سياسة الدعم في سورية وإفقار الفقراء
بعد أكثر من 13 عاماً على الحرب المدمرة في سورية، والتداعيات الكارثية التي نجمت عنها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، تفرض سياسة الدعم نفسها في النقاشات التي أثيرت مؤخراً بدءاً من رأس النظام وصولاً إلى مسؤولين حكوميين وباحثين.
إثارة هذا الملف تأتي في وقت حساس للغاية، إذ يعاني السوريون انهيار مستويات المعيشة، يظهر جلياً في النسبة المترفعة لمن هم تحت خط الفقر، والتي تصل إلى أكثر من 90 %، فضلاً عن ارتفاع التضخم إلى مستويات كارثية، وذلك بالتزامن مع استشراء الفساد والتهرب الضريبي، فيما لجأت الحكومات المتعاقبة إلى رفع الدعم عن بعض السلع لمعالجة عجز الموازنة.
إن طرح هذا الملف يجب أن يأتي في سياق السياسة العامة في البلاد منذ 20 عاماً وخصوصاً تبني اقتصاد السوق لتحديد المسؤولية فيما آلت اليه الأمور التي انعكست بشكل كبير على الفئات الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود.
مواقف حكومية
في الآونة الأخيرة تزايدت التصريحات على سياسة الدعم، وكان أهمها ما صرح به الرئيس بشار الأسد خلال لقائه اقتصاديين من حزب البعث الحاكم حيث وصف آلية الدعم المتبعة في سورية بأنها “أكثر بيئة للفساد”، معتبراً أن “الدعم يجب أن يكون لصالح الفقير لكن هو أفقر الفقير، والإجراءات التي تطبق لصالحه تنعكس عليه سلباً.”
تصريحات الأسد أُرفقت بحملة على وسائل إعلام رسمية وشبه رسمية بشأن الدعم باعتباره سياسة “مشوهة” و”غير مجدية”، وإلى وجود “هدر وفساد” مرتبط بها.
توقيت طرح هذا الملف الحساس يأتي في وقت تشهد سورية انهياراً اقتصادياً كبيراً، وتراجعاً في تقديم الحكومة للخدمات كالصحة والتعليم.
تحرير الاقتصاد على حساب التنمية
ويقول متخصصون إن الحديث عن الدعم وهيكلته ليس وليد هذه اللحظة، بل بدأ منذ نحو 20 عاماً، لافتين إلى أن “الدعم بشكل عام هو مجموعة من الإجراءات تتبعها الحكومات لأسباب اقتصادية واجتماعية للحد من التشوهات في الدخل ولدعم الطبقات الفقيرة وغيرها بهدف الحفاظ على امن المجتمع.”
ويرى مختصون إن السياسة المتبعة منذ المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم بعد تبني مفهوم “اقتصاد السوق الاجتماعي”، والخطة الخمسية العاشرة 2006 – 2010 على الرغم من أهميتها باعتبارها أحد أبرز إنجازات التخطيط التنموي السوري هي بداية الحديث عن الدعم وتأثيره.
لقد تم وضع الخطة الخمسية العاشرة 2006 – 2010 بوصفها خطة تأشيريه لإنجاز عملية تحول اقتصادي اجتماعي عميقة تنقل سورية من مرحلة الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وتتبنى سياسات مناصرة للفقراء وتطوير المناطق الفقيرة والمهمشة وادماجها في عملية التنمية.
إلا أنه عند بدء تنفيذ الخطة تم تحويلها إلى عملية تحرير اقتصادي مفرط في ليبراليته مع إلغاء أي توجه تنموي لفائدة الطبقات الفقرة، وتم تسخير تلك الخطة لتطوير شريحة جديدة من شريحة رجال الأعمال الجدد، مما أسفر عن نتائج اقتصادية واجتماعية وخيمة ساهمت في جزء منها بانفجار الوضع السوري في سنة 2011.
مبررات لرفع الدعم
بعد بدء تطبيق السياسة التحريرية الليبرالية في سورية صدرت الكثير من التشريعات والقوانين التي تخدم مصلحة رجال الاعمال الجديد بالتزامن مع بدء خطاب حكومي يتحدث عن تشوهات في سياسة الدعم وضرورة إيصال الدعم الى مستحقيه مع التركيز على القطاع الخدمي كأولوية حساب القطاع الإنتاجي (الزراعة والصناعة).
وكانت بداية رفع الدعم برفع أسعار المشتقات النفطية بحجة تهريبه لأن أسعارها متدنية مقارنة بدول الجوار، الأمر الذي أدى الى تأثر قطاع الزراعة والعاملين به بشكل أساسي، وتزامن ذلك مع أسوأ مواسم جفاف شهدتها سورية منذ عقود خلال الفترة 2007 ا – 2010، وأدى إلى انهيار القطاع الزراعي تقريباً باعتباره أحد أهم قطاعات الاقتصاد ومصدراً رئيسياً للعمل والدخل لمئات آلاف السوريين الذين يعملون فيه، أو في نشاطات مرتبطة به. وأسفر ذلك عن تداعيات اقتصادية واجتماعية كبرى، واضطر مئات الآلاف من ملاك الأراضي الزراعية وعائلاتهم إلى هجر أراضيهم والانتقال للعيش على أطراف المدن الكبرى.
تمركز الثروة وانسحاب الدولة
لقد انسحبت الدولة بشكل شبه كلي من النشاط الاقتصادي، وعولت على القطاع الخاص في الاضطلاع بوظائفها، وحقق ذلك نسب نمو عالية على حساب التنمية، وتراكم الثروة وسقوطها في سلال رجال الأعمال والفئات الأكثر ثراء على حساب المساواة وعدالة التوزيع.
وألقيت مسؤولية تأمين فرص العمل والاستثمار في البنية التحتية وقطاعات الصحة والتعليم على عاتق القطاع الخاص، وباتت الحكومة تنسحب من تأمين الخدمات للمواطنين، وترافق ذلك بتهميش دور النقابات والاتحادات العمالية لحساب رجال الأعمال الجدد.
وأدت السياسات المتبعة إلى ازدياد الفقر في البلاد، حيث قدر تقرير دولي أنه بحلول سنة 2011 وصل عدد السوريين الذين يفتقرون إلى الأمن الغذائي إلى 1,3 مليون شخص، فيما قدر عدد من يعيشون تحت خط الفقر بـ 2,3 مليون شخص أكثرهم في المناطق الريفية.
سياسات اقتصادية اعتباطية
اتبعت الحكومات السورية بعد اندلاع الأزمة سياسيات اقتصادية وصفها باحثون بأنها “عشوائية” و”مرتجلة” أدت إلى نتائج كارثية على الاقتصاد الوطني، وانهيار مستوى المعيشة إلى مستويات قياسية، والدخول في دوامة الركود التضخمي جراء عدد من العوامل، منها الاستدانة من المصرف المركزي، ورفع أسعار السلع والخدمات، فيما حمّلت الحكومات المتعاقبة العقوبات الغربية المسؤولية عن الأزمة تهرباً من الاعتراف بفشل سياساتها.
فقدت أدت السياسات المذكورة إلى نضوب الاحتياطي من القطع الأجنبي في البنك المركزي من خلال سياسة التدخل في سوق القطع للمحافظة على استقرار سعر صرف الليرة. كما أسهم منع منح القروض للمنشآت الصناعية بأضرار بالغة في عملية الإنتاج، فضلاً عن منح التجار تسهيلات ائتمانية مقابل ايداعاتهم بالعملات الأجنبية، الأمر الذي ساهم بانخفاض قيمة الليرة السورية، وخروج الرساميل الوطنية إلى العديد من الدول مثل تركيا والأردن ومصر والإمارات وغيرها.
وشهد الاقتصاد السوري تدهوراً كبيراً على الرغم من السيطرة الميدانية للنظام في سنة 2020، وقد دخل الاقتصاد، بحسب خبراء، في دوامة الركود التضخمي الذي ترافق مع ارتفاع سعر الصرف والسلع والخدمات مع تدني القدرة الشرائية للمواطن، إذ انخفض سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار من نحو 900 ليرة في بداية 2020 الى نحو 15000 ليرة في بداية 2024.
وعمدت الحكومات خلال الأزمة إلى رفع الدعم عن العديد من السلع، وخصوصاً المحروقات، مع تكرار المسؤولين نغمة أنها لا تزال تدعم تلك المواد وأن أسعارها تبقى الأقل مقارنة بدول الجوار، من دون ان يترافق ذلك بزيادة حقيقة في الرواتب والأجور، وهو أمر أدى الى وصول أكثر من 92 % من السوريين الى مستوى خط الفقر، فدخل المواطن في القطاع العام لم يعد يتجاوز 32 دولاراً شهرياً، وترافق كل ذلك مع استشراء الفساد بشكل غير مسبوق في القطاع العام، وبات الموظفون هم من يدعمون الحكومة لا العكس.
ترافق ذلك مع فشل في سياسة التحصيل الضريبي، إذ لم تتجاوز نسبة التحصيل 8,3 % بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي.
الإنتاج اولاً
يرى باحثون أن رفع الحكومة لأسعار المشتقات النفطية ومصادر الطاقة كان بهدف واحد هو معالجة عجز الموازنة العامة.
ويشير باحثون إلى أن زيادة الحكومة أسعار المشتقات النفطية والكهرباء، عمق الأزمة الاقتصادية التي يعيشها البلد جراء الحرب، لافتين إلى أن “النظرة المحدودة للمسؤولين الحكوميين في معالجة موضوع الموازنة برفع الأسعار كان على حساب الإنتاج.”
ويضيف الباحثون أن “تقديم الدعم للمؤسسات الإنتاجية أمر في غاية الأهمية، إذ إن ذلك يؤدي إلى توليد فرص عمل مباشرة وتشغيل مجالات مهنية أخرى مرتبطة بتلك العملية، وبالتالي توفير ما تحتاجه السوق المحلية من سلع، وتحقيق ضرائب، الأمر الذي يجعل الدعم ذو فائدة.”
إعادة النظر ضرورة ملحة
إن الازمة العميقة في سورية جعلت من إعادة النظر بمجمل السياسات الاقتصادية أمراً ملحاً لمعالجة كل السلبيات التي أوصلت البلاد الى حافة الدولة الفاشلة.
لذلك لابد من مراجعة شاملة عميقة للسنوات العشرين الأخيرة وللنهج الاقتصادي المتبع، وإعادة تحديد الأولويات مثل إعطاء الإنتاج بكل أنواعه الأولوية.
كما لابد من معالجة موضوع الدعم واعتباره إحد القضايا الأساسية التي لا يمكن التنازل عنها، وأن يتوجه الدعم للفئات الفقيرة وصاحبة الدخل المحدود والقطاعات الإنتاجية، بعد إجراء دراسات ومسوح إحصائية دقيقة، بالتزامن مع اجراء عملية محاسبة للحكومة بسبب خطورة الفشل بهذا الأمر وتداعياته الاجتماعية السيئة.
إنه من الملح فتح حوار وطني شامل للبحث في معالجة الأزمة، تشارك فيه جميع الأحزاب والمجتمع المدني والنقابات والفعاليات الاقتصادية والقانونية، فإخراج البلد من الأزمات هو مسؤولية مجتمعية بامتياز.
أما في حال بقيت العقلية والذهنية التي تدير البلد على المنوال ذاته من خلال تبني سياسات قاصرة وفاشلة، فإن ذلك لن ينتج سوى المزيد من التدهور الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي.