الاتحاد التونسي للشغل وآليات حراك المعارضة

يعد الاتحاد التونسي للشغل، رمزاً نضالياً تاريخياً منذ الفترة الاستعمارية إلى غاية قيام الثورة التونسية، لكن هذا الصرح النضالي عايش العديد من الاختلالات والتناقضات، سواء في صلب هياكله أو في علاقته بالسلطة.

تأسس الاتحاد العام التونسي للشغل على عدة ثوابت، أو قواعد مركزية مهمة في مسيرته النضالية، وأهم قاعدة هي الدفاع عن العمال التونسيين بمختلف مهنهم ووظائفهم ضد الاستغلال والحيف الاجتماعي، وكذلك المطالبة بتحسين ظروف العمل من خلال رفع الأجور، والذود عنهم ضد أي هرسلة (تحرش) تطالهم أو أذى يتعرضون له في مؤسساتهم المهنية، كذلك مسألة التغطية الاجتماعية وغيرها من المسائل الأخرى. أما القاعدة الثانية فهي لا تتعلق بالعمل، وإنّما بالقضايا العامة والأساسية التي تهم التونسيين ككل، وهو استثمار للذاكرة التاريخية الوطنية التي خلّدتها مقولة مؤسس الاتحاد الشهيد فرحات حشاد “أحبك يا شعب”. أما القاعدة الثالثة فهي استقلالية المنظمة عن أي انتماء سياسي على وجه الخصوص، والوقوف ضد أي استبداد يضر بمصلحة الشعب والوطن، والأهم الانحياز التام للقيم الإنسانية كالكرامة والعدالة والحرية، وأن الانتماء الوحيد هو للوطن لا غير.

مساهمات مهمة

أثر الاتحاد العام التونسي للشغل في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع التونسي، فقد لازم منذ تأسيسه إلى اليوم، مبدأ الانتخاب كقاعدة ديمقراطية لاختيار قياداته، على الرغم مما يعاب عليه من إقصاء النساء والشباب من المناصب القيادية.

ومن إيجابيات الاتحاد أيضاً، التزامه بالمرجعية المهنية للعمل النقابي، الأمر الذي جعله يتغلل في كل الجهات والولايات (المحافظات) التونسية، مذوباً بذلك فكرة أن المركز (المدن الكبرى) هو الأساس، وأن المناطق الداخلية تصنّف على إنها هامشية وثانوية مثلما صنفتها النظم السياسية السابقة، وبالتالي انتفت الجهوية في سياق العمل النقابي.

على أن أهم ما ركز عليه الاتحاد هو جمع كل التونسيين باختلافاتهم المهنية، سواء عمالاً أو موظفين، تحت سقف المنظمة وتذويب أي أيديولوجيا يمكن أن تشتت أو تضعف العمل النقابي. ولهذا ساند الاتحاد في بداية انطلاق الثورة الحراك الشعبي باعتباره حراك مطالب بحق الشعب في التنمية والتشغيل والحرية، وهذا ما أربك النظام النوفمبري آنذاك لاعتبار وحيد وهو إدراكه ثقل الاتحاد ومركزيته عند التونسيين.

كما لعب أدواراً بارزة في حينه، ومنها مساهمته في تأسيس مجلس حماية الثورة، ومشاركته في أشغال الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ترأسها وأشرف عليها أستاذ القانون عياض بن عاشور.

وساهم الاتحاد أيضاً في تركيز الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وهيئاتها الفرعية، لكن من دون إنجاح الحراك الشعبي والمتمثل في إنجاح اعتصامَيِ القصبة 1 والقصبة 2.

وكان للاتحاد صولات وجولات مع نظام الترويكا منها تنظيمه إضراباً وطنياً شاملاً في إثر اغتيال المناضل شكري بلعيد، وكان لهذا الاضراب دلالات وطنية واضحة وتداعياته واسعة، نظراً لأنه كان إعلاناً صريحاً بفشل النظام السياسي آنذاك، وهو ما أدى الى مشاركته في اعتصام الرحيل الذي كان مطلبه الأساسي هو اسقاط حكومة الترويكا، لكن في المقابل عزف الاتحاد عن دعم قوى المعارضة في دعواتها الى حل المجلس التأسيسي، وقد اعتبر أن هذا الفعل سيدخل البلاد في أزمة سياسية واجتماعية تعجز عن احتوائها.

وشارك الاتحاد في الوساطة السياسية لاختيار رئيس متفق عليه أواخر سنة 2014، وهو ما خفض نسبة الصراع بين الفرقاء السياسيين، الأمر الذي أهله للفوز بجائزة نوبل للسلام في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، رفقة ثلاث منظمات كبرى في تونس، كانت داعمة للحوار الوطنية وللسياسات، وسمي هذا بالتحالف الرباعي الداعم للحوار.

كما شارك الاتحاد في توقيع وثيقة قرطاج، إلى جانب استمراره في الدفاع عن الموظفين والعمال والذود عن أجورهم خلال الاضطرابات السياسية، أو حتى خلال فترات التحول السياسي، مؤكداً أنه لا يمكن الحفاظ على الانتقال السياسي في تونس على حساب موظّفي القطاع العام الذين يُشكّلون الجزء الأكبر من قاعدته الشعبية.

وعلى الرغم من جميع مجهوداته بعد الثورة، إلّا أنه لم تتحقق المطلبية الشعبية في تفعيل مقومات العدالة الاجتماعية، إلى جانب تراجع القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع الأسعار، وانتشار البطالة وعودة انتشار الأمية خاصة في الأرياف، الأمور التي دفعت الاتحاد إلى تنقيح بعض القوانين الخاصة به، كمجلة الشغل، والقانون التوجيهي للتربية، والحماية الاجتماعية، وهي محاور مهمة لم تُطبق على الرغم من النص عليها في دستور الجمهورية الثانية.

وقام الاتحاد بجملة من المفاوضات مع الحكومة آنذاك، من أجل مراجعة المشروع التنموي الهش الذي ساهم جلياً في ارتفاع نسبة البطالة حتى أكثر مما كانت عليه في عهد بن علي، واستبداله بمشروع جديد من خلال بناء استراتيجيات بديلة لسابقتها تطال كل الوزارات والمجالات وتبدأ من التعليم.

مساع لإضعاف الاتحاد

في مقابل الانجازات، واجه الاتحاد أيضاً عدة تحديات، أهمها محاولات اختراقه وتقسيمه، ولاسيما مع ظهور نقابات موازية له، إلى جانب محاولات توظيفه في صراعات سياسية وأيديولوجية.

ومع تولي قيس سعيّد الحكم في 2019 بدأ نجم الاتحاد في التواري، وقد اعتبرت آنذاك قيادات الاتحادات الإجراءات التي اتخذها سعيّد تصحيح للمسار، لكن بعد حراك 25 تمّوز/ يوليو، وخصوصاً بعد إعلانه عن القيام باستشارة الكترونية، ندد الاتحاد بهذه الخطوة معتبراً إياها طريقاً للانفراد بالسلطة والتقوقع عليها، وأنها ستغلق باب الحوار الذي دأبت المنظمة على تجذيره في علاقتها مع النظم السياسية إبان الثورة.

لكن مواقف الاتحاد لم تلق مصادقة شعبية، نظراً لتراجع ثقة الشعب في هذه المنظمة. ويرى المختصون أن هذا الاهتزاز كان نتيجة حتمية للصراعات الداخلية التي شهدها الاتحاد بين قياداته، مثل المشاكل التنظيمية والانقسامات، وعلاقته المتوترة بالسلطة السياسية، ناهيك أيضاً عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس، فضلاً عن الاتهامات بالفساد الموجهة لهم من قبل مناصري الرئيس.

فبعد حراك 25 تمّوز/ يوليو أصبحت علاقة الاتحاد بالسلطة السياسية متوترة جداً، وخصوصاً بعد تزايد حملات التوقيف ضدّ النقابيين، وعزوف السلطة عن الحوار مع النقابات والتفاوض معها، فضلاً عن رفض سعيّد مبادرات تقدم بها اتحاد الشغل تهدف إلى حل الأزمة السياسية في البلد، الأمور التي صعدّت الأزمة بينه وبين السلطة السياسية وصل حد تراشق الاتهامات ومحاولات تبرير كل منهما وجهات النظر للرأي العام، وفي الأخير اختار الاتحاد عدم التصعيد واتخاذ دور المتحفظ. لكن في الآونة الأخيرة عاد وصعّد من خطابه وندد بمسار الانتخابات الرئاسية وقرار هيئة الانتخابات التي رفضت حكم المحكمة الادارية بإعادة 3 معارضين إلى السباق الرئاسي.

ولا يعد الاتحاد العام التونسي للشغل هو المندد الوحيد بسياسة الرئيس بل نجد أيضاً “الشبكة التونسية للدفاع عن الحقوق والحريات” التي تتكون من ثلة من الجمعيات والأحزاب، وتهدف الى حماية مكتسبات الثورة، وخصوصاً حرية التعبير، والأهم مبدأ مدنية الدولة وديمقراطيتها والتي ارتأت أنها بدأت تتلاشى مع توجهات قيس سعيّد السياسية، ولهذا نظمت هذه الشبكة حراكاً شعبياً احتجاجياً وسط شارع الحبيب بورقيبة تحت شعار “ماناش ساكتين”، كما أعلن منتسبوها عن أنّ هذا الحراك ليس الوحيد وإنما سيطال كل المحافظات، نظرا “للانتكاسة الشديدة في الحريات والحقوق”، وقد رفع المحتجون في  المسيرة شعارات تدعو إلى عودة الديمقراطية ومطالبة الرئيس بالتنحي عن السلطة، وكذلك الدعوة إلى وقف حملات الاعتقالات بحق الحقوقيين والإعلاميين والصحافين، ناهيك عن الامتثال لقرار المحكمة الإدارية وإعادة المترشحين الثلاث إلى السباق الرئاسي الذين تمتثل ملفاتهم للشروط القانونية.

ويرى المختصون في الشأن السياسي التونسي أن الاحتجاجات التي تشهدها الساحة التونسية قبل الانتخابات بأيام قليلة، لا تبشر بخير، نظرا لأن الشعب التونسي تمّ تقسيمه فعلياً إلى قسميين: قسم معارض للرئيس وقسم داعم له بقوة، وهم يحذرون من مغبة انتقال الصراع من مواقع التواصل الاجتماعي إلى الفضاء العام.