سورية وإمكانية الاستفادة من نموذج كوريا الجنوبية
شكلت زيارة وزير خارجية كوريا الجنوبية تشو تاي يول إلى سورية وتوقيع اتفاق لإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين حدثاً بارزاً على الساحة السورية.
ولاقت التصريحات الكورية الجنوبية عن رغبة دمشق في بناء شراكة استراتيجية مع سيول اهتماماً كبيراً، إذ إن كوريا الجنوبية تُعد أحد الأمثلة الناجحة للنمو السريع، وبالتالي أثيرت التساؤلات في العاصمة السورية عن ماهية هذا النموذج وعن الخطوات التي يجب اتباعها لتطبيقه في البلد.؟
ف كوريا الجنوبية التي قادها الرئيس بارك تشونغ (1961 – 1979)، تُعدّ أحد أبرز نماذج النجاح في التنمية الاقتصادية وتحوّل الدولة من الفقر إلى الازدهار، ومن دمار كبير في البنية التحتية إلى واحدة من أكبر الاقتصادات العالمية، من خلال قيادة بارك والأسس التي تبناها لبناء كوريا الحديثة.
فما هي أهم الأسس التي بنيت عليها التجربة الكورية، وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة في بناء سورية الجديدة؟
الاستقرار والحوكمة
لقد أدرك بارك أن التقدم الاقتصادي يحتاج إلى استقرار سياسي، فعمد إلى تأسيس حكومة مركزية قوية ركزت أولوياتها على تعزيز الانتماء وتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي.
وفي مجال الحوكمة عمد إلى تعزيز المؤسسات الحكومية ومحاربة الفساد عبر أنظمة رقابية صارمة ومن خلال لجنة تفتيش رئاسية.
كما أشرفت القيادة الكورية على المشاريع الاستراتيجية مباشرة لضمان الكفاءة والتقليل من البيروقراطية.
ومثلما كان حال كوريا الجنوبية بعد الحرب، فإن في سورية حاجة ملحة إلى تحقيق الاستقرار السياسي ومكافحة الفساد، من أجل الدفع بعجلة التنمية والتقليل من التحديات التي يمكن أن تواجهها والتي يعد الفساد من أبرزها.
التخطيط الاقتصادي
اعتمدت كوريا الجنوبية خطط خمسية ركزت على الصناعات التحولية والتصدير، وقامت استراتيجية بارك الرئيسية على “التصنيع الموجَه للتصدير”، وتركزت في البداية على دعم الصناعات الخفيفة (كالنسيج) مع استيراد تكنولوجيا الأساسية، ثم التحول إلى الصناعات الثقيلة (آلات والكيماويات)، ثم استثمار مليارات الدولارات في تطوير تكنولوجيا متقدمة كصناعة الإلكترونيات والسيارات، فضلاً عن إنشاء “المجمعات الصناعية الصغيرة المتخصصة” وجذب الاستثمارات الأجنبية.
مثل كوريا الجنوبية، يمكن لسورية أن تعتمد خطط إعمار شاملة تحدد القطاعات ذات الأولوية مثل الطاقة والبنى التحتية، ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، واجتذاب الاستثمار الأجنبي بضمانات قانونية وحوافز ضريبة، وخصوصاً مع توفر الموارد البشرية المتعلمة والماهرة، والتي تعد أحد أهم عناصر الإنتاج.
التعليم والابتكار
شهد التعليم في عهد بارك تحولاً جذرياً، واعتبر التعليم حجر الزاوية في تحقيق النمو الاقتصادي والتحول من دولة زراعية إلى قوة صناعية، ولذلك اعتمد بارك على سياسة تعليمية صارمة موجهة نحو خدمة أهداف التنمية، الأمر الذي ساهم في بناء ما يسمى بـ “معجزة نهر الهان”.
وقامت التجربة الكورية في عهده على اعتبار التعليم أداة لتحقيق الرؤى الاقتصادية، وعمدت الحكومة إلى تحقيق إلزامية التعليم والتوسع في الفرص، والتركيز على التعليم المهني والتقني، وتعزيز القيم الوطنية والانضباط.
في سورية يمكن الاستفادة من هذه التجربة من خلال إصلاح المناهج التعليمية مع التركيز على العلوم التطبيقية، وإنشاء مراكز تدريب مهنية بالشراكة مع القطاع الخاص، وربط الجامعات بسوق العمل، وبالطبع، ترسيخ القيم الوطنية والانتماء في المناهج الدراسية.
كما أنه بعد الأحداث التي شهدتها سورية هناك حاجة إلى بناء هوية جامعة لجميع الفئات والأعراق والطوائف، تقوم على تعزيز الانتماء للوطن وتكريسه لدى الطلبة، لما فيه من مصلحة جامعة لجميع السوريين في الحاضر والمستقبل.
البنية التحتية والتكنولوجيا
بنى بارك شبكة طرق سريعة وموانئ متطورة، فعزز بذلك النمو الاقتصادي لما وفره ذلك من ميزة سرعة الوصول. كما وضع اللبنة الأساسية لتحقيق التطور التكنولوجي، وأعطى قروض ميسرة لشركات الإلكترونيات، وسعى لحماية السوق المحلية، وهو ما أسهم في تطور منقطع النظير في القطاع التكنولوجي فيما بعد.
ولا شك أن سورية حالياً بحاجة إلى إعادة تأهيل الطرق والمطارات والموانئ بمشاريع مشتركة، ولا بد من أخذ الثورة التكنولوجية الحالية بعين الاعتبار من خلال إنشاء وتطوير البنية التحتية الداعمة للتحول الرقمي بأعلى المواصفات وعلى كافة المستويات.
علاقات في خدمة التنمية
خلال حكم بارك واجهت كوريا الجنوبية تحديات جيوسياسية خطيرة بسبب الحرب الباردة والمواجهة مع كوريا الشمالية، بالإضافة إلى الحاجات الملحة لبناء اقتصاد قائم على التصنيع والتصدير.
وقد نجح بارك في توظيف الدبلوماسية لخدمة أهدافه التنمية والأمنية، فتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، وطبّع علاقاته مع اليابان على الرغم من المعارضة الشديدة من قبل الشعب الكوري بسبب التاريخ الاستعمار الياباني السيء لكوريا (1910 – 1945)، كما انفتح على الصين بعض الشيء على الرغم من معاداته للكتلة الشيوعية.
ويمكن الاستفادة من هذه التجربة في سورية من خلال بناء تحالفات مرنة، أي بناء علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية من دون الانحياز الكامل، وتعزيز الدبلوماسية الاقتصادية من خلال استخدام العلاقات الخارجية لجذب الاستثمارات وتسهيل التصدير، وعدم إغفال الأولوية الداخلية؛ فالتنمية الاقتصادية يمكن أن تعزز الموقف التفاوضي في الداخل ومع الخارج.