استقرار ليبيا بين الرهانات المحلية والتناقضات الدولية

عديدة هي التحركات والتصريحات والقرارات التي طالت الوضع في ليبيا، ووضعية البعثة الأممية في البلاد وتفاعلها مع القوى الفاعلة محلياً، فضلاً عن استقبال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نظيره الجزائري عبدالمجيد تبون في القاهرة، نهاية الشهر الماضي، حيث كان الملف الليبي أحد أبرز الملفات المشتركة بين البلدين وعكس ذلك في تصريحات كل منهما.

كل تلك الإشارات تفتشي بوجود ترقب واهتمام للوضع في ليبيا، ولتحركات بعض الأجسام المحلية في البلد، وخصوصاً المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية في غرب ليبيا، والجمود السياسي منذ فشل الاستحقاق الرئاسي نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2021.

ولحض توافق في تصريحات رئيس حكومة الوحدة الوطنية “طرابلس”، مع تصريحات رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، والتي ترفض تمديد المرحلة الانتقالية وتطالب بقوانين انتخابية عادلة، علرى الرغم أن البعثة الأممية شددت على الاستحقاق الانتخابي ينبغي أن يكون بين اللجنة المشتركة بين مجلس النواب ومقره طبرق شرق البلاد، والمجلس الأعلى للدولة ومقره غرب البلاد والمعروفة بلجنة 6+6، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة إلى الحديث، خلال اجتماعه برؤساء المجالس المحلية نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عن إجراء استفتاء شعبي، لتحديد أولويات المرحلة.

جاء ذلك بعدما اتخذ المجلس الرئاسي قراراً بتشكيل مجلس إدارة المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني برئاسة عثمان قاجيجي، الرئيس الأسبق لمفوضية الانتخابات وعضوية 13 آخرين، خلال مطلع شهر أيلول/ سبتمبر الماضي. ووفقا للقرار الذي أصدره محمد المنفي على نحو منفرد وعارضه نائبه عبدالله اللافي في بيان نشره على منصة X  “تتمتع المفوضية بالذمة المالية المستقلة، ولا يجوز التدخل في اختصاصاتها وتختص بتنظيم الاستفتاء والاستعلام الوطني والإعداد له والإشراف عليه وفرز نتائجه وإعلانها.”

هذا القرار هاجمه أيضاً مجلس النواب ورئيسه المستشار عقيلة صالح، واعتبر أن الجهة التي أصدرته غير معنية بذلك، ولا تملك الصلاحية القانونية وأنّ هذا الدور مخول فقط للمفوضية الوطنية للانتخابات.

مسار تصاعدي

ثمة تأويلات عديدة للأهداف الحقيقية لتأسيس مفوضية الاستفتاء من قبل محمد المنفي، من دون اتفاق يضم المجلس الرئاسي بالإجماع، ولاسيما إذا ما وضعنا تلك المقاربة مع ما جرى من تغيير محافظ المصرف المركزي السابق الصديق الكبير والأزمة التي نتجت عن ذلك.

ويبدو أنّ المجلس الرئاسي والأجسام الفاعلة في غرب ليبيا، ترى أن مسار إنهاء الأجسام التشريعية الحالية “مجلس النواب والأعلى للدولة”، قيد المحاولة من خلال طرح ذلك في استفتاء عام، تنظمه مفوضية الاستفتاء، وذلك على هامش كون مجلس النواب ورئيسه عقيله صالح يعارض توجهات الحكومة والمجلس الرئاسي في الغرب، وأنشأ حكومة مماثلة في شرق البلاد من خلال رئيسها أسامة حماد، وكذلك خسارة المجلس الأعلى للدولة من خلال فقدان محمد تكاله مقعد رئيس المجلس الاستشاري الأعلى، أمام منافسه السيد خالد المشري خلال الانتخابات الأخيرة، التي جرت في شهر آب اغسطس الماضي.

إذاً، قد يبدو الأمر في مسار تصاعدي جديد وقد تظهر على السطح مناوشات وتهديد آخر، يتعلق بالتلويح بقلب نظام الحكم وتقرير المصير، وتفعيل حالة الانقسام وتقاسم الثروة النفطية. بيد أنّ ذلك كله لن يمضي بيسر وسهولة بل يواجه تحديات هامة ومفصلية تتجلى في معامل القوة العسكرية التي يمتلكها أولا الشرق الليبي، وتتمثل في الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر، إلا إذا حدث توافق مع قوى الغرب وتم إسقاط التحالف فيما بين الجيش ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، كما أن خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة وابن مدينة الزاوية غرب العاصمة طرابلس، يملك نفوذاً هو الآخر. غير أن حدوث توافق استثنائي بين المشير خليفة حفتر وأبنائه وقوى الغرب من جهة أخرى، قد يكون عاملاً حاسماً نحو تفعيل ذلك الإجراء.

مصادر ليبية مطلعة تحدثت لموقع “التقرير العربي”، عن تحركات عسكرية للواء 111 التابع لعبد السلام الزوبي، في منطقة حوض غدامس شمال غرب ليبيا والمتاخم للحدود الجزائرية، بالتزامن مع زيارات متكررة لشخصيات ميدانية للعاصمة الجزائرية. ومن الأهمية بمكان الإشارة كون تلك المنطقة غنية بموارد الطاقة والغاز وميداناً مهماً لشركات التنقيب، فضلاً عن كونها مسرح عمليات متكرر بين قوات المشير خليفة حفتر ورئاسة الأركان التابعة للمنطقة الغربية، وعن كونها نقطة ساخنة في الصراع الدولي حول ماهية الحضور الروسي والأوروبي وفاعليته، في الجغرافيا الليبية سيما في المناطق الغنية بموارد الطاقة.

دلالات زيارة تبون للقاهرة

على خلفية ما سبق، ربما، ينبغي فهم الزيارة الأخيرة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للقاهرة ولقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والتي تزامنت أيضاً مع اجتماع ضم عدد من القوى للفاعلة للمنطقة الغربية بحسب مصدر ليبي مطلع. ولا شك في أن مكونات الحراك المتعلق بالوضع في ليبيا يتجاوز حينا تأسيس مشهد سياسي مستقر، وتوحيد السلطات التنفيذية والمناصب السيادية والذهاب نحو انتخابات تشريعية ورئاسية، على الرغم من أهميتها إلى هندسة مناطق النفوذ والثروة في الجغرافيا الليبية المطلة على البحر المتوسط، والغنية بموارد الطاقة، والتي تشهد حضوراً فاعلاً ومؤثراً لقوى إقليمية ودولية، تتنافس بصورة واضحة وتتصارع أيضا على النقاط الساخنة والمؤثرة في الشرق الأوسط.

ويشير الكاتب الصحفي رياض هويلي في تصريح لموقع “التقرير العربي”، إلى أن رؤية الجزائر للأزمة الليبية تأتي انطلاقا من مبدأ أساسي في علاقات الجزائر الدولية ومحيطها الاقليمي، وهو مبدأ حسن الجوار وتكريس لقاعدتها الذهبية في تجسيد سياستها الخارجية مع دول الجوار صوب أهمية عدم الانخراط في الشؤون الداخلية للدول.

ويتابع هويلي قائلاً: “تعتقد الجزائر جازمة أن حل الأزمة الليبية المعقدة، تبعاً لعوامل داخلية والمتشابكة بارتباطات خارجية والمحفوفة بأطماع دولية تجسد رغبة القوى الكبرى في إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة، يتأسس من خلال دفاع الجزائر على وحدة التراب الليبي، ضدّ التقسيم الذي تحاول أطراف ترسيمه من خلال الدفع بحكومتين إلى الواجهة وتعزيز هذا الانقسام، من خلال توظيف كافة الآليات نحو الحفاظ على كافة مظاهر الأزمة، وتعقيد عناصرها وتفاعلاتها مرة تلو الأخرى”. وفي هذا الإطار يذهب هويلي أن الجزائر تقترح وتتمسك بنقطتين أساسيتين لتفادي خطر التقسيم وتباعاته الخطيرة على المنطقة بكاملها.

الجزائر والمصالحة الليبية

النقطة الأولى تتمثل في أهمية العمل على مصالحة ليبية/ ليبية، كون  الشعب الليبي وحده من يقرر مصيره وشكل مؤسساته ونوعية حكامه. بينما تكون النقطة الثانية من خلال حتمية المرور عبر صناديق الاقتراع لحل أزمة الشرعية والتمثيلية.

هذه النقاط الرئيسية المنبثقة من المبدأ والقاعدة الجزائرية في احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها تجعل من القول إن رؤية الجزائر للحل في ليبيا يقتضي فيما يقتضيه كذلك انسحاب القوات الأجنبية من ليبيا، تحت أي اسم كانت أو صفة مع ضرورة إخراج المرتزقة وتفكيك الميلشيات واحتكار الدولة للسلاح والاحتكام إلى المؤسسات الشرعية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة لتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي بحسب المصدر ذاته.

يلفت هويلي إلى أن الجزائر أعربت عن رغبتها في توفير الأرضية والوسائل الدبلوماسية والسياسية للفرقاء في ليبيا من أجل التوصل إلى اتفاق مرجعي، أو على الأقل تجسيد ما تم التوافق عليه في وقت سابق، وتم صياغته في جلسات الحوار سواء في مصر أو الجزائر أو دول أخرى.

كما تجدر الإشارة إلى أن الجزائر ومصر بإمكانهما المساعدة في حل أزمة الشرعية في ليبيا، باعتبارهما جارتين كبيرتين ولهما صوت مسموع في الداخل الليبي، وفي الاتحاد الافريقي وحتى الجامعة العربية.

ثلاثة سيناريوهات

على أي حال يبدو أن مسار الوضع السياسي خلال الفترة القادمة وللدقة حتى مطلع العام القادم، وبعد حسم الرئيس الجديد للولايات المتحدة دونالد ترامب السباق الرئاسي لمصلحته، يقف عن ثلاثة سيناريوهات:

السيناريو الأول، ثبات الوضع على حاله، وتشبت رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بموقعه ونفوذه في العاصمة وغرب البلاد بشكل عام، والاستثمار في الصراع بين رئيس المجلس الرئاسي ومجلس النواب في طبرق شرق البلاد لصالحه تماماً.

سيناريو ثان، توافقي يفضي إلى تشكيل حكومة توافقية من الشرق والغرب، وتجاوز فكرة وجود حكومتين من خلال ذلك الحل كأجراء مرحلي واستثنائي.

سيناريو ثالث من الصعوبة بمكان تجاوزه، وهو دخول رئيس المجلس الرئاسي نحو تنفيذ عمل مفوضية الاستفتاء وطرح حل المجلسين عبر الاستفتاء العام في البلاد، ومن ثم بدء مرحلة الاستحقاق الانتخابي من خلال انتخابات تشريعية جديدة، تفضي للاستحقاق الرئاسي.