القطاع الثالث حجر أساس في بناء سورية الجديدة

تسعى جميع الدول إلى تحقيق تنمية شاملة عن طريق وضع استراتيجيات ورؤى تساعدها على حسن استثمار مواردها وتوجيه جهودها. ومن أجل تحقيق الأهداف المنشودة للتنمية ينبغي تفاعل ثلاثة قطاعات بشكل متناغم، وهي: القطاع العام الحكومي، والقطاع الخاص، والقطاع الثالث الذي يضم الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية وغيرها.

وفي ظل حاجة سورية حالياً إلى تظافر الجهود المختلفة بين هذه القطاعات من أجل إعادة البناء، فإن القطاع الثالث يمكن أن يلعب دوراً مهماً جداً في هذا المجال، وخصوصاً أن هذا القطاع غير خاضع للكثير من العقوبات المفروضة على سورية حالياً، وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن سبل تدعيم القطاع الثالث في سورية.

المكونات والأهمية

يتكون القطاع الثالث بشكل رئيسي من المنظمات التي يتم إنشائها من خلال مبادرات شعبية، أو غير حكومية، أو من قبل القطاع الخاص، وبالتالي فإن الكثير من المنظمات تندرج تحت القطاع الثالث مثل: الجمعيات التعاونية، والنقابات والمؤسسات والشركات غير الربحية، وجمعيات النفع العام، والجمعيات والمنظمات المعنية بالحقوق السياسية والإنسانية، ومراكز البحوث والدراسات غير الربحية والجمعيات المنبثقة عنها، والقطاع الخيري، وكافة أنواع منظمات المجتمع المدني، والأندية والنقابات.

وتشير بعض الدراسات إلى أن مساهمة القطاع الثالث في إجمالي الناتج العالمي بلغت 11%، بينما وصلت في بعض الدول إلى 17%، ويساهم هذا القطاع في سد الفجوات التي لا يصلها القطاع الحكومي أو القطاع الخاص، فهو ليس مجرد جمعيات خيرية تتسول المساعدات، حيث يصل نسبة العاملين فيه في أوروبا من 6% إلى 10% وفي هولندا وبلجيكا والسويد تصل النسبة إلى 10-15%، نظراً لانتشار ثقافة التطوع بشكل كبير والدعم القوي الذي تقدمه الحكومة لهذا القطاع. وعلى سبيل المثال لا الحصر يوجد في الولايات المتحدة الأميركية نحو 42 ألف مدرسة غير ربحية تتبع القطاع الثالث.

القطاع الثالث في سورية

نشأ القطاع الثالث في سورية مبكراً، إلا أنه تم احتكاره في عهدي الأسد الأب والأبن اللذين عمدا إلى تأسيس منظمات شعبية بديلاً عن منظمات القطاع الثالث، وتم تحديد رؤيتها بما يتماشى مع رؤى النظام، وكانت القوانين المفروضة تحد من القدرة على إنشاء المنظمات وتفرض شروط تعجيزية بحجة “حماية الأمن القومي”.

وبعد الثورة السورية في سنة 2011، ظهر الكثير من الجمعيات والمنظمات الخيرية سواء في المناطق التي تقع تحت سلطة نظام الأسد أو المناطق التي تحت سيطرة المعارضة، وحاولت الكثير من المنظمات الإنسانية العالمية أن تصبح فاعلة في هذا المجال، إلا أن القوى المسيطرة على الأرض حدّت من حركتها، ومنعتها من الوصول إلى تحقيق كامل أهدافها بسبب الفساد وانعدام الشفافية، إذ كانت المساعدات والخدمات التي تقدمها هذه المنظمات توزع وفقاً للمحسوبيات ودرجة الموالاة وغيرها من العوامل. كما تم إنشاء بعض الجمعيات لتلميع صورة النظام مثل الجمعيات التي نشأت تحت رعاية أسماء الأسد ورامي مخلوف وغيرهما، الأمر الذي تسبب بإضعاف هذا القطاع وعدم الثقة به وبمخرجاته.

سبل تدعيم هذا القطاع

يتطلب تدعيم القطاع الثالث في سورية معالجة التحديات الهيكلية والاقتصادية والسياسية التي تواجهه، مع العمل على الاستفادة من الفرص المتاحة محلياً ودولياً، وأبرز هذه السبل تحسين البيئة القانونية والتشريعية من خلال تعديل القوانين الناظمة لعمل الجمعيات من أجل تسهيل تسجيل المنظمات غير الحكومية من دون شروط تعجيزية، وتخفيف القيود على التمويل الأجنبي، وضمان استقلالية هذه المنظمات، ووضعها تحت الرقابة القضائية بدل الرقابة الأمنية، وتعزيز الشفافية والمسائلة من أجل ضمان وصول الخدمات سواء العينية أو المادية إلى مستحقيها.

كما يتطلب تدعيم القطاع الثالث تعزيز التمويل وذلك من خلال إنشاء صندوق وطني لدعم المجتمع المدني، وتشجيع التمويل المحلي (عبر حملات التبرعات والوقف الخيري على سبيل المثال)، وتعزيز الشراكة الدولية مع المنظمات ذات الصلة. والاستفادة من رفع العقوبات الجزئي عن التمويل الإنساني والتنموي في سورية حالياً، لدعم منظمات ومشاريع القطاع الثالث، وبناء القدرة المؤسسية من خلال تدريب الكوادر والتعاون مع الجامعات في دورات إدارة المشاريع والمحاسبة والمناصرة القانونية.

كما يتطلب تعزيز القطاع الثالث دعم الشراكة مع القطاعين العام والخاص، مثل إقامة مشاريع مشتركة مع الحكومة، وتفعيل المسؤولية الاجتماعية لشركات القطاع الخاص، وزيادة الوعي المجتمعي على هذا القطاع وأهميته من خلال حملات إعلامية والتعليم في المدارس والمجمعات والتشجيع على ثقافتي التبرع والتطوع والانخراط في العمل المجتمعي، والاستفادة من التكنولوجيا مثل إنشاء منصات رقمية لتجنيد المتطوعين في العمل الاجتماعي، وتقديم دورات مجانية في مهارات التوظيف، والتعاون الإقليمي والدولي من خلال العمل على بناء شبكات إقليمية بين المنظمات الأهلية وتبادل الخبرات، وضمان استمرار الدعم الدولي وتوجيهه نحو مشاريع تنموية طويلة الأمد.

إرادة ومبادرات

إن تعزيز القطاع الثالث في سورية ليس مستحيلاً، فهو بحاجة فقط إلى إرادة سياسية ومبادرات مجتمعية جريئة، مثل البدء بمشاريع صغيرة قابلة للقياس والتوسع، وخصوصاً أن هذا القطاع يتمتع بمرونة كبيرة في التمويل، وهو من القطاعات التي يمكن أن تستفيد بشكل كبير من رفع العقوبات الجزئي الذي قامت به الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك يمكن أن يضع القطاع الثالث في موضعه الصحيح في بناء سورية الجديدة، ويمكنه من لعب دور في سد الفجوة التي لا يقدر القطاعين العام والخاص على ردمها خصوصاً في المجالات الخدمية.