أزمة معبر رأس جدير وتناقضات بنية الحكم في ليبيا

تتكرر الاجتماعات بين الجانبين الليبي والتونسي لوضع حل لأزمة معبر رأس جدير الذي يتوالى إغلاقه في الأشهر الأخيرة، بيد أنّ عامل الحسم الحقيقي في أزمة المعبر تتمثل في الوضع المحلي داخل ليبيا، وتناقض المكونات الفاعلة داخل مجتمع غرب ليبيا، وخصوصاً مساعي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة لبسط سيطرتها الكاملة على المعبر، والتي يعترضها رفض أمازيغ زوارة التخلي عن السيطرة على المعبر.

جغرافيا الأزمة وهويتها

يبعد معبر رأس جدير نحو 60 كيلومتراً عن مدينة زوارة في غرب ليبيا، و175 كيلومتراً عن طرابلس العاصمة، ويبعد نحو 32 كيلومتراً عن مدينة بنقردان التونسية. ولا ريب في أن الوضع الذي تفجر داخل مدينة زوارة، على خلفية أزمة معبر رأس جدير، وتضارب موعد افتتاحه، كشف الكثير من عمق الورطة التي تعاني منها حكومة الوحدة الوطنية، وعدم قدرتها على بسط إرادة الدولة وفرض هيمنتها على كامل التراب الوطني، وما زاد من حساسية الموقف وحرجه سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية، تدخل بعض الجهات المحلية في العاصمة طرابلس والحديث بلغة طائفية ومذهبية عن سكان مدينة زوارة الذين ينتمون للثقافة الأمازيغية، الأمر الذي وضع سكان تلك المناطق في مواجهة حكومة الدبيبة، حيث أعلنت عدد من بلديات جبل نفوسة، إغلاق مكاتب الهيئة العامة للأوقاف وشؤون الزكاة في مدنها، احتجاجاً على بيان الهيئة حول عدم شرعية مذهبهم “الاباضية”. واستنكرت بيانات صادرة عن أهالي بلديات كاباو ونالوت ويفرن وجادو وتندميرة، تصريحات هيئة الأوقاف بشأن رد شهادة منتسبي الإباضية، وما وصفوه بـ “التطاول على شيوخ المذهب”، مطالبين باستحداث هيئة أوقاف للإباضية تتبع رئاسة الوزراء مباشرة.

وكان المجلس الأعلى للإباضية، طالب في بيان مجلسي الدولة والوزراء، باتخاذ إجراءات عاجلة لحل هيئة الأوقاف، وإعادة بنائها على النحو الذي يكفل احترام الإعلان الدستوري، وتمثيل الهيئة لكافة المذاهب الإسلامية في المجتمع الليبي.

ونشرت الهيئة العامة للأوقاف منشوراً عبر صفحتها الرسمية، دعت فيه إلى عدم قبول شهادة من سمتهم “أهل البدع والأهواء”، في إشارة إلى المذهب الإباضي.

الدبيبة قال  في رسالة موجهة لرئيس هيئة الأوقاف، على خلفية ما ورد  بشأن المذهب الإباضي على صفحة الهيئة بفيسبوك، “إن ما ورد من خلال موقع الهيئة الرسمي، أمر مثير للفتنة بين الليبيين، ومخالف لاختصاصات الهيئة.” وأضاف “⁠نحذركم من تجاوز اختصاصاتكم المحددة بقرار حكومة الوفاق الوطني عام 2019، بشأن تنظيم عمل هيئة الأوقاف”، مشدداً على ضرورة اتخاذ الإجراءات الرادعة والعاجلة في حق من صدرت عنه تلك التصرفات من الإدارات المعنية. وختتم الدبيبة قائلاً: “قد نضطر لاتخاذ إجراءات رادعة وحاسمة في حال تكرار مثل هذه الأفعال.”

المعبر وفوضى الغرب الليبي

في تلك الأثناء، اندلعت مواجهات مسلحة، وفقاً لشهود عيان، في منطقة زوارة بغرب ليبيا مساء الأربعاء الأخير من شهر حزيران/ يونيو بين الكتيبة 55 برئاسة معمر الضاوي، التابعة لرئاسة الأركان بحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، وقوة عسكرية تتبع غرفة عمليات زوارة، الأمر الذي فاقم الاستنفار الأمني على الطريق الساحلية المؤدية للمعبر. وكذلك تحركت حكومة الدبيبة غير مرة، تجاه إزاحة قوة تتبع المجلس العسكري لزوارة، والتي تتولى إدارة المعبر، وسط رفض المكون الأمازيغي الذي يقطن زوارة ومدناً أخرى بالجنوب لهذا الإجراء، الأمر الذي أدى إلى إغلاق المعبر منذ شهر آذار/ مارس الفائت.

ورأى الباحث في الدراسات السياسية والاستراتيجية محمد عادل امطيريد، في تصريحات خص بها موقع “التقرير العربي”، أنه في ظل الفوضى المتواجدة بمناطق الغرب الليبي، وعدم سيطرة حكومة الوحدة الوطنية ورئاسة الأركان التي يرأسها السيد محمد الحداد، وكذلك وزير الداخلية عماد الطرابلسي، على زمام  المناطق التي تحيط بالعاصمة طرابلس، فإن المجلس العسكري لمدينة زوارة يفرض سيطرته على المنفذ الذي يُعد أهم منفذ في المنطقة الغربية.
وأشار امطيريد  إلى أنّ أهمية هذا المنفذ بعد سنة 2011، بالتزامن مع تشكيل كتائب ما تسمى بالثوار هناك، وكذا تضخم الطرح الاجتماعي الخاص بالمكون الأمازيغي، والمناداة بصوت عالي أن يكون لهم تمثيل رسمي.

ومع الوقت، تتزايد حوادث السطو المسلح، في ظل انتشار أسلحة متوسطة وثقيلة، في هذا المكان الحساس الذي يرتبط بحدود مباشرة مع دولة تونس. وهذا الأمر ليس بجديد، وفق امطيريد، بل هو نتاج تراكم عديد المشاهد لقرابة عقد كامل من الفوضى المتواجدة في الغرب الليبي.

جغرافياً زوارة اليوم تبرز حرجاً كبيراً لحكومة عبدالحميد الدبيبة، التي لا تستطيع فرض السيطرة على المنطقة الغربية، والتي بدأت تفقد مناطقها رويداً رويداً.

ووفقاً للباحث الليبي، يأتي هذا الوضع في مدينة زوارة، والتحرش الميداني والطائفي، استجابة لأحداث مماثلة، حيث كان الانفلات الذي شهدته مدينة الزاوية، وحدوث تدخل بالطيران المسير، الأمر الذي أفزع ساكني تلك المناطق، استمراراً لمسلسل الفوضى، ومن انفجرت المشاكل في منطقة ورشفانة وغيرها من مناطق الغرب، بسبب انتشار السلاح وانفلات تلك الجماعات التي تفرض سيطرتها على تلك المناطق، ويتكرر هذا الانفلات اليوم، وسط أجواء شديدة الاضطراب إقليمياً ودولياً، مما سبب ضغطاً حقيقياً على حكومة طرابلس ورئيسها عبدالحميد الدبيبة.

فوضى السلاح والمكون الطائفي

يُعد المنفذ رئة اقتصادية بين المواطنين في ليبيا وتونس، الأمر الذي يعكس مساحة خطر جديدة على الأمن القومي للدولة الليبية، من خلال طغيان السلاح الثقيل والمتوسط، خارج مؤسسات الدولة، بل وتجابه أيضا تلك المؤسسات تهديدات بالعنف.

ويلفت امطيريد، إلى أنّ تلك الأجواء التي سيطرت على المشهد خلال الأيام الأخيرة، وعطلت إعادة افتتاح المعبر، أكثر من مرة، تشي بكون الوضع السياسي للفاعلين المحليين في البلاد، لا سيما حكومة الوحدة الوطنية محل سؤال صعب، وأن التعاضد الاجتماعي بين المكونات الاجتماعية في الغرب الليبي، يحتاج إلى رؤية جديدة، تعمل على تماسك بنية المجتمع ووحدته، ونزع فتيل الأزمات التي لا تجد من يعزل عناصر الخطورة فيها، ويتركها تتضخم وتكبر في وجه مستقبل الوطن.

ويلفت الباحث الليبي إلى أن وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية عماد طرابلسي الذي لم يستطع السيطرة على التوتر الذي نشب بين بعض الفصائل المسلحة وأبناء مدينة زوارة، اضطر إلى مناشدة المجلس الرئاسي ورئيسه محمد المنفي، ووزير الدفاع ورئيس الأركان في بيان في 27 حزيران/ يونيو الفائت، بمواجهة هذه المخاطر في تلك المناطق، حيث سحب عماد الطرابلسي قوات الشرطة من مراكز الشرطة في مدينة زوارة. وكذلك أغلق مكاتب الجمارك من رأس جدير، وأفرغ هذه المنطقة من كل العناصر التابعين لوزارة الداخلية، خوفاً على أرواحهم.

افتتاح المعبر بعد تأجيل متكرر

أخيراً أُعيد افتتاح المعبر يوم الإثنين في الأول من شهر تموز/ يوليو الجاري، بعد تأجيل وزارة الداخلية، افتتاحه ثلاث مرات دون أن توضح ذكر أسباب التأجيل، وجاء ذلك بعد أن عقدت اللجنة المكلفة بإعادة تفعيل العمل في المعبر اجتماعا مع الجانب التونسي، لوضع الترتيبات النهائية لإعادة افتتاحه.

لكن هذا التطور لا ينهي الأزمة، فالوضع في ليبيا، وفق ما قاله مدير المرصد التونسي لحقوق الإنسان، مصطفى عبد الكبير، لموقع “التقرير العربي”، “غامض ومتقلب على المستوى الأمني والسياسي، ومتغيراته لحظية، ويتطلب دبلوماسية مرنة تتفاعل مع متغيرات اللحظة، وتجيد قراءة تبايناتها وتناقضات الوضع المحلي”، داعياً إلى “تفعيل وضع دبلوماسية الطوارئ القادرة على التعامل مع المتغيرات على الساحة الليبية، لأن تأثيرها على تونس مباشر.”

اتجاهات الأزمة

وتتباين سيناريوهات الأحداث، تجاه عدد من  التصورات المحددة، تتعلق بواقع حكومة الوحدة الوطنية، واستمرار الدبيبة، وكذلك استقرار الوضع الداخلي في العاصمة والمدن المتاخمة لها في الغرب الليبي، فضلاً عن ارتباط ذلك بقدرة الحكومة على فتح المعبر، وتجاوز إرادة المكون الأمازيغي، وضبط أداء الجماعات المسلحة في الغرب الليبي:

– يتمثل السيناريو الأول في استمرار غلق المعبر، وفشل رئيس الحكومة في الاتفاق مع المكون المحلي في الجنوب على فتح المعبر والانفراد بإدارة المعبر.

– السيناريو الثاني هو أن تؤدي حالة السيولة الميدانية بين الجماعات المسلحة في الغرب الليبي إلى سقوط الحكومة ورئيسها الدبيبة، وذلك أمر لن يتأتى سوى من خلال فشل الوصول لإعادة فتح المعبر.

– السيناريو الثالث، هو التوافق بين الدبيبة، والمكون المحلي في الجنوب، مما يؤدي إلى فتح المعبر خلال فترة وجيزة.

– السيناريو الرابع هو تواصل الضغوط الدولية، من أجل تفكيك الجماعات المسلحة في الغرب الليبي ونزع السلاح من يد تلك الجماعات، من خلال تشكيل حكومة موحدة مصغرة، تتولى تنفيذ الاستحقاق الانتخابي البرلماني والرئاسي، وفتح المعبر كافة.