سقوط نظام الاسد نهاية عقود من الدولة الأمنية في سورية

أثارت المشاهد من سجن صيدنايا سيء الصيت، بعد ساعات من سقوط نظام بشار الأسد في سورية، الصدمة والفزع في قلوب جميع السوريين، حيث قضى عشرات الالاف من المعتقلين بأقسى وسائل التعذيب، فيما كان النزلاء يتمنون الموت للخلاص من عذاب جلاديهم.

هذا السجن الذي وصف بأنه “مسلخ بشري” يمثل جانباً من دولة حكمت سورية لأكثر من 6 عقود عرفت باسم “الدولة الأمنية”؛ دولة لها ركائز وشعارات خاصة بها قامت على الشخصنة وتأليه الحاكم وتغول الأجهزة الأمنية التي ساهمت بالقضاء على معارضي النظام بأبشع الوسائل، وفي تطويق الحركة المجتمعية التي مُنعت من إمكانية تقدمها وتطورها.

الدولة الأمنية

في العقود الستة الأخيرة غابت الدولة التي تقوم على التوازن بين مؤسساتها وسلطاتها، ونمت “الدولة الأمنية” التي تقوم على الشخصنة وتغول السلطة التنفيذية واستئثارها بجميع السلطات، بوجود رغم شكلي للسلطتين التشريعية والقضائية، وبالتالي فإن رأس الدولة الأمنية سيطر بشكل مطلق على المؤسسات والموارد والمقدرات، عن طريقة أدواته وحلقته الضيقة بواسطة أجهزة أمنية متشابكة ومتداخلة ومنتشرة في جميع القطاعات، وأيضاً عبر آليات الفساد والإفساد وشراء الذمم.

جذور الدولة الأمنية

للدولة الأمنية في سورية جذوره، إذ يعتبر الضابط عبد الحميد السراج، رئيس المكتب الثاني “المخابرات العسكرية” في الجيش السوري (بين 1955 و1961)، مؤسساً للدولة الأمنية. فقد امتلك السراج نفوذاً عظيماً استطاع من خلاله ترويع السوريين ولعب دوراً كبيراً في الوحدة بين سورية ومصر وحل الأحزاب السورية، إلى أن سقطت الوحدة في سنة 1961.

هذه الممارسات الأمنية القمعية لم تنته بعد تسلم حزب البعث في 8 اذار/ مارس 1963 الحكم في البلاد، بل تصاعدت، ثم ترسخت “الدولة الأمنية” بعد أن سيطر الرئيس حافظ الأسد على مقاليد الحكم في سنة 1970 بعد انقلاب على القيادة القطرية برئاسة صلاح جديد.

لقد قوضت الدولة الأمنية في سورية أعقودا من النظام البرلماني الديمقراطي في سورية التي كانت تعتبر من أكثر الدول تطوراً سياسياً بنظامها الحزبي الديمقراطي القائم على التنافس والحرية السياسية والإعلامية، بالإضافة الى دستور متطور، هو دستور 1950 الذي أعده الرئيس ناظم القدسي، وهي مرحلة ولّدت ثورة صناعية قادتها البرجوازية الوطنية التي أنشأت شركات ضخمة، وباتت المنتجات السورية تصدر إلى الكثير من الدول، فضلاً على أن دخل الفرد كان من الأعلى في المنطقة.

ركائز الدولة الأمنية

يُعتبر المفكر السوري الكبير الطيب تيزيني من أهم من عالج نظرياً مسألة “الدولة الأمنية”، مُشيراً إلى أنها تستند إلى أربعة ركائز أطلق عليها اسم “قانون الاستبداد الرباعي” متمثلاً بـ: الاستئثار بالسلطة، والثروة، والاعلام، والمرجعية المجتمعية.

إن استئثار الدولة الأمنية بالسلطة، بحسب تيزيني، يقوم على كبح الحراك السياسي والأخذ بزمام الحياة السياسية، والعمل على تأمين سلطتها بمختلف الوسائل الأمنية السياسية، حيث تختزل المشهد السياسي في حزب أوحد، وحتى إن سمحت الدولة الأمنية بوجود أحزاب منافسة هشة فإن هذه الأحزاب الضعيفة تكون مخترقة وتحت عباءة حزب نظام الدولة الأمنية، لذلك فإن هذه المنافسة تكون شكلية، ولا تعبر عن الديمقراطية بقدر ما تعزز الاستبداد والديكتاتورية.

ويتمثل الاستئثار بالثروة من خلال السيطرة على المقدرات الاقتصادية الكبرى في البلاد من طرف العائلة الحاكمة وأشخاص يتبعون الدولة الأمنية “قيادات سياسية بعثية، مقربين من السلطة، مدراء عامين ووزراء” نجم عنها تشكل طبقة برجوازية طفيلية استثمرت الفساد في بناء ثروات هائلة، مما أدى الى تدمير خطط وقواعد التنمية في البلاد.

ويعبر الاستئثار بالإعلام عن الهيمنة المطلقة للدولة الأمنية على الإعلام بكل قنواته ومنابره وأدواته عن طريق بيادق تابعين للنظام وشركات ممولة من النظام، وحتى وإن سمحت الدولة الأمنية بإنشاء بعض القنوات والهيئات الإعلامية الخاصة فهي مغلولة ومحكومة ومراقبة محدودة التوجهات.

وتكون مهمة الإعلام تلطيف وتحسين الاستبداد والقمع بل وتزيينه بكل الألفاظ الجميلة، ومجافة الحقيقة في كل مؤشرات الواقع الاقتصادي والسياسي والأمني، وتصوير الوضع بأنه مثالي أو مربح، حيث لا يقل تأثيراً عن أدوات الإكراه، نظراً لما لها من تأثير كبير في أوساط الجماهير بقدرتها على تشكيل معتقدات الناس، وصناعة الرأي العام تجاه أي قضية تهم المجتمع.

أما الاستئثار بالمرجعية المجتمعية فيعني منح الامتيازات والصلاحيات لحزب النظام (حزب البعث)، وتمكينه من السيطرة على مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية باعتباره الحزب القائد للدولة والمجتمع، ومن ثم إلى ترسيخ الاستئثار بالمرجعية الاجتماعية وتدجين وتهميش الآخرين، وجعلهم في مرتبة دونية أو تابعة يحظون ببعض الامتيازات حسب درجة الولاء للنظام الحاكم وقائده وحزبه.

ليفسد من لم يفسد بعد

لقد أسست الدولة الأمنية في سورية عميقا للفساد والافساد منذ سبعينيات القرن الفائت، وكان شعار الدولة الأمنية “ليفسد من لم يفسد بعد”، فهذه الدولة تهدف من خلال هذا الشعار لاعتقال أي شخص عند الطلب خدمة للدولة الأمنية، وهذا الأمر ارتبط بجميع فئات الشعب.

بشار الأسد يستأثر بكل شيء

أما بشار الأسد فقد عمل على تعميق مفهوم الدولة الأمنية مختزلاً بعض أسسها وركائزها، وخصوصاً يتعلق بالاستئثار على الثروة والمرجعية، مسرعاً بذلك اانهيار الدولة الأمنية وتفككها.

ففي موضوع الاستئثار بالثروة عمل الأسد الابن منذ توليه الحكم في سنة 2000، على السطو على الاقتصاد الوطني والسيطرة عليه لحساب العائلة الحاكمة فقط، خلافاً لما كان عليه الأمر سابقاً، حيث كانت الافاق مفتوحة لمؤيدي حافظ الأسد بممارسة شكل من أشكال السطو على المال العام أو الاستفادة من الموقع السلطوي لتحقيق مصلحة، عبر العلاقة مع رأس المال المحلي أو الشركات العالمية، أو حتى المواطنين.

وتعمق ذلك خلال الازمة بقيام أسماء الأسد بتشكيل مكتب سري لإدارة الاقتصاد يعمق سيطرة العائلة الحاكمة عليها، وإرساء سياسة لصوصية تفرض الأتاوات على رجال الاعمال والصناعيين والحرفيين الكبار، مما عطل حركة الإنتاج وتسبب بهروب الكثير من المنتجين إلى خارج البلد، فضلاً عن سيطرة العائلة الحاكمة على أموال الكثير من رجال الأعمال الذين أسهمت الدولة الأمنية في جمعهم للثروات من الأقارب وأبناء المسؤولين وواجهاتهم الاقتصادية.

كما عمل الأسد منذ توليه الحكم على الحد من دور حزب البعث الحاكم كمرجعية، وتحويله الى هيكل كرتوني يسخره لخدمته في تغطية سياساته وأهدافه في اخضاع المجتمع، بدءاً بالتحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي في سنة 2005، وصولاً إلى اتباع سياسات رفع الدعم ومحاولة إعادة الدور للبعث في العام الأخير من حكمه.

وترافقت مرحلة الأسد الابن مع استفحال ظاهرة الفساد في كل مؤسسات الدولة والجيش، حيث أصبحت تلك المؤسسات محميات يقوم مدراءها والمتنفذين فيها بسرقة أموال الشعب، فيما أدى في الجيش إلى قيام الضباط على مختلف رتبهم بالسرقة وابتزاز العسكريين، من دون ان تكون هناك أية رقابة تذكر، واستفحال الفساد جراء الأزمة وانتشار الميليشيات، وتفشي اقتصاد الحرب الذي قام على مفردات التعفيش والترفيق والترسيم.