تأثير انحطاط الموسيقى في البلاد العربية على الذوق العام

مرت الموسيقى في العالم العربي بتحولات هائلة على مدى العقود الماضية. فمع مطلع القرن العشرين، ازدهرت فنون الموسيقى العربية بشكل ملحوظ، من خلال ظهور أجيال من الموسيقيين والملحنين الذين أثروا الساحة الفنية بإبداعات خالدة كانت الموسيقى تعبر عن أصالة الثقافة العربية، وتحاكي مشاعر الناس، وتجمع بين الحداثة والتراث.

لكن مع مرور الزمن، شهدت الموسيقى العربية تراجعاً ملحوظاً في الجودة والإبداع، وانتشرت أنواع جديدة تفتقر إلى العمق الموسيقي والفني.

ازدهار في القرن الماضي

القرن العشرون كان بمثابة العصر الذهبي للموسيقى العربية، إذ شهدت هذه الفترة بروز أسماء لامعة من مؤلفين ومغنين لا زالت حاضرة إلى اليوم مثل أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وفيروز، وبليغ حمدي، وغيرهم الكثير من الأعلام، حيث كانت الموسيقى آنذاك مزيجاً من الشعر الفصيح والعاطفة الصادقة واللحن المعقد، مما جعلها قريبة من قلب المستمع العربي.

وكما وصفهم عازف العود السوري والباحث في التاريخ الموسيقي شبلي اسليم في حديثه لموقع “التقرير العربي”، فإن “الأعلام في الموسيقى العربية كانوا خريجي المدارس اللغوية الرصينة؛ اللغة المرتبطة بالعَروض والإيقاع بشكل كبير تؤثر بشكل أساسي على إنتاج العمل الفني، كما ساهم حفظ القرآن وعلوم تجويده في إثراء أداء الفنانين آنذاك.”

وأضاف “تلك المرحلة تميزت بالأصالة والعمق الفني في الإنتاج الموسيقي حيث ركز المؤلفون على إنتاج أعمال موسيقية متكاملة تعتمد اللحن المعقد المرتبط بالكلمات ذات المعاني السامية والإنسانية التي تعبر عن الحالات الشعورية المختلفة والتي تلامس وجد المتلقي بشكل مباشر.”

وتابع “هذا العمق إلى جانب الانفتاح آنذاك سمحا بوجود تنوع موسيقي أغنى المكتبة العربية وساهم بازدهارها، فأبدع الفنانون بإنتاج الأعمال الشعبية والفلكلورية وأخرى شعورية أو وطنية، بالإضافة للأعمال التي تجمع بين موسيقى من عدة حضارات، كالموسيقى الكلاسيكية التي انتجها الأخوين الرحباني متأثرين بالنهج الكلاسيكي الأوروبي.”

وعلى الرغم من تمسك العديد من الفنانين بالتقاليد الموسيقية العربية، إلا أن العديد منهم سعى لإدخال عناصر جديدة إلى الموسيقى، سواء من خلال التوزيع الموسيقي أو من خلال استخدام الآلات الغربية، ما فتح مجالاً واسعاً أمام الفنانين لتطوير وتجديد المكتبة الموسيقية العربية بشكل فعال.

القمع السياسي

يعزو اسليم انحدار جودة الإنتاج الموسيقي العربي للقمع السياسي الذي أثر بشكل مباشر على تعليم اللغة والفن لا سيما أن للفنانين تأثير كبير في المجال السياسي، ما أدى للتعامل مع الموسيقى الكلاسيكية “على أنها مستحاثات وآثار لا يجب لمسها أو التقرب منها أو تحليلها، إلى جانب التقليد الأعمى للموسيقى الغربية”، كما أدت الاضطرابات السياسية والاقتصادية لإضعاف الدور التقليدي للفنانين في المجتمع على حد وصفه.

وقال “بعد تأثر طويل بالموسيقى الغربية ظهر ما يعرف بالموسيقى العربية البديلة وهي أصناف غنائية متنوعة بعضها مبني على أساليب غير معهودة في الموسيقى العربية والبعض الآخر مبني بشكل حر دون التزام بقواعد الموسيقى، ومنها ما هو مأخوذ من الموسيقى الغربية أو غيرها. وهي موسيقى أو أغان قصيرة لا تحتاج إلى الدخول في معترك المقامات والعلامات والبناء الموسيقي الحساس”.

التجارة بدل الجودة

بدورها، قالت مدرسة العود في المعهد العربي الكندي منار نعيم للتقرير العربي بأنه “مع تطور وسائل الإعلام والاتصالات وظهور الفضائيات، أصبحت الأغاني تُنتج بشكل سريع من أجل تحقيق مكاسب تجارية، فاهتمت بعض شركات الإنتاج بتحقيق أكبر قدر من الأرباح من خلال إنتاج أغاني سطحية وقصيرة لا تهتم بالجودة الفنية بقدر ما تهتم بالجاذبية اللحظية.”

وتشير نعيم إلى أن الأغاني الحديثة باتت تعتمد على لحن بسيط ومتكرر، مع كلمات سطحية لا تحمل أي قيمة فنية أو ثقافية، على عكس الأغاني الكلاسيكية التي كانت تعتمد على ألحان معقدة ومتنوعة، وكلمات تحمل معنى ورسالة عميقة.”

وتابعت “كما لعبت العولمة دوراً كبيراً في تغيير الذائقة الموسيقية في العالم العربي. مع انتشار الإنترنت، أصبحت الأجيال الجديدة أكثر تعرضاً للأغاني الحديثة، وبدأت تتأثر بأسلوبها وتستهلك المنتجات الموسيقية ذات الطبيعة السريعة والتجارية، أدى هذا إلى تراجع الاهتمام بالتراث الموسيقي العربي، وأصبحت الأذواق تتوجه نحو أنماط موسيقية مثل البوب والراب، التي تعتمد بشكل رئيسي على الإيقاع والكلمات السريعة بدلاً من الألحان المعقدة والكلمات المعبرة.”

انحطاط الموسيقى والمجتمع

تراجع الموسيقى العربية لم يكن مجرد مسألة فنية، بل له تأثيرات أعمق على المجتمع ككل. فقد كانت الموسيقى في الماضي وسيلة لتعزيز الهوية الوطنية والثقافية، وكان لها دور في توحيد الشعوب والتعبير عن مشاعرهم المشتركة. لكن مع تراجع الموسيقى، أصبح من الصعب على الناس إيجاد أعمال فنية تحمل نفس القيم والرسائل.

وقد انتشار الأغاني التجارية السريعة والسطحية على ذوق المستمع العربي، وأصبح الجمهور يميل أكثر إلى الأغاني التي تعتمد على الإثارة اللحظية بدلاً من البحث عن الجودة والعمق. هذا التغيير في الذوق يجعل من الصعب إعادة إحياء الموسيقى ذات الجودة العالية، فالأجيال الجديدة التي لم تعش فترة ازدهار الموسيقى العربية الكلاسيكية قد لا تكون قادرة على التمييز بين الموسيقى الجيدة والسطحية. هذا يعني أن إحياء التراث الموسيقي العربي سيحتاج إلى جهد مضاعف لنقله إلى الأجيال القادمة.

محاولات إحياء متواضعة

على الرغم من تراجع الموسيقى العربية في العقود الأخيرة، فإن هناك بعض المحاولات “المتواضعة” لإحياء التراث الموسيقي وتقديم أعمال فنية تحمل جودة عالية، وفقا لمختصين استطلع التقرير العربي اراءهم.

وظهرت في السنوات الأخيرة بعض الفرق والفنانين الذين يحاولون المزج بين التراث والحداثة، مع الحفاظ على الأصالة الفنية، كما تساهم بعض الدول العربية مثل المغرب وتونس ومصر وغيرها من خلال مهرجاناتها الموسيقية إعادة الاهتمام بالموسيقى العربية التقليدية، وذلك من خلال تقديم عروض موسيقية تمزج بين التراث والحداثة.

فالموسيقيون الشباب الذين ظهروا في الساحة الموسيقية يسعون إلى تقديم موسيقى ذات جودة فنية، مع اعتمادها على أساليب حديثة في التوزيع والإنتاج، ولكن دون التخلي عن الجذور العربية.

تراجع الموسيقى العربية بعد ازدهارها في القرن الماضي يعد انعكاساً للتحولات الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية التي شهدتها المنطقة. وعلى الرغم من أن الأسباب متعددة، من الانحدار الثقافي إلى تأثير العولمة، يبقى الأمل قائماً في إحياء هذا التراث الموسيقي الغني من خلال جهود الأفراد والمؤسسات الثقافية. الحفاظ على الموسيقى العربية الأصيلة ليس فقط ضرورة فنية، بل هو ضرورة ثقافية للحفاظ على الهوية والتراث العربي.