مصر في مواجهة خطة ترامب لتهجير سكان غزة

منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وجدت القاهرة نفسها في وضع شديد التعقيد، فحرب الإبادة الصهيونية جعلت من المستحيل عدم تماهي النظام مع الغضب الشعبي في الداخل. ومن جهة أخرى، ولعدة اعتبارات سياسية واقتصادية وعسكرية، كان من المهم دراسة أي تصعيد تجاه إسرائيل، بكل ما يستدعيه ذلك من الاشتباك مع جملة من الحسابات الدقيقة.

موقف واضح وحسابات معقدة

على الصعيد الرسمي، كانت مصر صارمة في تصريحاتها الرسمية بشكل غير مسبوق، فقد أدانت القصف الإسرائيلي العشوائي الشامل لقطاع غزة، وتصدت لمحاولات التهجير القسري لسكانه، وحذرت إسرائيل من عواقب أيّ محاولات لدفع سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء. وبلغ الموقف السياسي ذروته بالانضمام إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية.

واجهت القاهرة لغة التصعيد التي انتهجتها حكومة بنيامين نتنياهو، بتصعيد مماثل، وسعت إلى بناء موقف عربي ودولي مساند لها، لكنّها في الوقت نفسه لم تستجب للاستفزاز العسكري الإسرائيلي، أو التحركات العدوانية تجاه معبر رفح، وتهديدات تل أبيب بضرب أي قوافل مساعدات ترسلها مصر؛ بهدف كسر حصار غزة من جانب واحد.

ورفضت القاهرة الإذعان لشروط الحصار الكامل الذي أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، منذ 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لكنّها في الوقت نفسه كان عليها أن تواجه الضغط الذي مارسه اليسار والتيار القومي في الداخل، من أجل فتح المعبر، بداعي أنّ الضغط العسكري الإسرائيلي سوف يؤدي إلى دفع سكان القطاع إلى داخل سيناء، ومن ثمّ تصفية القضية الفلسطينية. وبدلاً من ذلك أنشأت القاهرة بالتعاون مع دولة الإمارات محطة تحلية لتمرير أنابيب المياه العذبة إلى القطاع، واتباع نهج الإنزال الجوي للمساعدات الإنسانية على شاطئ غزة.

كان الارتهان لكل هذه الحسابات المعقدة، يعول على موقف أميركي أكثر إيجابية، وربما موقف أوروبي فعّال، للضغط على إسرائيل، وبينما تتصاعد الانتقادات في الداخل والخارج للموقف الرسمي المصري، تحت ضغط المجازر التي ترتكبها إسرائيل، وفشل الوساطة للوصول إلى وقف نهائي لإطلاق النار، أنهت نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية حيز المناور الضيق، فمع مجيئ الرئيس دونالد ترامب، كان على القاهرة أن تتعامل مع متغير شديد الخطورة، بعد أن أعلن الرئيس الأميركي عن خطته لتهجير سكان القطاع إلى دول الجوار.

كان على القاهرة أن تعيد صياغة هامش مناوراتها السياسية، على المستويين الإقليمي والدولي، وفق جملة من الأولويات الصعبة، فالقاهرة كانت تميل إلى الإبقاء على حماس، كخط دفاع، ولو كان هشاً، ضدّ الأطماع الإسرائيلية في سيناء، كما أنّ الحفاظ على سيطرة حماس على الفصائل الأخرى، كان يؤدي دوراً أمنياً مهما لمصر، وهو الأمر الذي أظهر ميزات استراتيجية من قبل، من خلال انضمام حماس إلى جهد مصر ضد داعش.

أوراق ضغط أميركية

أنهت اتفاقية السلام مع إسرائيل في سنة ١٩٧٩ الحرب بين البلدين، ومنذ ذلك الحين، تُقدّم الولايات المتحدة لمصر مبلغًا ثابتًا قدره ١,٥ مليار دولار أميركي، منها ١,٣ مليار دولار أميركي في شكل مساعدات عسكرية سنوية.

وبشكل عام، تلقت القاهرة نحو 78 مليار دولار أميركي كمساعدات اقتصادية، و90 مليار دولار أميركي كمساعدات عسكرية على مدار العقود الماضية، وقد شكلت تلك المساعدات، حجر الزاوية في العلاقات المصرية الأميركية لعقود طويلة.

ومرت العلاقات المصرية الأميركية باختبار صعب، عندما علّقت الولايات المتحدة بعض مساعداتها العسكرية لمصر، بعد إسقاط نظام الإخوان في سنة ٢٠١٣. لكنّ الدعم العربي (الخليجي) لمصر عوّض تداعيات القرار الأميركي، وفي تلك الآونة، زادت واردات السلاح من فرنسا وروسيا. وبعد فترة مراجعة، أفرجت إدارة أوباما عن المساعدات المجمدة، حفاظًا على المصالح الأميركية.

وكان إحجام الرئيس المصري عن زيارة واشنطن، في أعقاب تولي الرئيس ترامب، نقطة تحول في مسار العلاقات بين الطرفين، بكل ما يعنيه ذلك من رفض مصري صريح لخطط الرئيس ترامب تجاه غزة.

خيارات مصر

إزاء العلاقات المتوترة بين القاهرة وواشنطن، ترتسم سيناريوهات، ممكن تلخيصها بتصورات ثلاثة هي:

السيناريو الأول: حتمية التوافق، إذ على الرغم مما يبدو على الرئيس الأميركي من اندفاع وتعالي، إلّا أنّ صنع القرار في الدوائر الأميركية، ربما ما زال يمر عبر شبكة من المستشارين والتوصيات المؤسسية، التي تضع المصالح الأميركية على قائمة الأولويات. ومن ثمّ فإنّ التوافق مع دولة مركزية في الشرق الأوسط مثل مصر، يبدو حيوياً لصناع القرار في واشنطن.

وتعلم المؤسسات السيادية الأميركية، كيف ساعدت مصر القوات العسكرية الأميركية على التنقل عبر المنطقة في مختلف المراحل السياسية الحرجة، وساعدت على تدفق النفط عبر قناة السويس. وحافظت على السلام والاستقرار مع إسرائيل بالضغط على الحركات الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، لتهدئة الأوضاع، وهو ما مكّن القاهرة من القيام بدور الوسيط بين حماس وإسرائيل حتى اللحظة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، فإنّ مبلغ المساعدات يُخصّص لتمويل شراء مصر لأنظمة أسلحة من شركات أميركية، الأمر الذي يؤثر بالإيجاب على انتعاش التصنيع العسكري في الولايات المتحدة.

ووفقًا لهذا السيناريو، ربما تنجح الخطة التي وضعتها مصر، لمعالجة المشهد الإنساني البائس في قطاع غزة، وفق مراحل متدرجة، تتضمن إدخال آلاف المنازل المتنقلة إلى القطاع، بالتزامن مع إعادة بناء الطرق والإسكان والبنية الأساسية، وفق آليات حديثة وفعالة، مثل: استخدام الألواح الشمسية لتوليد الكهرباء، وإعادة تدوير الأنقاض بعد تطهيرها من الذخائر غير المنفجرة.

هذا السيناريو يتطلب أيضاً اقناع الطرف الأميركي، بفعالية الإصلاح السياسي في غزة، ومنح دور أكبر لمنظمة التحرير، ومن ثمّ تأمين دعم المانحين الدوليين لإعادة إعمار القطاع، وتقدر التكلفة الإجمالية لإعادة الإعمار بما يتراوح بين 50 و80 مليار دولار.

وتجري القاهرة بالفعل مشاورات لإنشاء إدارة فلسطينية مؤقتة، تضم ما بين 15 و20 شخصاً، مع استبعاد شخصيات من حماس والسلطة الفلسطينية، على أن تتألف الإدارة من تكنوقراط غير تابعين لأي فصيل فلسطيني. وهو ما يعني تمهيد الطريق لسلطة فلسطينية جديدة، مع إعادة هيكلة قوةِ شرطةِ غزة، وتزويدُها بتدريبٍ أمني مصري.

السيناريو الثاني: وقف المساعدات الأميركية، وهو سيناريو يرتبط بمدى استمرار عناد الرئيس الأميركي، وقدرته على فرض قراراته المتسرعة للضغط على القاهرة من أجل استقبال الغزييّن، وربما يدفع ذلك مصر إلى الاتجاه بشكل كلي نحو الصين وروسيا، لكنّها تحتاج أيضاً إلى دعم عربي وتوافق لمواجهة هذا التحدي الجديد.

هذا القرار الأميركي المحتمل، يحمل تداعيات اقتصادية عنيفة على القاهرة، التي تعاني بالفعل، كما أنّه يطلق يد إسرائيل في المنطقة، حيث تفقد معاهدة السلام، حينئذ، حياد الضامن الأميركي، وتصبح المنطقة كلها على شفا توتر غير مسبوق منذ حرب تشرين/ أكتوبر 1973.

السيناريو الثالث: إذعان القاهرة، إذا وافقت مصر على خطة تهجير الفلسطينيين من غزة، فسيكون ذلك بمثابة انحراف جذري عن سياساتها الخارجية المعلنة، الأمر الذي قد يُشعل سخطاً شعبياً كبيراً، ربما تحتويه واشنطن بمساعدات اقتصادية استثنائية، تتضمن إسقاط جزئي أو كلي للديون، وإنعاش الاقتصاد المصري؛ لمواجهة الغضب الشعبي المحتمل.

هذا السيناريو، هو أقل الاحتمالات الممكنة، لكنه يبقى مطروحاً، مع ارتباطه بتغير الاستراتيجية العسكرية المصرية التي ترى أنّ وجود الفلسطينيين في سيناء، سوف يُحوّل المنطقة إلى منصة انطلاق لهجمات المقاومة على إسرائيل، ويضع مصر في مواجهة المقاومة من جهة، ويمنح إسرائيل المبرر لتوجيه ضربات انتقامية للداخل المصري، كما حدث في سنة ١٩٥٥.