هيكلة أمنية شكلية في سورية بلا أفق
شهد النظام السوري منذ بدء العام الجاري حديث بشأن الأجهزة الأمنية السورية وإعادة هيكليتها، والتي لعبت دورا ً كبيراً منذ عقود في حمايته ونشرت الرعب في المجتمع السوري عبر تدخلها في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافّة.
الحديث عن إعادة هيكلة الأجهزة يثير تساؤلات بشأن جدية النظام في إصلاح تلك الأجهزة وفيما إذا كانت خطوة شكلية بالتزامن مع غياب أفق أي حل سياسي للأزمة وفي ظل تصعيد كبير تشهده المنطقة، أم حقيقية في ظل قرارات صدرت بدمج بعض الأجهزة.
أجهزة متعددة
يوجد في سورية منذ عقود 5 أجهزة أمنية هي: شعبة المخابرات العامة (الأمن العسكري)؛ إدارة المخابرات العامة (الأمن الدولي)؛ المخابرات الجوية ويضم كل واحد منهم عشرات الفروع المركزية وفي مراكز المحافظات فضلاً عن مفارز في المدن والمناطق ضمن المحافظة الواحدة، وهذه الأجهزة تتبع نظرياً إلى وزارة الدفاع؛ الأمن السياسي ويتبع لوزارة الداخلية. هذه الأجهزة جميعها كانت ترتبط شكلياً بمكتب الأمن القومي في القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم، والتي يضاف إليها جهاز الأمن الجنائي التابع لوزارة الداخلية أيضاً.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن عمل الأجهزة الأمنية في سورية تتدخل بكل القضايا المدنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية بحجة حالة الطوارئ المفروضة في البلاد، لافتة إلى أن الهدف الأهم من هذه الأجهزة هو حماية النظام الحاكم وإثارة الرعب في نفوس المواطنين حيث تركز عملها على رصد الحياة اليومية للمواطنين بأدق تفاصيلها.
وتابعت المصادر أن الأجهزة الأمنية تتدخل بكل شيء معتمدة على عدد كبير من العاملين فيها وبالتعاون مع الجهاز الحزبي والإداري في الجهات العامة، موضحة أن تلك الأجهزة تعمل على إيصال موالين للنظام إلى جميع مفاصل الدولة من دون الاهتمام بمؤهلاتهم.
وأوضحت المصادر أن النظام لا يسعى من خلال أجهزته إلى خلق أمن مجتمعي يعتمد على خلق تنمية اقتصادية وضمان الحريات وفصل السلطات، وإنما على حمايته نفسه واستمرارية وجوده وفساد أركانه.
لا قوانين تحكم عملها
لتحقيق الهدف الأساسي، وهو حماية نظام الحكم، مُنحت الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة بعيداً أي مساءلة من القضاء، الأمر الذي جعلها خارج المحاسبة، حتى لعناصرها مهما صغر حجمهم، إلا بعد موافقة من رؤسائه على الاعتقال أو إلحاق ضرر بأي شخص من خلال اتباع أساليب تعسفية.
فقدت مارست الأجهزة الأمنية عمليات الاعتقال والحجز والتوقيف العرفي لأي مواطن من دون الرجوع إلى القضاء، علماُ أن مدد الاعتقال بدون محاكمة تمتد إلى أشهر وقد تصل إلى سنوات.
كما حرمت تلك الأجهزة المعتقلين والمحتجزين من ممارسة حقهم في توكيل محامين للدفاع عن أنفسهم، فضلاً عن منع ذويهم من معرفة مصيرهم أو التهم الموجهة إليهم وعدم إمكانية زيارتهم أو حتى معرفة مكان توقيفهم.
تنافس ولا تعاون
وتميز عمل الأجهزة الأمنية في سورية مذ تأسيسيها، بتداخل المهام المنوطة بها من قبل النظام الحاكم، وهو عبارة عن عائلة حاكمة فعلياً، بغية خلق حالة من التنافس تصل إلى حالة من العدائية تضمن عدم تعرضه إلى أي انقلاب، بل أن هذه الحالة أدت الى تسابق قادة تلك الأجهزة الى تقديم الطاعة والولاء للعائلة الحاكمة فقط على حساب المجتمع، بغية الحفاظ على مكتسبات تمثلت بغض النظر عن فساد وتجاوزات. كما أن اختيار قادة الأجهزة والفروع التابعة لها كان يخضع لمعيار واحد، هو القرب من النظام والولاء المطلق له.
تعاون فرضته الأزمة
أول تطور حقيقي في عمل الأجهزة الأمنية كان بعد اندلاع الأزمة في سورية، مع المرسوم الرئاسي بتشكيل ما يعرف باسم “مكتب الأمن الوطني” في سنة 2012، بدلاً من مكتب الامن القومي في القيادة القطرية، وترأسه اللواء علي مملوك، احد أخطر الشخصيات وأكثرها دهاء في سنوات الأزمة، ليتم تنسيق عمل الأجهزة الأمنية والانتقال إلى مرحلة من التعاون على خلاف العقود السابقة.
وجاء هذا الأمر بعد التفجير الذي استهدف خلية الأزمة التي أدى الى مصرع كل من العماد آصف شوكت والعماد حسن تركماني ووزير الدفاع داوود راجحة واللواء هشام الاختيار، كما جاء في وقت بدأت فيه الأزمة تشهد تصعيداً بين النظام والمعارضة.
إعادة الهيكلة
شهدت الأشهر الأخيرة تطورات على الصعيد الأمني بالإعلان بشكل غير مسبوق عن اجتماع الرئيس السوري بشار الأسد مع قادة الأجهزة الأمنية، والذي قال بيان عقب انتهائه، بأنه تمت مناقشة الأثر المرتقب لإعادة الهيكلة الجارية في المجال الأمني، وتطوير التنسيق بين الأجهزة، بما يعزز أداء القوات الأمنية في المرحلة المقبلة، ووضع خارطة طريق أمنية وفق رؤى استراتيجية تحاكي التحديات والمخاطر الدولية والإقليمية والداخلية.
كما شهدت الفترة السابقة تسلم اللواء كفاح ملحم رئاسة مكتب الأمن الوطني، وهو القادم من رئاسة شعبة المخابرات خلفاً للواء علي مملوك، صاحب الباع الطويل في العمل الأمني، الذي تم تعيينه مستشاراً للشؤون الأمنية في الأمانة العامة لرئاسة الجهورية، وتسليم اللواء كمال حسن رئاسة شعبة المخابرات خلفاً لملحم.
كما شهدت الفترة الماضية نشر تقارير إعلامية عن دمج شعبة المخابرات مع المخابرات الجوية، وأنباء عن دمج أجهزة وزارة الداخلية الأمنية بجهاز واحد.
تحسين صورة النظام
وتشير المصادر المطلعة إلى أن الخطوات الأخيرة في القطاع الأمني هي خطوات شكلية للإيحاء بان النظام عازم على هيكلة الأجهزة الأمنية على إجراء إصلاح في البلد، وخصوصاً أن مطالبات كثيرة ظهرت منذ بداية الأزمة السورية في سنة 2011، فضلاً عن مطالبة مبعوثين أمميين وذلك مع انسداد أفق الحل السياسي للأزمة إن كان بموجب المبادرة العربية خطوة خطوة، وتوقف اجتماعات اللجنة الدستورية، بالإضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار تعقيدات المنطقة.
وأضافت المصادر أن إصلاح الأجهزة لا يرتبط فقط بهيكليتها وإنما بطبيعة عملها وتخصصها في مجالات معينة وخضوعها لسلطة القانون والقضاء والحد من تغولها في المجتمع والسيطرة على كل مرافق الحياة على حساب السياسة، والأهم من ذلك ان تكون في خدمة المجتمع وليس لحماية النظام الحاكم.
توقعات مستقبلية
يبدو أن دور الأجهزة الأمنية السورية سيبقى ضمن وظيفته المحددة منذ عقود في حماية الحلقة الضيقة في النظام في ظل غياب الحل السياسي للأزمة بسبب تعنت النظام ومن ضمنه هيكلة عمل هذه الأجهزة وتحديد مهامها بدقة مع إمكانية المحاسبة أمام القضاء.
كما أن عمل الأجهزة الأمنية منذ عقود وفق النهج السائد من خلال التدخل في إدارة المجتمع وحماية النظام واتباع أساليب تعسفية سيجعل منها مقاومة لأية عملية إصلاحية تستهدف مهامها وطريقة عملها ومكتسباتها.
إن هيكلة الأجهزة الأمنية وتغير طبيعة عملها ليكون هدفها حماية المجتمع والبلاد بشكل كامل لن يتحقق إلا ضمن حل سياسي يأخذ بعين الاعتبار بناء هذه الأجهزة على أسس وطنية لا فئوية وتأهيلها بشكل علمي قانوني ويخضعها للمحاسبة من جهات سياسية وقانونية مستقلة.