أولويات مصر في ولاية ترامب الثانية
تبدو عودة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مفارقة سياسية تحمل عدة تداعيات على دول الشرق الأوسط، سواء على صعيد حلفاء واشنطن التقليديين، أو “محور الممانعة”. وتبدو مصر في مقدمة الدول التي عليها أن تستقبل فوز ترامب وفق حسابات معقدة، بشيء من التمهل وترتيب الأولويات السياسية، وفق جملة من المعطيات التي رسمتها حقبة الرئيس الديموقراطي جو بايدن.
حقبة بايدن
تميزت حقبة بايدن بالانسحاب التدريجي من أزمات الشرق الأوسط، لكنّها في المقابل منحت إسرائيل الحد الأقصى من الانفلات العسكري والسياسي، على الرغم من عدم رضا الإدارة الأميركية عن سياسات نيتنياهو الداخلية، ولاسيما قانون الإصلاح القضائي، لكنّ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أظهرت تراخ أميركي غير مسبوق، على مدار الصراع العربي الإسرائيلي، في كبح جماح آلة الحرب الإسرائيلية، بما في ذلك انتهاك الاتفاقيات ذات الصلة مع مصر، وخصوصاً ما يتعلق بالمعابر الحدودية، ونقاط الاحتكاك المباشر.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من التوقعات المتفائلة لجماعة الإخوان المسلمين، بوصول الإدارة الديموقراطية إلى الحكم، وهو ما صرّح به القائم بأعمال المرشد العام الراحل، إبراهيم منير، بعد أن كان أعضاء بارزين في إدارة ترامب، برئاسة وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو، حاولوا تمرير مشروع قانون لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية. لكن تقدير الجماعة لم يكن صائباً، إذ تفاجأت بفتور إدارة بايدن تجاه ملف الإسلام السياسي بشكل عام، ولم تحظ الجماعة بالرعاية الأميركية المتوقعة، الأمر الذي سبب ارتياحاً في القاهرة.
لم يتوقف الأمر عند ملف الجماعة، فلأمر نفسه تكرر فيما يتعلق بالملف الحقوقي، إذ على الرغم من تلويح الإدارة الديموقراطية بضرورة احترام القاهرة للحريات وحقوق الإنسان كشرط للإفراج عن جزء من المساعدات السنوية، إلّا أنّ واشنطن قررت في أيلول/ سبتمبر الفائت، الإفراج دون شروط عن 1,3 مليار دولار من المساعدات العسكرية لمصر، بحسب ما أعلنت وزارة الخارجية الأميركية. والتي قالت إن مصر أحرزت تقدماً في مجالات معينة تتعلق بحقوق الإنسان. كما أشارت واشنطن صراحة إلى أهمية المساعدة التي قدمتها القاهرة في التوسط بين إسرائيل وحركة حماس بشأن الحرب في غزة.
كذلك تمتعت القاهرة بأريحية شديدة فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا والصين، إذ إنها انضمت إلى البريكس، وتزايدت وتيرة التعاون الاقتصادي مع موسكو وبكين، ولم تتخذ الإدارة الأميركية أي إجراءات عقابية ضدّ مصر التي طورت من علاقتها وشراكتها الاقتصادية مع روسيا، على الرغم من العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على الأخيرة، بالتزامن مع الحرب الأوكرانية.
وفي سياق مماثل، طورت القاهرة من علاقتها بطهران، بالتزامن مع عودة العلاقات مع أنقرة، وجاءت مشاركة مصر الرسمية، في جنازة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، خطوة مهمة في هذا السياق، والذي توج في تشرين الأول/ أكتوبر بوصول وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى القاهرة، في أول زيارة لمسؤول إيراني كبير إلى مصر منذ أكثر من عقد من الزمان.
لكن الولايات المتحدة أهملت ملف أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا، والتي أولت لها إدارة ترامب الأولى أهمية كبيرة، وكان السيسي قد طلب من الولايات المتحدة التدخل لإقناع إثيوبيا بالموافقة على اتفاق بشأن السد، لكن الطلب الذي قدمه لوزير الخارجية أنتوني بلينكين، عندما التقيا على هامش القمة الأميركية الأفريقية في واشنطن، لم يسفر عن شيء. وفي المقابل، سمحت واشنطن للقاهرة بتحريك قواتها العسكرية إلى السودان ثم الصومال؛ لممارسة الضغط على أديس أبابا.
كل هذه المعطيات السابقة، ربما تشهد تحولات نوعية في ولاية ترامب الثانية، ولكنها تحولات، ربما تناسب القاهرة التي تمر بأزمة اقتصادية حادة، إضافة إلى التهديدات المتصاعدة على حدودها، أضف إلى ذلك التهديد الوجودي الذي يمثله سد النهضة الإثيوبي.
ديكتاتور ترامب المفضل
زعم تقرير لصحيفة واشنطن بوست في آب/ أغسطس الفائت، أن القاهرة عرضت على ترامب 10 ملايين دولار نقداً في سنة 2017 لتعزيز حملته الانتخابية. وأشار التقرير أيضاً إلى أن المدعي العام لترامب آنذاك، ويليام بار، أغلق القضية، بعد ثلاث سنوات من التحقيقات.
وفي وقت سابق من سنة 2019، مازح ترامب الرئيس المصري قائلاً: “أين ديكتاتوري المفضل؟” في إشارة إلى السيسي، وذلك خلال قمة مجموعة السبع التي عقدت في فرنسا، حيث انتظر وصوله إلى الاجتماع. وفي ذلك الوقت، أشاد ترامب بالسيسي وقيادته ووصفه بأنه “رجل قوي للغاية. وأضاف ترامب على هامش الحدث: “إنه رجل طيب أيضاً، وقد قام بعمل رائع في مصر، وهو أمر ليس أمراً سهلاً.”
الرئيس المصري بدوره، سارع إلى تهنئة ترامب بالفوز في الانتخابات الرئاسية، وخلال اتصال هاتفي أعقب الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات، وأعرب السيسي عن اهتمام مصر باستئناف العمل مع ترامب في ولايته الجديدة، نظرا للطبيعة الاستراتيجية للعلاقات الثنائية المستمرة منذ عقود.
الإدارة الجديدة وأولويات القاهرة
تتطلع القاهرة إلى تدخل الرجل القوي، من أجل إنهاء الحرب في غزة، وفتح المجرى الملاحي الحيوي (قناة السويس) والذي تضررت مصر بشدة من تراجع حركة الملاحة عبره، بسبب هجمات الحوثيين. وربما تنخرط القاهرة، تحت ضغط من ترامب، في إدارة المرحلة الانتقالية في قطاع غزة، بعد أن أحجمت عن ذلك مراراً؛ لكن القاهرة الآن تبدو، أكثر من أي وقت مضى، على استعداد لبذل أي جهد، في سبيل إنهاء الحرب في القطاع، وإبعاد إسرائيل عن ممر فيلادلفيا الحدودي. وبالطبع فإن ثقتها في أي ضمانات أميركية يقدمها ترامب، تفوق أضعاف ثقتها في إدارة بايدن.
وتتطلع القاهرة كذلك إلى أن يمارس ترامب ضغوطا كافية على إثيوبيا، للموافقة على اتفاق ملزم قانونا بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، وكانت إدارة ترامب نجحت، في سنة 2020، في التوسط والوصول إلى اتفاق بين إثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من جهة أخرى، لكن أديس أبابا تراجعت في اللحظة الأخيرة ولم توقع على الاتفاق. وقد أبدى ترامب تفهماً لأي إجراء عسكري مصري، يستهدف السد، إذ قال في سنة 2020 إن القاهرة قد تلجأ إلى تفجير السد. وفي وقت لاحق من ذلك العام، علقت إدارته جزءاً من مساعداتها المالية لإثيوبيا، احتجاجاً على عدم التقدم في المحادثات بشأن الاتفاق مع السودان ومصر.
ومن المتوقع أنّ يبذل ترامب جهوداً مضاعفة، من أجل إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يسبب ارتياحاً لدى القاهرة، التي تسعى تجاه استمرار علاقاتها الاقتصادية الحيوية مع روسيا، لكن ملف الاستثمارات الصينية المتزايدة في مصر، وخصوصاً في منطقة قناة السويس، ربما لن يحظى بارتياح من قبل الإدارة الجمهورية الجديدة.
وعلى صعيد العلاقات بين مصر وإيران، فقد تكون عودة ترامب إلى البيت الأبيض، بمثابة انتكاسة للتقارب بين البلدين، ذلك بأن ترامب ربما لن تسمح بتطور وتوسع العلاقات الاقتصادية بين البلدين. على العكس من ذلك، ربما يستمر التقارب الدبلوماسي، في ظل حاجة واشنطن إلى وسيط موثوق لنقل الرسائل بين واشطن وطهران، لكن التطبيع الكامل، على غرار العلاقات مع تركيا، يبدو صعباً في ظل العداء المطلق من قبل ترامب لإيران.
وتأمل القاهرة في تدخل أميركي حازم، لإنهاء الصراع العسكري في السودان، وحسم حالة الانسداد السياسي في ليبيا، ويبدو ترامب بعداءه الواضح لجماعات الإسلام السياسي، مناسباً لأفق التطلعات المصرية، الرامية إلى إنهاء الصراع في الشرق الأوسط، واستعادة الملاحة في قناة السويس.
وبالطبع، لن تواجه القاهرة ضغوطاً فيما يتعلق بالملف الحقوقي، وخصوصاً إن ترامب يدعم حركة الجيش التي أطاحت بالإخوان في سنة 2013، وسبق للرئيس الأميركي أن قال في تمّوز/ يوليو 2016، في خطابه أمام مؤتمر الحزب الجمهوري: “لقد سُلِّمَت مصر إلى متطرفي جماعة الإخوان المسلمين، الذين أجبروا الجيش على استعادة السلطة.”
وعليه، يبدو أنّ القاهرة عليها ترتيب أولوياتها، والتطلع نحو التعاون مع واشنطن، بشكل أكثر فعالية، لكن عليها أيضاً أن تستعد لتقديم جملة من التنازلات، فيما يخص بعلاقاتها مع إيران، أو نفوذها السياسي في شرق ليبيا.