتدت فستان زفافها المصنوع منه بيد عامل سوري.
تنوعت الصناعات الإبداعية، فكانت: صناعة الصدف التي انتجت أجمل الأثاث والتحف لتزين البيوت والقصور الفارهة؛ العجمي أو ما يعرف بفن القاعة الدمشقية، إذ تجد قاعات ذات أسقف وجدران خشبية مزخرفة وموشحة غاية في الجمال والأناقة اقتنتها كبرى المتاحف في العالم؛ تطعيم الزجاج والمعادن أو ما تعرف اختصاراً بـ “المينا”، ويعتبر من أعرق الصناعات الدمشقية الإبداعية وأكثرها نخبوية، وتعود جذور تلك الصناعة إلى الفينيقيين؛ نفخ الزجاج المهنة الذي تفردت به دمشق القديمة وكانت الأقدم في العالم، والزجاج المعشق الذي زين الجوامع والكنائس القديمة؛ القيشاني والموزاييك والحفر على النحاس وصناعة الآلات الموسيقية الشرقية والسيف الدمشقي والخنجر الدمشقي وغيرها.
مخاوف من الاندثار
تأثرت الحرف الإبداعية الدمشقية بشكل كبير بما جرى ويجري في سورية، واقترب بعضها من الاندثار بسبب الأزمة التي تسببت بغياب السياح العرب والأجانب، وارتفاع أسعار المواد بشكل جنوني، جراء العقوبات الاقتصادية، وهجرة العمالة، وضعف القدرة الشرائية للسوريين، وخصوصاً أن المنتجات الحرفية الثقافية الدمشقية باهظة الثمن.
فمعظم المنتجات الحرفية الإبداعية الدمشقية كانت تعتمد على السياح، وهذا أدى إلى تأثر توقف حرف منها صناعة البروكار، بسبب غلاء أسعارها، والتي يتراوح سعر المتر بين 50 وإلى 150 دولاراً، فيما يتجاوز سعر كرسي الصدف الفاخر 4 الاف دولار، وليس بمقدور السوريين في الأزمة اقتنائها وأصبحت كماليات الكماليات.
وكانت سورية شهدت ازدهاراً كبيراً في القطاع السياحي قبل الأزمة، حيث وصل عدد السياح في سنة 2010 إلى أكثر من 8,5 ملايين سنوياً، أما في سنة 2023، فقد أعلنت الحكومة مؤخرا أن أكثر من مليوني سائح دخلوا إلى سورية معظمهم من العراقيين واللبنانيين والإيرانيين، وجلهم يندرجون ضمن السياحة الدينية مع غياب شبه كامل للسياح من الدول الغربية ودول الخليج.
كما إن هجرة السوريين، وخصوصاً العمالة الماهرة في الاقتصاد الإبداعي خوفا من الحرب وتداعياتها، ساهم في اغلاق المئات من الورش المنتشرة في البلاد.
غياب الإحصاءات
لا توجد أرقام رسمية صادرة عن الحكومة بشأن الاقتصاد الإبداعي وماهيته تظهر حجم هذا الاقتصاد ومساهمته بالناتج المحلي، وما هو عدد الورش العاملة في مفرداته المختلفة.
لكن من خلال استطلاع آراء أصحاب هذه الحرف التقليدية، يُتبين أن معظمها وصل إلى حافة الاندثار، فلم يبق إلا نول واحد في دمشق أو نولين لصنع البروكار، في حين كانت بعض المحلات تحوي عشرات الأنوال قبل الأزمة؛ وتقلص عدد ورش النقش والحفر على النحاس إلى 4 فقط، بعد أن كانت قبل الأزمة تزيد على 200 ورشة؛ وبقي معمل واحد يشتغل بشكل متقطع في مجال نفخ الزجاج؛ وورش قليلة جداً تعمل في صناعة القيشاني، وهذا ينطبق على باقي المهن.
مبادرات أهلية
يحاول المجتمع الأهلي انقاذ ما يمكن إنقاذه من تلك الحرف والمهن التراثية باعتبارها جزءاً ملتصقاً بهوية دمشق الحضارية والثقافية، وهذا ما يظهر جلياً في وجود جمعيات مثل جميعة الصخرة، ومبادرات فردية لتعليم الشباب هذه الحرف الفنية الرائعة بأسعار رمزية، ويهدف أصحاب تلك المبادرات إلى بث الروح من جديد في العديد من المهن التي شارفت على الاندثار.
ويرى بعض العاملين في هذا المجال بأنه للحفاظ على هذه المهن من الاندثار، لابد من أدراجها كمواد نظرية في مناهج المدارس، وأن تدرس في الكليات الجامعية مع فتح باب التسهيلات المالية للحرفيين في هذا المجال.
الاقتصاد الإبداعي
وفقا للتقارير الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) ، يعتبر الاقتصاد الإبداعي من أسرع القطاعات نمواً عالمياً، إذ يساهم بنسبة تقارب 3% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، كما أن هذا النوع من الاقتصاد يتميز بقدرته على خلق وظائف متنوعة تتناسب مع احتياجات الشباب ومتطلباتهم، بما يعزز من استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي.
في الحالة السورية ومع الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد جراء العقوبات وخروج المرافق النفطية عن سيطرة الدولة، يمكن للاقتصاد الإبداعي أن يسهم في ايجاد شريان للتنمية يحد من بطالة الشباب ويسهم في خلق موارد جديدة، وهذا يتطلب منها تقديم الكثير من التسهيلات كتوفير حوامل الطاقة، وتقديم إجراءات محفزة لنمو هذا النوع من الاقتصاد.