ليبيا في عهد ترامب واحتمالات التأثير الأميركي
يطرح السؤال بقوى في ليبيا عمّا إذا كان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية ودخوله البيت الأبيض مجدداً في 20 كانون الثاني/ يناير 2025، سوف يُبعد البلد عن التأثير الأميركي، مثلما كان الأمر سائداً خلال ولايته الأولى، فصدى صوت الرئيس المنتخب ترامب أثناء تلك الولاية، وهو يعلن عدم أكتراث واشنطن بالأزمة السياسية في ليبيا، ما زال يسيطر على سيناريوهات المستقبل.
معطيات جديدة
تمثل محددات الجغرافيا السياسية لليبيا، واحدة من أبرز العوامل التي تدفع الولايات المتحدة الأمريكية للاهتمام بالأزمة السياسية في البلد، من خلال كونها محطة حضور فاعلة لروسيا، ممّا يعني أهمية منازعة هذا الحضور ومراقبة تمدده في الجغرافيا الليبية على تخوم مناطق الساحل والصحراء، وكذلك مكافحة الإرهاب والتنظيمات المتشددة، فضلاً عن أهمية ضمان استمرار تدفق النفط والعمل بجدية على أن يكون الوضع السياسي في البلاد، على الرغم من هشاشته، يخدم هذا التدفق وعدم الانزلاق لأي سيولة خشنة جديدة حفاظاً على هذا الأمر.
تدرك جيداً واشنطن أن ليبيا خلال السنوات الأخيرة، تمركزت فيها عناصر قوة محددة تركزت في الشرق، من خلال الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر وأبنائه، وفي الغرب من خلال حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وعبر الفريقين تعزز الولايات المتحدة الأميركية فواعل الشراكة السياسية والأمنية والاقتصادية.
بدء من مطلع العام القادم، ومع تسلم ترامب مقاليد سلطته الفعلية، تدخل ليبيا المطلة بكامل مساحتها على البحر المتوسط وبوابة أوروبا، ضمن تفاعلات المرحلة الترامبية في روسيا وأوروبا، والتي تشكل نتائجها بصورة كبيرة، مفردات التغيير في الداخل الليبي، كون إيطاليا وفرنسا من أكثر المتنافسين في المشهد الليبي، إلى جانب الحضور العسكري الروسي في شرق وجنوب البلاد، فضلاً عن التنافس المصري والتركي.
إذاً، يمكن القول إن محددات إدارة دونالد ترامب في الفضاء الليبي، ستبرز من خلال العلاقات مع دول أوروبا، وموقف ترامب من الانخراط داخل حلف الناتو ومن الحرب الروسية الأوكرانية ومقاربته إزاء هذا الصراع العسكري، مما يعني أن كل الملفات ستتقاطع على الخريطة الجيوسياسية، الأمر الذي يشي بأن تطور الوضع السياسي في ليبيا بعد الربع الأول من العام القادم 2025، سيكون محل مناقشات ومفاوضات بين تلك القوى الدولية، وخصوصاً أن الأطراف الفاعلة محلياً، لم تتمسك خلال السنوات الماضية بأي مساحة يمكن من خلالها تأسيس الدولة.
تعقيدات الداخل الليبي
تتفاعل عوامل محلية كثيرة نحو مشهد الأزمة السياسية في ليبيا، وتعقد تفاصيلها وكذك تعدد الفاعلين، فضلاً عن تمدد سنوات الأزمة، مما أنتج استقراراً رخوا في البلاد، وانقساماً عميقاً في مؤسساتها، بل بلغ الانقسام حده داخل المؤسسة الواحدة، مثلما حدث مع المجلس الأعلى للدولة – الغرفة التشريعية الثانية ومقرها طرابلس – مع انتخابات هيئة رئاسة المجلس، وتعنت كل من محمد تكالة الرئيس السابق، وخالد المشري الرئيس “المنتخب”، ومطالبة كل منهما بحقه في المنصب، وتنظيم الأول جلسات للمجلس بعدد من الأعضاء تحت رئاسته، من دون أن نغفل وجود حكومتين واحدة في الشرق وأخرى بالغرب، والتلويح المستمر بتقسيم البلاد وتوزيع الثروة على هامش المناورة بورقة تعطيل إنتاج النفط.
ومع دخول الإدارة الجديدة البيت الأبيض، ستظل وسائط الحركة دون تغيير من خلال اعتماد واشنطن مبعوثا خاص لليبيا، فضلاً عن البعثة الأممية. بيد أن واشنطن ستحسم أمر اختيار ممثل البعثة ومنحه الضوء الأخضر بتفاهمات معتبرة، نحو حسم تشكيل جسم حكومي يضم البلاد جميعها، من خلال مقاربة الدمج بين الفاعلين الرئيسين في الشرق والغرب، وحينها سيتم تصفية الأجسام التشريعية في البلاد.
لم تكن ليبيا خلال السنوات الأخيرة داخل بؤرة الاهتمام الأميركي، حيث منحت واشنطن حق إدارة هذا الملف لوكلاء آخرين، مما عزز من ارتباك عميق طال الملف، وتمدد لا محدود لأجسام سياسية متعددة، دون أي نتائج واضحة، مما ينبغي معه تصور استمرار فاعلية الدور الوظيفي لعدد من الدول الإقليمية والدولية إزاء الأزمة الليبية، سيما مع رفع الرئيس المنتخب دونالد ترامب شعاره الأثير “أميركا أولا”.
الأدوار الإقليمية والدولية
يمكن رؤية دوراً متعاظماً للقاهرة وأنقرة من الجانب الإقليمي في الداخل الليبي، وخصوصاً بعد تطبيع العلاقات فيما بينهما، ما يسمح لهما بلعب دور أكثر عمقاً وتأثيراً، ومن دون صراع عنيف، مما قد يسمح بصياغة تسمح بتوحيد المناصب، واستحقاق انتخابي على مستوى المجالس التشريعية.
ستكون أوروبا وروسيا في قلب التفاعلات داخل المشهد الليبي، لاسيما فيما يرتبط بملفات الهجرة غير الشرعية، وتدفق المهاجرين للدول الأوربية، مما يعني وجود هذا الهامش في المفاوضات العميقة، التي ستدخلها أوروبا وروسيا لاحقاً، مع إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، الأمر الذي يمكن معه تصور أن تمنح أوروبا هي الأخرى مساحة حركة في الملف الليبي، وخصوصاً في مجابهة الهجرة غير الشرعية ومراقبة ساحل البحر المتوسط، وكذلك الاستفادة من عقود التنقيب والإدارة النفط والغاز، فضلاً عن التحركات السياسية والدبلوماسية لروسيا في الغرب الليبي، مؤخراً، وانخراطها في علاقات مباشرة مع حكومة عبدالحميد الدبيبة والمجلس الرئاسي في الغرب الليبي.
وثمة تقدير أن خطوة المجلس الرئاسي المرتقبة نحو طرح استفتاء عام على المواطنين خلال النصف الأخير من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، بشأن فض المجالس التشريعية، وغيرها من المواد التي لم تحسم حتى اللحظة، تتواءم بصورة أو بأخرى مع تقديرات القوى المنخرطة، وستدعم نتائجها، في مقابل توحيد المناصب وتأطير مخرجات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، بهدف تأمين البلاد من التنظيمات التكفيرية والإرهابية.
مقاربات أميركية متوقعة
ربما من الأهمية بمكان مناقشة عدد من التصورات حول مقاربة إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب للأزمة السياسية في ليبيا، وذلك من خلال أولويات الاستراتيجية الأميركية بالشرق الأوسط، عبر ملفات إيران وإسرائيل، وما بينهما الوضع في غزة والضفة الغربية ولبنان، فضلاً عن كيفية إدارة واشنطن المرحلة بليبيا عبر آليات الدبلوماسية، وكيف ستختار مكان مقعد القيادة؟ وهل ستمنح بعض الوكلاء حق متابعة الأمر بينما تكتفي هي بالمراقبة وتتبع نجاح التصورات؟ أم ستقبض على الأمر كله وتتابع تنفيذ المقاربة والخطوات التالية لها؟
إذاً، ربما يكون الوضع الليبي خارج بؤرة الاهتمام القصوى في ذهنية ترامب، وسيكون منسوب الحركة في هذا الملف من خلال بعض النقاط الفاصلة في السياسة الأميركية، مثل: مكافحة الإرهاب، ومراقبة التمدد الروسي والصيني في ليبيا.
ثمة سيناريو آخر، لا يمكن القفز على محدداته، نظرياً على الأقل، يتمحور حول نجاح الرئيس المنتخب دونالد ترامب، في عقد صفقة ناجحة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، مما يدفع شهية ترامب لمعاودة الأمر في شمال أفريقيا، وإنهاء التوتر هناك .
في المقابل قد يبدو ذلك ليس بالأمر الهين والبسيط، ويواجه الكثير من التناقضات المركبة، غير أنّه بدرجة أخرى أو بأخرى، قد ينتج تفاعلات جديدة على الأرض بين الأجسام السياسية الليبية مع القوى الدولية، خاصة فيما يتعلق بالصين وليبيا. إذ صدرت ليبيا نفطاً خلال العام المنصرم بقيمة 36 مليار دولار، كان نصيب بكين منه 2,2 مليار دولار، وبالتالي فإن الصين تطمع في الفوز بعقود البنية التحتية في البلاد وإعادة الإعمار، مما يحقق للصين أمن الطاقة والانخراط في جغرافيا شمال أفريقيا، وهو أمر قد يثير مخاوف واشنطن.