حل أزمة المصرف المركزي في ليبيا وانعكاساته

أعلنت الحكومة المكلفة من البرلمان في شرق ليبيا في 3 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، رفع حالة القوة القاهرة عن جميع الموانئ والمنشآت النفطية، واستئناف عمليات الإنتاج والتصدير بشكل طبيعي، عقب تسوية أزمة المصرف المركزي واستلام المحافظ الجديد ونائبه مهام المنصب، بعد أداء القسم القانوني أمام هيئة مجلس النواب بشرق ليبيا.

ففي يوم الإثنين الأخير من شهر أيلول/ سبتمبر الفائت، أصبح ناجي محمد عيسى محافظاً للمصرف المركزي، ومرعي البرعصي نائباً له، نتيجة مباشرة لاتفاق مجلس النواب مع المجلس الأعلى للدولة برعاية البعثة الأممية إلى ليبيا، لتغلق بذلك أسوأ أزمة عرفتها المؤسسة المالية الليبية منذ سقوط نظام معمر القذافي.

أصل الأزمة

وكانت الأزمة في المصرف المركزي الليبي بدأت مع إعلان المجلس الرئاسي، ومقره طرابلس، غرب البلاد، برئاسة محمد المنفي قراراً يقضي بعزل محافظ البنك المركزي الصديق الكبير، وسط رفض كامل وبات من مجلس النواب، مما دفع الأخير إلى الإعلان عن استمرار غلق حقول النفط والغاز.

كان قرار تغيير الصديق الكبير كمحافظ للمصرف المركزي، مسألة لافتة كونه المحافظ الذي قبض على مصرف ليبيا، منذ سقوط نظام القذافي، واستطاع امتصاص جميع التغيرات السياسية التي حدثت بالبلد خلال السنوات الأخيرة، وتنقل في علاقاته بالأجسام السياسية بمرونة وخفة لافتين: مرة في تبدل حميمية تلك العلاقة مع رئيس الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، وتعكر صفوها خلال العامين الأخيرين على خلفية منح الأموال لحكومته، وأخرى من تحسن تلك العلاقة مع القوى في الشرق الليبي بعدما كان الخلاف يسيطر عليها.

ثمة تقدير يصعب تجاوزه في أزمة المصرف المركزي، كون تلك الأزمة عكست في حقيقتها التنافس والصراع بين الأجسام السياسية في ليبيا، بهدف التحكم في المناصب الرئيسية، ولاسيما تلك المتعلقة بالأموال.

النظر بدقة لمسار الأزمة ونتائجها، يفضي إلى أن المنتصر الحقيقي في هذه المسألة، كانت البعثة الأممية، إذ لم يستطع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إعادة الصديق الكبير لمنصبه، بينما فقد عبدالحميد الدبيبة مرونة التعامل مع شخص واحد، ويواجه حالياً محافظاً ونائباً له ومجلس إدارة، الأمر الذي يعني وجود قيود على منح الأموال التي كان يتلقاها بيسر من المحافظ السابق، بينما باتت البعثة الأممية بقيادة ستيفاني خوري، حاضرة بقوة في المشهد من خلال نجاحها فض الأزمة، وأضحت على عتبة آمنة لمعاودة الأمر نحو الجلوس مع الأطراف السياسية، وتكرار النجاح صوب تشكيل حكومة تنفيذية وتوحيد المناصب السيادية وتهيئة البلد للاستحقاقات الانتخابية.

الصورة مازالت قاتمة

ثمة ارتباط فيما بين الحالة الاقتصادية والسياسية في المشهد الليبي، فكلما تعمق انسداد الأزمة السياسية في ليبيا كلما ضاعف ذلك من معاناة المواطنين في بلد غني بثرواته النفطية. بدا ذلك واضحاً خلال الفترة الأخيرة من تفشي السوق الموازية للدولار والحديث عن رفع الدعم عن المحروقات وارتفاع أسعار المنتجات وتزايد معدلات التضخم.

قد تبدو الصورة قاتمة أمام المواطنين، وخصوصاً مع ترقب حالة الصراع بين السلطة الحالية للمصرف ونائبه من جهة، والمجلس الرئاسي من جهة أخرى، والذي كُلف سابقاً إدارة للمصرف، والجميع يتساءل كيف ستمضي الأمور.

فالتحدي الرئيسي أمام إدارة المصرف المركزي الليبي الحالية، ضبط الانفاق العام في البلاد بين حكومتين متنافستين من دون رقابة حقيقية، فضلاً عن أهمية توحيد سعر الصرف، وخفض معدلات التضخم ودعم العملة المحلية وتحسين معيشة المواطنين.

في هذا السياق يشير الباحث السياسي والقانوني عبدالله الديباني، إلى أن هذا التوافق الذي حدث بين مجلس النواب ومقره طبرق شرق ليبيا برئاسة المستشار عقيلة صالح،  والمجلس الأعلى الدولة برئاسة خالد المشري ومقره طرابلس غرب البلاد، بشأن منصب سيادي مهم، والمتمثل في مصرف ليبيا المركزي، وهو من المناصب السيادية التي نص عليها الاتفاق السياسي، يفتح على كثير من السيناريوهات المتعلقة بمصير البلاد خلال الأفق المنظور، وسط التوتر السائد في المنطقة.

يتابع الديباني تصريحاته الخاصة لـ “التقرير العربي”، قائلاً: “على أية حال ما جرى خلال الأيام الأولى من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، يفتح المجال أمام مساحات في المنطقة الغربية، قد تبدو مجالاً لعمل مسلح نتيجة اختلاط الأوراق، وقدرة مجلسي النواب والأعلى للدولة برئاسة خصم رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيية. بيد أن رعاية البعثة الأممية لذلك الاتفاق سيحد من هذا العمل قليلاً من دون أن نستبعد توفر كل مقومات حدوثها.”

ويبين الديباني تناقض مكونات المشهد في تلك اللحظة، مع دخول طرف المجلس الرئاسي (شريك الحكومة في طرابلس)، إلى المعادلة القائمة مما يضفي تناقضات عميقة داخل الأفق السياسي، وتحديات جديدة بشأن تسمية المناصب السيادية والهيئات التشريعية، وصولاً لانتخاب حكومة تنفيذية قادرة على تهيئة وتنفيذ الاستحقاق الانتخابي على منصب الرئيس وكذا التشريعي.

يختتم الديباني تصريحاته، مؤكداً أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية يدرك الانفلات الميداني في الشرق الأوسط، وتحرك كافة القوى الدولية نحو ضبط الوضع من دون أن تنزلق الأقدام خلف حرب شاملة، قد يكون المبرر المنطقي لعدم اتخاذ قرار رحيل حكومته وكذلك بقية الاجسام المحلية.

إذاً على الرغم من التقدم الايجابي الذي بدا واضحاً في غلق أزمة المصرف المركزي وإعادة إنتاج النفط الليبي من جديد، فإن كل مسببات عودة الأزمة حاضرة وفاعلة، كون فض ما جرى جاء بضغوط دولية نتيحة إعلان القوة القاهرة وانشغال المجتمع الدولي بالأحداث في الشرق الأوسط. ويمكن القول إن سيناريوهات الملف الليبي لن تحسم في المدى الزمنى الممتد حتى نهاية العام الجاري، بل سيترقب جميع الفاعلين المحليين مشهد الانتخابات الأميركية، وما سينتج عنه، وكذلك مشهد الشرق الأوسط والنتائج المترتبة عليه، مما يشي بسيناريو مرجح، هو أن يحرص الجميع في الداخل الليبي على منصبه ونفوذه، حتى تتبين الصورة. غير أن ذلك لا يمنع من تدخل الفاعلين الدوليين والإقليمين متى كان ذلك ضرورياً وملحاً، مثلما حدث في أزمة المصرف المركزي.