قراءة في وقائع وانعكاسات تفجير لاسلكيات حزب الله

على مدى يومين متتاليين (16 و17 أيلول/ سبتمبر 2024)، وبتزامن، انفجرت في مناطق نفوذ حزب الله في لبنان، آلاف أجهزة النداء باجر (Pager) التي تصنعها شركة “غولد أبولو” (Gold Apollo) التايوانية في اليوم الأول، ومئات أجهزة اللاسلكي – ووكي توكي توكي – ماركة “آيكوم في 82” (Icom v82) من صناعة اليابان في اليوم التالي، متسببة بأكثر من 4000 جريح، وأكثر من 30 قتيلا وبمخاوف محلية وإقليمية ودولية مما يمكن أن يحدث في المرحلة القريبة المقبلة.1

تداعيات شاملة

لم تقف تداعيات تلك المجزرة عند حدود جغرافيا ارتكابها، بل امتدت بعيداً، إذ زرعت فوضى شاملة وعدم يقين عام، في صفوف حزب الله وفي صفوف بيئته، واللبنانيين، والمقيمين في لبنان، بل امتد ذلك إلى المحيط والإقليم، وعلى المستوى العالمي، ليس فقط إزاء المجزرة المرتكبة، ووسيلة ارتكابها، بل أيضاً مخاوف من تقليد ما جرى من قبل مجموعات مقاومة و/ أو إرهابية و/ أو إجرامية، و”دول مارقة”، و”غير مارقة” توكل مهامها القذرة لتلك المجموعات الإجرامية؛ وأبعد من ذلك فإن سلسلة التصنيع التي لم تعد منذ أمد بعيد تعتمد المركزية بل أصبحت متعددة الأمكنة، وسلسلة التوريد التي لم تعد مقتصرة على خط واحد بين المصنع والوسيط والتاجر والمستهلك الأخير، بل باتت تمر بسلسلة من المحطات، والتي تبغي تسهيل التصنيع والنقل وتخفيف تكلفتهما؛2 سلسلتا التصنيع والنقل باتتا معرضتين للمساءلة والعرقلة، الأمر الذي لا بد أن يترك أثراً سلبياً على الاقتصاد العالمي الذي يعاني منذ جائحة كورونا، ولم يكد يبدأ بالتعافي منها حتى باغتته حربا أوكرانيا وغزة، ثم حرب غزة؛ وهنا يمكن تصور بعض التأثيرات الراهنة والتداعيات اللاحقة، على النحو التالي:

حزب الله

لم ينكر حزب الله فداحة الخسارة البشرية وعمق الاختراق الأمني، وهو ما أشار إليه أمين عام حزب الله حسن نصرالله في خطابه في يوم الخميس 18 أيلول/ سبتمبر، بعد سلستي التفجيرات، وقبل اغتياله في عملية تفجير غير مسبوقة بصواريخ خارقة تحمل أكثر من 80 طناً من المتفجرات، في 27 أيلول/ سبتمبر 2024.

بالنسبة لحزب الله، فإن الخسارة لم تقتصر فقط على مجرد تخريب أدوات اتصال، أو قتل وتعطيل أكثر من ألف عنصر من مختلف مؤسساته العسكرية والأمنية والمدنية، بل إحداث خلل كبير في سلاح الاتصالات وبالتالي التأثير بشكل أو آخر على القيادة والسيطرة، على الرغم من تأكيد نصرالله أن القيادة والسيطرة لم يتأثران بما جرى؛ أما الخسارة البشرية فهي هائلة، وهنا الحديث يدور حول أولئك الجرحى الذين لن يستطيعوا العودة إلى ممارسة أعمالهم العسكرية والأمنية أو المدنية، مثلما كانوا يفعلون قبل الإصابة، وصعوبة، أن لم يكن استحالة تعويضهم بالسرعة المطلوبة وسط معركة متواصلة واحتمالات توسعها إلى حرب كُبرى على مستوى لبنان، أو حتى حرب على مستوى الإقليم، واحتياجات مثل هذين النمطين من الحروب إلى كل عنصر بشري عسكري أو مدني، فالتنشئة الثقافية والأيديولوجية لمثل هذه العناصر البشرية تحتاج إلى سنوات طويلة، تبدأ من عمر الطفولة وتمتد إلى ما بعد عمر النضوج، والتدريب على المهام العسكرية والأمنية والمدنية، يحتاج إلى سنوات من الإعداد النظري والتجربة العملية كي يتماشى مع متطلبات المعركة.

الأكثر خطورة أن الإصابات، وخصوصاً تلك التي أفقدت ما تُقدره بعض المصادر بأكثر من ألف جريح فقدوا حاسة البصر،3 لم يفقدوا وحدهم قدرتهم على إنجاز مهامهم، بل سوف تُخلق معهم سلسة اجتماعية تُصبح مضطرة أن توزيع جهدها بين احتياجات وظائفها المدنية والاجتماعية وبين الجريح المُعوّق. ويمكن هنا إسقاط ما اقترفته إسرائيل في لبنان أخيراً، على ما داومت على اقترافه من جرائم في غزة، حيث تقصدت في حروبها على القطاع قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أن تصيب الشبان والأطفال الفلسطينيين بجروح تعوق حركتهم، إذ “من الضروري أن ندرك هدف السياسة الحيوية الإسرائيلية في خلق الإعاقة عند الفلسطينيين، ولماذا يعتمد القناص الإسرائيلي، عندما يُطلق النار، اختيار الثلث الأسفل من الفخذ الذي يحتوي العصب والوريد، ومفصل الركبة عند الشباب المتضررين، وخاصة المخيمات. إن القناص الإسرائيلي يختار هذا الجزء فقط لخلق الإعاقة، وبالتالي تعطيل الطاقة الشبابية وتحويلها إلى كتلة تحتاج للإعانة، ويمكنها أن تَشل بمطلب معالجتها شبكة اجتماعية مكونة من العائلة والمحيط.”4

من فقدوا بصرهم جراء التفجيرات غير المسبوقة تلك، هم الأكثر هشاشة بين الجرحى، لكن هناك أيضاً من أصيبوا بجروح في أعضائهم الداخلية جراء وضع الأجهزة التي تم تفجيرها على خاصراتهم، الأمر الذي أحدث ضرراً جسدياً كبيراً أيضاً، سوف يحد من قدراتهم الحركية، وبالتالي الإنتاجية، ومن ثم ستكون هناك حاجة، ولو أقل، لمن يُساعدهم. وفي المحصلة، فإنه على المدى الطويل سوف يتم تعطيل آلاف الأشخاص عن أداء مهامهم، هذا فضلاً عن تروما ما بعد الصدمة التي سوف تحتاج أيضاً إلى علاج لدى الطب النفسي.

من الواضح هنا أن نوعية التفجيرات، تأتي ضمن مفهوم السياسة الحيوية التي اقترفتها إسرائيل سابقاً في قطاع غزة، وطبقتها في لبنان عبر تفجيرات اللاسلكيات، لجعل الخسارة أكبر من مجرد إعاقة سلاح الاتصالات مؤقتاً، وهو سلاح ليس من الصعب تعويضه وبطرق شتى وبسرعة، بينما الإعاقة الجسدية والاجتماعية، هي إعاقة متعددة الأبعاد، وتطال الحاضر والمستقبل.

لقد لفت نصرالله في الخطاب نفسه بعد التفجيرات إلى أن أهدافاً ثلاثة توختها إسرائيل لم تتحقق: فصل جبهة المساندة في لبنان عن الحرب على غزة؛ التأثير على القيادة والسيطرة؛ ضرب الروح المعنوية لدى المقاومة وبيئتها. فمعركة المساندة، مثلما قال نصرالله، منفصلة عن جبي ثمن الجريمة التي اقترفتها إسرائيل عبر تفجيرات اللاسلكيات، وهي مستمرة طالما استمرت الحرب على القطاع، أما الاقتصاص من الجريمة فوقتها آت؛ والقيادة والسيطرة لحزب الله لم تتأثر مطلقاً، وأيضاً وفق نصرالله؛ والهدف الثالث المعطل، هو الروح المعنوية التي أكد نصرالله أنها لا ترتبط فقط باللحظة الراهنة، إنما هي بناء إيماني وثقافي وأيديولوجي من الصعب، إن لم يكن من المستحيل تفكيكه. هذا التوصيف الذي ساقه نصرالله ليس مسألة دعاوية لرفع الروح المعنوية، إنما حقيقة يُلامسها القريبون من بيئة الحزب، إذ تبدأ تلك السلسلة من المدارس التي أنشأها حزب الله منذ سنوات طويلة، وخرّجت أجيالاً نشأت على تربية موجهة وكثيفة وعميقة تجمع الإيمان بالثقافة والأيديولوجيا، وتمر بالتثقيف اللامدرسي، ولا تنتهي بخلق وظائف، ضمن بيئة المقاومة، تُكرس تلك السلسة من التعليم والتثقيف والتعبئة.

لكن على الرغم من هذه الحقيقة، فإن السياسة الحيوية الإسرائيلية إزاء نوع الإصابات الناتجة عن التفجيرات، والتي تعيها إسرائيل وتقصدتها، من الواجب الوقوف مطولاً عندها، ودراسة تداعيتها الحاضرة والمستقبلية، للتخفيف من نتائجها السلبية قدر الإمكان، مع التأكيد أنه من المستحيل محو أثرها.

إسرائيل

من المنطقي والواقعي القول إن إسرائيل حققت إنجازاً كبيراً من خلال عملية تفجير اللاسلكيات المعقدة والمتعددة الأوجه والدقيقة التخطيط والتنفيذ، بدءاً بمراقبة مشتريات حزب الله لتجهيزاته، وصولاً إلى خرق سلسلة التوريد وتفخيخ الأجهزة التي جرى تفجيرها، والكفاءة العالية في عملية التفخيخ، ومزامنة الانفجارات، واختيار الوقت.

ومثلما ورد في العنوان الفرعي السابق، فإن العملية برمتها تأتي ضمن مفهوم السياسة الحيوية شديدة التأثير على “العدو”، والمنفلتة من أي عقال أخلاقي وإنسانية وحقوقي، والتي جُربت في قطاع غزة على مدى سنوات الحصار منذ 2007 حتى ما قبل مباشرة الإبادة الجماعية هناك تحت نظر العالم الساكت على هذه الإبادة، إن لم تكن بعض دوله متواطئة ومشاركة. وبالتالي فإن المقصود ليس بالضرورة إيقاع خسائر آنية، إنما إحداث أثر طويل الأمد، وخلخلة البيئة الاجتماعية لحزب الله مباشرة، وللبيئة الأخرى المحيطة والمحسوبة على “محور المقاومة”.

إلى ما سبق، من اهداف، يُمكن تعداد أُخرى ذات طابع داخلي: تكريس نتنياهو نفسه ملك إسرائيل، وهو العائد إلى تصدر استطلاعات الرأي بعد أن خفت نجمه بعد “طوفان الأقصى”، وليس بالضرورة من خلال قدراته، بل يُمكن أيضاً من خلال ضعف خصومه. فنتنياهو بحاجة دائماً إلى ما يضيف ضباباً على ما يجري، من مثل إبادة غزة لتعويض إخفاق 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتعمية على فشل القضاء على المقاومة في شمال قطاع غزة، عبر الإصرار على أن لا نصر من دون عملية في رفح، وتالياً التعمية على فشل القضاء على المقاومة في رفح عبر الإصرار على البقاء في محوري فيلادلفيا ونتساريم… الخ، وقد تكون عملية تفجيرات اللاسلكيات في لبنان، من ضمن السياق نفسه، وخصوصاً الفشل في دفع حزب الله إلى التوقف عن قصف شمال فلسطين المحتلة، والذي تسبب ولا يزال بتهجير نحو 100 ألف مستوطن. وكذلك التقليل من شأن شعبوية معارضيه الداعين إلى شن حرب على جنوب لبنان، يعرف هو وقادة جيشه وأجهزته الأمنية، أنها لن تكون نزهة، وقد تقلب السحر على الساحر، أخذاً بعين الاعتبار قوّة حزب الله المضاعفة، على الرغم من فقدان عدداً كبيراً من مقاتليه وقادته وعلى رأسهم نصر الله، مقارنة بما تمتلكه حماس في غزة حيث لم تنجح الإبادة الجماعية وحرب التدمير الشامل، واغتيال عدد من قادتها الميدانيين، في القضاء عليها، فضلاً عن الفارق الجغرافي بين غزة وجنوب لبنان الكثيف التضاريس الجبلية والأودية التي تُمكّن الحزب من الصمود وإيذاء الجيش الإسرائيلي، وعدم تمكينه من تحقيق مبتغى القضاء على المقاومة في لبنان.

وعلى الرغم من عدم تحقيق إسرائيل الأهداف الثلاثة التي ساقها نصرالله في خطابه، فإنها حققت أذى شديداً في صفوف حزب الله العسكرية والأمنية والمدنية، بسلاح الاتصالات الضروري والمهم في يوميات الحرب، كما في يوميات الحياة العادية، وأربكت بيئة المقاومة وحلفائه المحليين في لبنان، وخارج لبنان. كما أن نتنياهو زاد من رصيده الداخلي في مقابل خصومه؛ أما الأجهزة الأمنية والجيش الذين وصموا بالفشل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فقد أزالوا بعض الضغط من على كاهلهم، من خلال عملية معقدة ومحبوكة وناجحة.

ثمة تقارير أماطت اللثام عن واقعة أن تنفيذ التفجيرات جاء بحكم الضرورة، وليس السياق الأصلي لخطة أكبر وأوسع مدى. في هذا السياق كشف موقعا “المونيتور” (Al-Monitor) و”أكسيوس” (Axios)، أن قرار تنفيذ التفجيرات جاء بعدما أدركت إسرائيل أن حزب الله بات قريباً من اكتشاف العملية، وبالتالي احتمال فشلها، علماً بأن الخطة الأصلية كانت قدح زناد التفجيرات في بداية عملية واسعة، الأمر الذي ألغى، أو أرجأ العملية الواسعة، وجعل تأثير التفجيرات أقل قيمة، على الرغم من فداحة الخسائر التي لحقت بحزب الله.5

هكذا تكون إسرائيل قد فقدت “المومنتوم” (اللحظة)، وأفادت حزب الله، على الرغم من خسائره الفادحة، في إعادة ترميم سلاح الاتصالات لديه بسرعة وفقدان إسرائيل بالتالي سهولة التنصت على الأجهزة التي تم تفجيرها، وتعجيل إجراء الحزب تقييماً لما حصل وتحقيقاً أمنياً داخلياً وخارجياً، وفق ما أعلن نصرالله في خطابه.

الأمر الثاني الذي يُمكن عدّه فشلاً إسرائيلياً، هو عكس مشاعر عدم الرضا عن حزب الله من قبل بيئات أُخرى، ولا سيما السُنيّة والدرزية، والتي كانت قد تبدلت أول مرة بعد استجابة الحزب في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بإطلاق معركة المساندة من عدم رضا إلى تأييد ودعم ومصالحة وإعادة بناء تحالف عسكري وسياسي مع “الجماعة الإسلامية” السنية، بعد أن ساءت علاقتهما بعد احتلال الحزب بيروت في أيار/ مايو 2008، ثم بسبب افتراقهما إزاء الحرب في سورية، والتي ناصر فيها الحزب النظام، وناصرت الجماعة المعارضة.

هذه المشاعر التي سادت بعد عملية “طوفان الأقصى” بدأت بالتلاشي لاحقاً عندما أدركت البيئة السنية أنه لا يوجد قراراً بحرب واسعة ضد إسرائيل، وأن غزة باتت وحيدة، وأن معركة المساندة لن تفيد القطاع بشيء. لكن يبدو أن التفجيرات، ومن ثم تأكيد نصرالله أن مساري مساندة الفلسطينيين في غزة والضفة، والرد على مجزرة اللاسلكيات منفصلين، فالأولى مستمرة ومرتبطة بما يجري في غزة، ولن تتوقف إلا في حال توقف العدوان الإسرائيلي هناك، والثانية قائمة حتى ولو توقفت الحرب على غزة.

ما يُمكن تسجيله أيضاً، أن العلاقة بين حزب الله والحكومة اللبنانية تزداد تلاحماً، فرسمياً تحرك لبنان نحو المجتمع الدولي لدفعه نحو إدانة إسرائيل، وعمل على رفع شكوى إلى الأمم المتحدة بهذا الشأن.

هكذا، فإن هدف تفكيك بيئة حزب الله الداخلية، والبيئة اللبنانية غير المعادية أساساً للحزب، يكون قد أفشلته عملية التفجير، بل إن خسائر إسرائيل لدى الرأي العام الدولي تعززت، كون ما جرى اعتبر جريمة حرب موصوفة.

الأمن الإقليمي والدولي

صحيح أن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل خصوصاً، وحلفائها وحلفاء إسرائيل في الغرب عموماً، أمر مُعلن وواقع ومتماد إلى حد السكوت عمّا تقترفه إسرائيل من إبادة ومن ضرب لجميع القوانين والشرائع الدولية، لكن أولئك الداعمين والساكتين، يتفقون على رفضهم، أو على الأقل عدم تحبيذهم، توسع الحرب في غزة إلى حرب إقليمية؛ ويمكن القول إنهم نجحوا حتى الآن في احتواء الأمر ضمن حرب الإبادة في غزة، والتطويع في الضفة الغربية، سواء من خلال الضغط إسرائيلياً، أو على لاعبين رئيسيين إقليمياً، ولكل من اللاعبين الرئيسيين في الإقليم مصلحة يسعى للحفاظ عليها أو تعزيزها، وبالتالي من حيث يريد هؤلاء اللاعبين أو لا يريدون، يتم الأمر على حساب الفلسطينيين وقضية فلسطين.

وسط ستاتيكو الحرب في فلسطين والإسناد من لبنان بشكل رئيسي ومن اليمن، والأقل من العراق، والحفاظ على تفاهم عدم توسيع الحرب إلى إقليمية، جاءت تفجيرات أجهزة اللاسلكي الخاص بحزب الله لتُدخل عاملاً جديداً على المعادلة، سوف يُفضي إن عاجلاً أو آجلاً إلى انفلات أمني قد لا تتمكن جميع قدرات الموفدين، الفردية أو المؤسسية، من احتوائه.

صحيح أيضاً أن القدرة على اعتراض سلسلة التوريد، وزرع عبوات في الأجهزة، أو إنشاء شركات صورية للتغطية على عمليات استخباراتية، ومن ثم تفخيخ دقيق للأجهزة بتكنولوجيا متقدمة، تحتاج إلى قدرات دولة وليس أفراداً أو مجموعات، لكن مجرد تنفيذ العملية فتح الأعين وشغّل الأدمغة على البحث عن سبل لتقليد الجريمة الإسرائيلية، ولو بنسخة أقل كفاءة؛ فحتى القنبلة النووية التي تحتاج إلى قدرات دولة قادرة، ثمّة “قنبلة قذرة” تقابلها يُمكن لأي فرد أو مجموعة أن يصنعها.

لقد فتحت حرب الإبادة على غزة، وحرب التطويع في الضفة كبداية للتهجير، احتمالات قيام دول أُخرى بالأمر نفسه، ومن دون خوف من حساب ومحاسبة، فإسرائيل تقترف ما لم يُقترف حتى الآن بتخل دولي، إن لم تكن موافقة ضمنية، فلماذا لا تحذو دول أُخرى حذو إسرائيل؟

واعتراض سلسلة توريد، أو إنشاء شركات صورية بسهولة، وتزوير منتجات إلكترونية، ليس بالضرورة حكراً على دول، فلأمر ممكن لـ “دول مارقة” أقل كفاءة، أو دول متعثرة، أو مجموعات عُنفية أو إجرامية في حيّز دولاتي غير مسيطر عليه، الأمر الذي يفترض أن الأمن الإقليمي والدولي بات على كف عفريت الجريمة الإسرائيلية بحق آلاف اللبنانيين من بيئة حزب الله، وعدد كبير منهم من المدنيين.

على دول الإقليم وعلى العالم كله الحذر منذ الآن من أن كل شيء ممكن، ما دام كل شيء مباح لإسرائيل.

ربما هذه المخاوف دفعت حكومات تايوان وهنغاريا وبلغاريا، واليابان، حيث شركات متورطة بعلم أو من دون علم، إلى المسارعة في فتح تحقيق أمني بصلة شركات وطنية أو مسجلة في دولة من تلك الدول بالحدث اللبناني الأخير.

ومرور أخير على حدث كبير، لم يعد في مقدمة الأخبار: الحرب الروسية الأوكرانية التي يجري الكثير من تطوراتها من دون تركيز إعلامي عليها، حيث تتم الإضاءة عندما يحدث شيئاً خارج الستاتيكو هناك، مثل احتلال الجيش الأوكراني جزءاً من إقليم كورسك الروسي.

الدول المصنعة والاقتصاد العالمي

قد يعتبرها البعض تأثيرات جانبية، لكن قد يكون لها أثر ليس بالضعيف؛ إنه الأثر الاقتصادي لعملية التفجير على الدول المصنعة، واستطراداً على الاقتصاد العالمي، فيما لو لم يتم احتواء تفجيرات اللاسلكيات الخاصة بحزب الله.

عودة هنا إلى الدول ذات الصلة بالأجهزة التي تم تفجيرها، حيث بادرت الشركات تلك إلى نفض يدها من الصفقة: فلا تايوان صنعت، ولا هنغاريا بدورها، وبلغاريا تحقق، واليابان توقفت عن صناعة الووكي توكي المتفجر في لبنان منذ 10 سنوات، والفرع الأميركي أعلن أن ثمة الكثير من الأجهزة المقلدة والمزورة، والجميع أبدى استعداداً للتعاون مع التحقيق اللبناني.

لم يكن ذلك نكراناً من أجل النكران، ولا استعداداً للمساعدة حباً بلبنان، بل خوفاً من أن سوق تلك الشركات سوف يتأثر سلباً، بعد أن يبدأ الزبائن المفترضين في فحص تداعيات الأمر مالياً وعلى تجارتهم، ويبدأ المستهلكون بأخذ الحيطة والحذر من إمكانية أن تقوم أي جهة بالعبث بتلك الأجهزة.

أبعد من ذلك، فلنتصور أن عدداً من سلاسل الإنتاج والتوريد اعتُرضت بشكل متتالي عالمياً، من قبل دول أو مجموعات، وتعطلت تلك السلاسل التي تطورت مع تطور الحقب الاقتصادية والاجتماعية ذات الصلة، فإن الاقتصاد محكوم بالعودة إلى وسائل الإنتاج والتوريد والنقل القديمة، وهو أمر شبه مستحيل، وإن حصل فهو كارثة للاقتصاد العالمي كله.

قد تكون هذه النظرية بعيدة عن الواقع، لكنها قابلة للتنفيذ ولو جزئياً، لكن تأثيرها سيكون مثل انهيار أحجار الدومينو، في ظل اقتصاد عالمي هش جراء استشراء الليبرالية الاقتصادية من جهة، وبتأثير الصدمات الطبيعية والحروب، وآخرها جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، ومن ثم حرب غزة وتأثيراتها الإقليمية، والحرب على لبنان، واحتمالات انعكاسات تلك العناصر مجتمعة السلبية عالمياً.

المصادر

1 عدد القتلى والجرحى مستخلص من تصريحات وزارة الصحة اللبنانية ومن وسائل إعلام لبنانية.

2 للمزيد عن لا مركزة التصنيع والنقل وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، انظر/ ي: ألفين توفلر، “حضارة الموجة الثالثة”، ترجمة عصام الشيخ قاسم (بنغازي: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1990)؛ وأيضاً:

THE FUTURE IS DECENTRALISED (UNDP):

https://www.undp.org/sites/g/files/zskgke326/files/publications/The-Future-is-Decentralised.pdf

3 لم يصدر إحصاء دقيق لعدد من فقدوا بصرهم جراء التفجيرات، لكن تسريبات ومشاهدات، قدمت وسطياً رقماً لا يقل عن ألف فاقد لبصره.

4 غسان أبو ستة وميشال نوفل، “سردية الجرح الفلسطيني: تحليل للسياسة الحيوية الإسرائيلية” (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2020)، ص 173.

5 “Exclusive: Hezbollah suspicions forced Israel to expedite Lebanon pager attack”, “Al-Monitor”, September 18, 2024: https://tinyurl.com/4yed5d83 ; Barak Ravid, “Israel conducted Lebanon pager attack fearing Hezbollah was onto the operation”, “Axios”, September 18, 2024: https://www.axios.com/2024/09/18/hezbollah-pager-explosions-israel-suspicions