حياة الماعز بين التحديث القانوني وعمق الثقافة العشائرية

يمكن القول إن الضجة الإعلامية التي خلقها الفيلم الهندي “حياة الماعز”، أعادت إلى الأذهان إشكالية تعاطي دول الخليج مع مفهوم التحديث المجتمعي، هذا الإشكال المرتبط بمساءلة الواقع الخليجي عن حيثيات القيم الإنسانية، في خضم استقبال هذه الدول المتزايد لعدد من المهاجرين الأجانب، وعلى الرغم من التغييرات التي حدثت في السعودية على نظام الكفالة وتحديثات أُخرى في المملكة وفي دول خليجية أُخرى، فإن التحديث هو أبعد من نظام الكفالة، ومن السماح للمرأة بالقيادة، أو الترويج للمهرجانات الموسيقية والغنائية، إذ إن ردة الفعل السلبية اتجاه الفيلم كشفت عن عمق مثل التقاليد العشائرية في الثقافة المجتمعية، الأمر الذي يدعو إلى المزيد من الانفتاح الثقافي المجتمعي العلمي أولاً، وتحديث القوانين توازياً.

حوافز تحديث القوانين

يمكن الإشارة الى أن أحداث الفيلم تناولت نموذجاً واقعياً مصغراً لموضوع  كفالة العمالة في دول الخليج، خلال العقود السابقة، وأن الأمر يرتبط بسياق تجربة زمنية مختلفة نسبياً عن سياق تداول الفيلم الهندي، لأن هذا الوضع خضع تحت تأثير المنظمات الحقوقية الدولية إلى العديد من التغييرات التي تمس جوهر قانون العمل، إذ أقدمت مثلاً السعودية على مجموعة من التغييرات الخاصة بمواثيق الكفالة، حيث حاولت من خلالها تجاوز النقائص التي ضمها قانون الكفالة سابقاً، بالأخص النقاط التي تثير جدلاً، وتمنح الكفيل وصاية لا مشروعة على العامل، من خلال تحسين العلاقة التعاقدية للعاملين، وهي المبادرة التي تكلفت بها وزارة الموارد البشرية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، وهو ما كانت قد  أعلنته في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، في إطار رؤية مستقبلية تمتد إلى العام 2030.

هذه الاستراتيجية التي تحاول أن تحدد أفق مستقبلي لنظام كفالة يتماشى والمشترك القيمي الكوني، الغت الوصاية العلنية الممنوحة لصاحب العمل على العامل، فيما يخص التنقل والسفر واختيار العمل وصاحب العمل، في إطار التخلي التدريجي عن نظام الكفالة الذي استمر لأكثر من 72 سنة، بنظام عمل تعاقدي يحفظ حقوق العامل، حيث قدمت السعودية خلال سنة 2021 إصلاحات جديدة للتخلص من نظام الكفالة، أو التوجه نحو تسييج نظام الكفالة بمواثيق أو عقود العمل المتداولة عالمياً.

الفيلم الهندي تمّ استلهامه من قصة حقيقية، وهي رواية كتبت قبل 25 عاماً، وترجمت الى أكثر من 25 لغة، كما أنّها حازت العديد من الجوائز ورُشحت لجوائز أخرى. وقد نسلم أن الفيلم السينمائي ربما حمل الكثير من التأثيرات والتغييرات، لكن عمق الرسالة التي حملها بشكل ناعم، هي أن حياة الماعز (العمالة الأجنبية) في صحراء الخليج، هي حياة أشبه بحياة الحيوانات، لكنها ليست حيوانات متوحشة أو لاحمة أو مؤذية، بل هي حيوانات أليفة لا حيلة ولا قوة لها أمام راعيها أو كفيلها. حياة يسلم صاحبها أمره لراعيه والمسؤول عنه، كأنه فرد ضمن قطيع الماعز، لا يحتاج سوى لقوت يومه ورضا كفيله، وبما أن السينما هي عبارة عن قوة ناعمة تمارس تأثيرا لا يستهان به، فقد أثار العمل الفني من جديد إشكالية الكفيل في الخليج العربي، وأعاد للنقاش العديد من نماذج وقصص لا إنسانية حدثت بالفعل في المنطقة، مما استوجب طرح السؤال: هل تنزيل المظاهر الحداثية كفيل بتحقيق حداثة حقيقية؟ أم أن التنزيل يغلف المجتمع بنوع من الحداثة الأداتية أو الحياتية، دون أن تمس عمق وجوهر الوعي الجمعي للمجتمع الذي بني على ذهنية مختلفة نسبيا عن التوجه الحداثي الغربي؟

البحث عن أرضية مشتركة

إن الحاجة إلى الانفتاح على المختلف، تستدعي بالضرورة وجود أرضية مشتركة ومتوافق عليها، تحتكم لعدة قانونية وقضائية، تتأسس بالتبعية على العدة القيمية الإنسانية في بعدها الكوني، وليس على عدة ارتجالية، تتأسس على مفاهيم العطف والإحسان والصدقة والكفالة والرعاية، فالمهاجر يتوجه لدولة معينة في إطار عمل، وليس نحو إطار رعاية أو كفالة فوقية، أو حتى عملية ترفع لافتة الإحسان الفردي بمنطق ارتجالي يغلف برداء ديني، وهو الوعي الذي يظل بالمجمل متمسكاً بنمطية قبلية وعشائرية، تنتعش على التفوق المادي والنظرة الاستعلائية، التي تتأسس على نظرة الرعاية والكفالة تجاه هذا الآخر الوافد.

كل هذا يضعنا أمام اصطلاح يضمر أكثر مما يفصح، فمفردة الكفالة هنا تعني ضمنياً وجود رعاية فوقية يتسلمها الشخص المستقبل على الشخص الوافد، الأمر الذي يرسم تراتبية وجودية، تؤسس لوصاية علنية، تنزع عن العامل قوامة القرار والرأي لمصلحة المشغل، بدواعي استعلائية وخدماتية. كما أن مصطلح الكفيل هو ذاته يحيل على نوع من التكفل بالآخر، والتكفل بالعادة يكون لشخص لا يستطيع التكفل بنفسه، فنسقط في وصاية معلنة ما بين مشغل يحتاج لعامل، وعامل يحتاج لشغل، فيضيع هنا المنطق المؤسس للعلاقة نفسها التي يقوم عليها منطق العمل.

إن الانفتاح على العالم، يوجب انفتاحاً يتماشى وشروط المشترك الكوني، والتخلي بالمقابل عن الوعي الجمعي الضيق، لأنه يخضع لأرضية تشاركية، تسمح ببناء علاقة إنسانية تعلو عما هو عشائري.

ردود الأفعال تعكس أزمة

عكست ردود الأفعال أزمة وعي حقيقية، فعلى سبيل المثال، وبالنظر إلى ردود أفعال السعوديين، نلاحظ تكريس المزيد من أنماط وسلوكيات “حياة الماعز”، فعندما تصور خادماً أو خادمة، بغرض تقديم شهادة إيجابية في حق المشغل، هذا في حد ذاته ينطلق من رؤية ضيقة، ترفض مواجهة آثار أفعالها خارج المدار الذاتي، وتسعى لإرضاء الكفيل الذي ينتعش على كلمات المدح والثناء من طرف العامل، أو كما يقال الثناء على أصحاب النعم. المشغل ليس صاحب النعمة، ولا العامل يعمل لإرضاء المشغل، العلاقة هي علاقة تبادلية خدماتية، لا أحد منهما يزايد بالفضل على الآخر. وما يجب استيعابه هو أن ما أثاره الفيلم لا يجب أن نتعامل معه من منطق السب أو النقد الجارح، بل هو واقع، حتى وإن لم يكن بشكل إطلاقي، لكنه واقع لمجتمع يملك ثروات جعلته يستقطب العمال، لكن هذا الاستقطاب بشكل متواز لم ترافقه منظومة قانونية وتشريعية، تراعي علاقة العامل بالمشغل، كما لم يرافقه تهيئة أو تبيئة تدمج الصيرورة الزمنية للعدة الاصطلاحية الحياتية المعبرة عن هذه الصيرورة.

المأسسة القانونية والوازع الديني

القيم الحداثية لها أهمية بقدر أهمية استلهام الحداثة، ولا يمكن الترويج لخليج حداثي، بينما عمقه لا زال يعيش على وقع النمط العشائري. ووجبت الإشارة إلى أن الأمر هنا لا يتعلق بالدعوة للتنصل من الهوية المؤسسة لهذه المجتمعات، بقدر ما هي دعوة لتحريك العجلة الزمنية للعدة المفهومية المؤطرة للبنية الحياتية لهذه المجتمعات، بما يتوافق والقيم الإنسانية المتعارف عليها.

التغاضي عن أهمية المأسسة القانونية للقيم الانسانية مع الآخر، وتغليب كفة الوازع الديني، غالباً ما يعمل على تعاظم آليات العنصرية ومظاهر المتاجرة بالبشر، ويخلق مسافة ما بين السياسة المعلنة وواقع الأمر.

والتعامل مع النقد يجب أن يكون بشكل بناء، بعيداً عن الترويج لفكر التآمر والاستهداف الخارجي، إذ تظل مجرد ذرائع تغلف واقعاً متعارف عليه، وتخندق الذات في قالب منعزل يعمل على إطالة الوضع لا تغييره.

دول الخليج لا تمثل النموذج الدولي الوحيد الذي عمل وفق نظام الكفالة في العمل، والذي أثار العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، فإسرائيل بدورها كانت ولا تزال بشكل غير مصرح به، تعمل وفق بنود الكفالة في إطار ما يسمى “نظام الالزام”، الذي تم الغاؤه سنة 2006 استجابة للنداءات الحقوقية العالمية، طبعا يظل السياق المجتمعي لمختلف الدول يضمر سلوكيات لا تواكب هذه التغييرات. إذن، قد يكون الاختلاف مرتبطاً بالقدرة على الاستجابة لمنطق المواكبة الزمنية التي تلحق الدول بالركب القيمي الكوني، لهذا فإن مطلب مواكبة التغييرات للتوجهات القيمية العالمية، هو مطلب ضروري للدولة الكفيلة بالدرجة الأولى، قبل أن يكون مطلبا حقوقياً عالمياً.