الانسحاب الأميركي من سورية وملء الفراغ
شكل الإعلان الأميركي عن بدء سحب القوات الأميركية من سورية حدثاً بالغ الأهمية في هذا البلد وفي المنطقة، وطرح الكثير من التساؤلات عن تأثيره على قوات سورية الديمقراطية والمكون الكردي والحكومة الجديدة وعلى سورية عموماً، وعن احتمالات أن تقوم قوى إقليمية ودولية بملء الفراغ الناجم عن هذا الانسحاب، وعمّا إذا كان الانسحاب سيؤدي إلى الاستقرار في سورية؟
الإعلان عن الانسحاب
أعلن مسؤولون أميركيون في 16 نيسان/ أبريل عن خطط لسحب 600 جندي أميركي من أصل 2000 جندي متواجدين في سورية، لافتين إلى أن ستعمل الإدارة الأميركية على تقييم تأثيرات انسحاب القوات لتقليصها مرة أخرى إلى نحو 500 جندي. ويشمل هذا الانسحاب إغلاق 3 من 8 قواعد صغيرة في شمال شرق سورية.
الانسحاب الأميركي يأتي في إطار تخفيف الانخراط في صراعات الشرق الأوسط، إذ تعمل واشنطن على ترتيب أولوياتها لمواجهة الصعود الصيني، وخصوصاً مع ارتفاع التوترات في بحر الصين الجنوبي ودخول كلا من الصين وأميركا في حرب اقتصادية.
وكانت الولايات المتحدة رفعت عديد قواتها إلى 2000 جندي بعد زيادة الهجمات على القواعد الأميركية التي كانت تنفذها الفصائل الإيرانية، وذلك بعد بدء طوفان الأقصى في غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتصاعد هجمات تنظيم داعش.
ويُذكر أن الولايات المتحدة تدخلت عسكريا في سورية في أيلول/ سبتمب 2024، بدعوى محاربة داعش، وفد عمدت إلى دعم “قسد” في 2015، باعتبارها حليفة موثوقة في محاربة التنظيم الإرهابي.
وكان ترامب أعلن في فترة رئاسته الأولى عن قرار لسحب جنوده من سورية في كانون الثاني/ يناير 2019، عقب هزيمة تنظيم داعش، إلا أنه تم التراجع عن القرار بذريعة بقاء المخاطر في المنطقة قائمة.
وربطت الإدارة الأميركية وجود قواتها في سورية بثلاث قضايا هي: الحرب على تنظيم داعش، والوجود الإيراني في سورية، وتحقيق انتقال سياسي في البلد.
مخاوف قسد
يثير القرار الأميركي مخاوف قسد، وخصوصاً أن الوضع في البلاد لا يزال هشاً، فضلاً عدم موافقتها على الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها حكومة دمشق الانتقالية.
وتعتبر قسد أن داعش ينتظر فرصة الانسحاب الأميركي لإعادة النشاط والوصول إلى الوضع الذي كان قائماً في سنة 2014، وهذا سيؤثر على الاستقرار في مناطق سيطرة قسد.
كما تعتبر الانسحاب الأميركي فرصة لتركيا للتحرك ضدها عسكرياً ، والتي تعتبر الأخيرة التنظيم امتداداً لحزب العمال الكردستاني وتصفه بـ “الإرهابي”.
كما ترى قسد أي انسحاب أميركي كامل من سورية، قد يُفسح المجال أمام الحكومة السورية، المدعومة تركياً، لبسط سيطرتها على كامل التراب السوري، ما يعني “إضعاف موقف “قسد” في المفاوضات وتنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل اليه بين الشرع ومظلوم عبدي.
تركيا وملء الفراغ
تعتبر تركيا أبرز الجهات الفاعلة القادرة على ملء الفراغ الذي يتركه الانسحاب الأميركي في سورية، إذ ستعمل على استغلال هذه الفرصة الاستراتيجية لتعزيز نفوذها في البلد، من خلال العمل على طرد المقاتلين الاكراد وحصرهم بشكل كبير في منطقة شرق الفرات.
إن ملء الفراغ من قبل تركيا سيعزز من نفوذها في دمشق، وهي التي تعمل حالياً على الاستثمار بكثافة في قطاعات الطاقة والنقل والدفاع التابعة للحكومة الجديدة، بهدف المساهمة في تشكيل إعادة إعمار سورية والنظام السياسي المستقبلي.
معارضة إسرائيلية
تعارض إسرائيل خطط الولايات المتحدة للانسحاب من سورية لحشيتها من زيادة النفوذ التركي الذي من شأنه أن يحد من قدرتها العملياتية في سورية.
لقد حاول اللوبي اليهودي والحكومة الإسرائيلية اقناع واشنطن بعدم الانسحاب من سورية، إلا أن تقارير إعلامية تشير إلى أن المحاولات الإسرائيلية فشلت.
لقد أدى سقوط نظام الأسد والزلزال الاستراتيجي الناجم عنه بإثارة مخاوف إسرائيل باستبدال النفوذ الإيراني في سورية بالنفوذ التركي، والتي عملت على تدمير العديد من القواعد العسكرية التي كانت تعتزم تركيا التواجد بها.
عودة إيران
قد تسعى إيران لملء الفراغ جراء الانسحاب الأميركي بهدف ضبط ميزان القوى الإقليمي، وخصوصاً بعد خسارتها الاستراتيجية بخروجها في سورية جراء سقوط نظام الأسد.
لقد أدى سقوط الأسد الى تقويض البنية التحتية العسكرية بإيران في المنطقة والتي كانت تعتبرها جزءاً من استراتيجيتها في صراعها مع إسرائيل من جهة، ولتحقيق مكانة إقليمية من جهة ثانية، لذلك فان طهران تسعى لاستعادة نفوذها في المنطقة.
وأحد السيناريوهات المحتملة لعودة إيران الى سورية هو إمكانية إقامة علاقات بين طهران وقسد التي قد تلجأ للبحث عن شراكات بديلة لحماية نفسها من الأعمال العدائية التركية.
النفوذ الروسي
أضعف سقوط النظام نفوذ روسيا في صنع القرار الإقليمي، والتي قد تجد الانسحاب الأميركي فرصة لتعزيز وجودها وإبراز قوتها وتعزيز نفوذها في سورية.
وتعتبر موسكو أن سورية تشكل نقطة محورية في استراتيجيتها لبسط نفوذها في منطقة البحر المتوسط، لذلك عملت موسكو على فتح قنوات للتواصل مع الإدارة السورية الجديدة بهدف المحافظة على وجودها في قواعدها العسكرية في سورية، وذلك لمواجهة تحدي هيمنة الناتو.
لذلك ترى موسكو في الانسحاب الأميركي فرصة محتملة لاستعادة حضورها الإقليمي، من خلال التفاعل مع مختلف الجهات الفاعلة في سورية، وخصوصاً قسد.
ماذا بعد الانسحاب؟
جملة من السيناريوهات التي قد تحدث جراء الانسحاب العسكري الأميركي من سورية، والذي يتوقع أن يكتمل العالم المقبل.
السيناريو الأول: في حال كان الانسحاب من دون تنسيق وضمانات من ومع القوى الفاعلة، قد تنجر سورية إلى فوضى شاملة، حيث تتصارع القوى المحلية والإقليمية على النفوذ، فيما سيفقد المكون الكردي معظم مكاسبه.
السيناريو الثاني: قد يؤدي الانسحاب الأميركي إلى تقاسم النفوذ بين القوى الإقليمية، وخصوصاً بين تركيا وإسرائيل، وهذا من شأنه أن يساهم باستقرار نسبي، لكن على حساب وحدة سورية وسيادتها.
السيناريو الثالث: قد تتدخل القوى الدولية، مثل روسيا والاتحاد الأوروبي، لترتيب انسحاب أميركي منظم وضمان استقرار مؤقت، وهذا السيناريو يتطلب تعاوناً دولياً وإقليمياً، وهو أقل احتمالاً بسبب التعقيدات السياسية.
إن انسحاب القوات الأميركية من سورية، من دون ترتيبات داخلية وإقليمية ودولية، سيمثل خطوة خطيرة قد تؤدي الى صراعات مفتوحة في المنطقة، لذلك فإن الحل الأمثل يكمن في تحقيق تسوية شاملة تضمن استقرار سورية وتوازن المصالح الإقليمية والدولية، لكن هذا يتطلب إرادة سياسية قوية من جميع الأطراف المعنية.