الاحتمالات المصرية بعد الاتفاق السعودي الإيراني
شهدت العلاقات المصرية الإيرانية فترات من عدم الاستقرار، وخصوصاً بعد ثورة 1977 التي أطاحت بالشاه، ثم سلسلة من التطورات في العلاقات بين طهران ودول الجوار العربية. فكيف ستكون عليه العلاقات بين القاهرة وطهران بعد التطور الذي فاجأ عدة دوائر سياسية في الشرق الأوسط، بإعلان إيران والسعودية، أكبر خصمين في الشرق الأوسط، توقيع اتفاق على إعادة العلاقات بينهما وفتح السفارتين بعد سبع سنوات من قطع العلاقات وعقود من الصراع السياسي بينهما، بوساطة صينية أعقبت محادثات عقدت في بكين؟
علاقات غير مستقرة
تمت الإطاحة بمحمد رضا بهلوي، آخر شاه لإيران، في ثورة 1979، وهرب الشاه إلى مصر، حيث منحه الرئيس الراحل أنور السادات حق اللجوء السياسي، الأمر الذي أدّى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في سنة 1980، وتفاقم التوتر بين القاهرة وطهران طيلة سنوات الحرب العراقية الإيرانية، بسبب الدعم المصري لبغداد، قبل أن يتم استئناف العلاقات في سنة 1991، ولكن فقط على مستوى القائم بالأعمال، بدلاً من السفارات. وأعلنت القاهرة مراراً أن وجود شارع باسم شوقي الاسلامبولي، قاتل السادات، في العاصمة طهران، يظل أحد أسباب القطيعة السياسية بين البلدين.
في فترة حكم الإخوان المسلمين، شهدت العلاقات بين مصر وإيران تقارباً، حيث زار الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، القاهرة في شباط / فبراير 2013، ليشارك في القمة الإسلامية آنذاك، وكان الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، على رأس مستقبليه في مطار القاهرة، حيث أقيمت مراسم استقبال رسمية، في زيارة هي الأولى من نوعها لرئيس إيراني بعد الثورة الإسلامية.
لم تستقر العلاقات على ما رست عليه خلال حكم الإخوان المسلمين، فقد شهدت فتوراً نسبياً بعد انهيار حكم الجماعة ووصول السيسي إلى سدة الرئاسة، ثم أدّت الحرب في اليمن، وموقف مصر المساند للتحالف الذي تقوده السعودية ضد مليشيا الحوثي الموالية لإيران، إلى المزيد من التراجع في العلاقات بين القاهرة وطهران، لكن اللافت هو استمرار تبادل ممثلي البلدين المجاملات الدبلوماسية، إذ شاركت القاهرة بانتظام في احتفال مكتب مصالح إيران في القاهرة بذكرى الثورة الإيرانية. وفي شباط / فبراير 2019، حضر وفد دبلوماسي مصري رفيع المستوى، برئاسة مساعد وزير الخارجية للشؤون الآسيوية خالد ثروت، فاعليات الاحتفال بالذكرى الأربعين للثورة الإيرانية، في مقر إقامة القائم بالأعمال الإيراني في القاهرة ناصر الكناني الذي ألمح إلى رغبة بلاده في تطوير العلاقات مع مصر.
مصالح متشابكة
في سنة 2004، اتهمت مصر الحرس الثوري الإيراني بالتجسس عليها، وهو الاتهام نفسه الذي وُجه لحزب الله اللبناني في أعقاب ثورة 25 كانون الثاني / يناير 2011، ومررت القاهرة رواية تفيد بقيام قاسم سليماني بزيارة سرية إلى القاهرة إبان حكم الإخوان، من أجل التنسيق لإنشاء حرس ثوري إخواني.
ويمكن القول إنّه على مدار فترات التوتر في العلاقات بين الرياض وطهران، وفي أعقاب حرب الخليج الثانية، وتفكيك الجيش العراقي، أصبحت القاهرة، بشكل ضمني، شرطي الخليج الجديد، باعتبار أن الجيش المصري هو الجيش العربي الوحيد القادر على ردع إيران، وبالتالي بات موقف مصر من إيران يعتمد – إلى حد كبير – على أولويات العلاقة مع دول الخليج، وخصوصاً السعودية والإمارات، وهو ما أعلنه السيسي صراحة، خلال لقاء مع وسائل الإعلام الأجنبية في منتدى شباب العالم، في 6 تشرين الثاني / نوفمبر 2019، منتقداً إيران، ومؤكداً أن مصر لن تسمح بأي تهديد لأمن الخليج، وأن الجيش المصري سوف يتحرك لحماية دول الخليج الشقيقة من أي خطر أو تهديد مباشر.
متغيّر وسيناريوهات
وضع الإعلان عن عودة العلاقات بين السعودية وإيران، القاهرة أمام متغير جديد، ربما يكون أفقدها ميزة طالما حرصت على تأكيدها لدول الخليج، لكن رد فعل القاهرة كان دبلوماسياً إلى حد كبير، فأعلنت مصر أنها تتابع باهتمام كبير، الاتفاق الأخير لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وأنها تأمل أن يخفف التوتر، ويحقق تطلعات شعوب المنطقة، بحسب بيان صادر عن وزارة الخارجية المصرية التي أضافت، أن مصر تأمل في أن تحقق الاتفاقية تطلعات شعوب المنطقة، نحو الازدهار والتنمية والاستقرار.
بناء على هذا التطور، يمكن طرح عدة سيناريوهات ربما لا تخرج عن ثلاثة توقعات، بشأن ردة فعل القاهرة تجاه الاتفاق السعودي الإيراني:
تكوين محور مغاير
يأتي الاتفاق السعودي الإيراني، بالتزامن مع توتر غير مسبوق في العلاقات بين القاهرة والرياض التي ربما قد تكون انفردت بقرارها من دون استشارة حلفائها الإقليميين، وفي المقدمة منهم مصر. هذا المتغير الجديد قد يدفع القاهرة نحو الابتعاد مسافة أخرى عن الرياض، والاتجاه إلى تدعيم العلاقات مع أبو ظبي التي يفصلها عن طهران قضايا أكثر تعقيداً. وفي ظل خلافات واضحة في التعامل مع الملف اليمني بين السعودية والإمارات، قد تندفع القاهرة نحو دعم الانتقالي الجنوبي، والانسلاخ بشكل ضمني، غير مباشر، عن التحالف الذي تقوده الرياض في اليمن.
وربما يتزامن مع ذلك الاتجاه، تسريع وتيرة تطبيع العلاقات مع تركيا، وهو الأمر الذي سبقت إليه الإمارات، وتتباطئ فيه السعودية، وبالتالي يمكن للقاهرة أن تصبح قاعدة الارتكاز في مثلث شرق أوسطي جديد، يصل ما بين أبو ظبي وأنقرة ولقاهرة؛ أي تشكيل محور سياسي يمكنه إحداث التوازن النسبي، وفتح مجال حيوي أكثر اتساعاً أمام القاهرة. لكن ذلك يعتمد بشكل أساسي على حسم الصراع في ليبيا، وهي عقبة مركزية تقف أمام تطوير العلاقات بين القاهرة وأنقرة، بعد أن أصبحت ورقة الإخوان المسلمين بلا أهمية استراتيجية.
ويمكن أن تكون زيارة وزير الخارجية التركي مولود شاوش أوغلو إلى القاهرة، نقطة تحول تدفع بالمزيد من المياه، في الطريق نحو تفاهمات أكثر جدية بين الطرفين، تؤسس بدورها لعلاقات أكثر دفئاً بين الطرفين.
التماهي مع الاتفاق
تطرح الأزمة الاقتصادية التي تمر بها القاهرة عدة معطيات، أبرزها الوصول إلى صفر مشاكل في العلاقات الخارجية، ووفق هذا السيناريو، قد تحاول القاهرة امتصاص صدمة التوتر مع الرياض، بل والاقتراب مسافة من طهران، بعد أن سقط حائط الصد الاستراتيجي، وقد تدخل القاهرة إلى الساحة الإيرانية عن طريق الدوحة، التي تشهد العلاقات بينها وبين القاهرة تقارباً ملحوظاً.
يمكن للقاهرة كذلك أن تستفيد بشكل كبير من تطبيع العلاقات مع طهران، فعن طريق استغلال العقوبات الأميركية، ربما يصبح السوق الإيراني مجالاً مفتوحاً أمام مصر، كما يمكن للأخيرة استيراد احتياجاتها من القمح، وتعويض الخسائر الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، إذ إن إيران من أكبر 13 دولة منتجة للقمح في العالم، فقد وصل إنتاجها إلى 13 مليون طن من القمح في سنة 2022.
لكن تطبيع العلاقات بين القاهرة وطهران يرتبط بمانع استراتيجي آخر، يتمثل في العلاقات بين القاهرة وواشنطن، ومدى سماح الأخيرة للحلفاء في الشرق الأوسط بحرية التحرك في الملف الإيراني، في ظل الارتباط التاريخي بين البلدين، وفي ضوء اندفاع إيران نحو التحالف مع روسيا، ومساندتها بشكل مباشر في أوكرانيا.
الانتظار والتريث
تعلم القاهرة أن جملة التناقضات بين الرياض وطهران هائلة، كما أن محاور الصراع بينهما في اليمن ولبنان والعراق وسورية، لا يمكن أن تهدأ بين يوم وليلة، حتى في ظل استعادة العلاقات الدبلوماسية. فالحوثي في اليمن لن يتخلى عن السلطة بسهولة، وحزب الله لن يفرط في مكاسبه في لبنان بجرة قلم، وعليه ربما يكون الخيار الأمثل أمام القاهرة هو الانتظار، وترك التناقضات تعمل على تشكيل ملامح العلاقات المستقبلية بين طهران والرياض، مع الحفاظ على مسافة آمنة بين الفرقاء، ومراعاة أولويات السياسة الأميركية في هذا الشأن. ومن ثم سوف تواصل القاهرة ترحيبها بالاتفاق، وربما يشهد ملف العلاقات مع إيران قدراً من التطور، في انتظار ما هو آت.
ويمكن القول أن السيناريوهات الثلاثة قد تحصل كلها على فترات متباعدة أو متقاطعة، ذلك بأن الفصل الحاد بين المواقف، لا يمكن أن يكون ثابتاً، في ظل المتغيرات والتحولات المتسارعة، فقد يحدث التقارب اللحظي بين القاهرة وطهران في لحظة ما، يعقبها تريث أو قطيعة، بحسب الأولويات السياسية لدى الطرفين، ومواقف القوى الإقليمية من الأحداث.
اقرء المزيد عن إعادة العلاقات بين السعودية وإيران في تقدير الموقف : اتفاق السعودية وإيران يُباغت الجميع في لبنان