مصر تذعن لشروط صندوق النقد

مازال الاقتصاد المصري يواجه جملة من التحديات المعقدة، في ظل الارتفاع غير المسبوق للدين الخارجي، بحيث لم يعد أمام الحكومة سوى الخضوع للبرنامج الذي يدعمه صندوق النقد الدولي، والذي يقوم على تمكين القطاع الخاص من قيادة النمو الاقتصادي المنشود، مع التحول إلى نظام سعر صرف أكثر مرونة، بداعي رفع عبء التعاطي مع الصدمات الخارجية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي.

ومن الملاحظ أنّه في ظل اتباع توصيات الصندوق بشأن السياسات النقدية والمالية، لم تتمكن الدولة إلى الآن من الحد من ارتفاع معدلات التضخم بشكل يؤثر على الأسعار، في ظل زيادة الأعباء الاقتصادية بشكل مستمر، ما انعكس بدوره على القدرة على احتواء الضغوط التضخمية، حيث بلغ التضخم ذروته بالوصول إلى نحو 40% العام الماضي، قبل أن يتراجع إلى 27,5% في حزيران/ يونيو الفائت، متسبباً بعدة مشكلات بنيوية في الهيكل الاقتصادي، أبرزها تراجع القوة الشرائية. ووفقاً للأرقام الرسمية، يعيش ما يقرب من 30% من المصريين في حالة فقر، مع استمرار اتساع مساحات اقتصاد الظل، وكذا الاقتصاد العسكري، الأمر الذي أضرّ بمبدأ تعزيز المنافسة.

هذه الاختلالات المتزايدة في الهيكل الاقتصادي، تأتي بالتزامن مع التراجع الحاد في العملات الأجنبية، في ظل تأثير الحرب على غزة على حركة الملاحة في قناة السويس، واستمرار حذر المستثمرين.

نحو رفع الدعم

في ظل مطالبات لا تنقطع من صندوق النقد الدولي، لتنفيذ إصلاحات واسعة النطاق لإعادة ضبط الاقتصاد المصري، بما في ذلك خفض الدعم، وخفض الإنفاق الحكومي مع تحفيز الاستثمار الخاص، رُفعت مصر أسعار الوقود مرة أخرى، لتأمين شريحة مقبلة من قرض صندوق النقد الدولي، فزاد سعر البنزين بما يصل إلى 15% اعتباراً من يوم الجمعة 26 تمّوز/ يوليو.

الزيادة الجديدة في أسعار الوقود هي الثانية التي تطبقها القاهرة، خلال أربعة أشهر فقط، تنفيذاً للشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي لتحرير حزمة جديدة من المساعدات، وذلك قبل أربعة أيام من مراجعة صندوق النقد الدولي لبرنامج قرضه البالغ 8 مليارات دولار، والذي تبلغ الشريحة التالية منه 820 مليون دولار.

وبناء على بيان صادر عن وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية، فإن الأسعار الجديدة للمحروقات، والتي دخلت حيز التنفيذ، تراوحت بين 12,25 و15 جنيها (0،25 إلى 0,31 دولار) لليتر الواحد. كما شملت الزيادة أسعار السولار، أحد أهم أنواع الوقود الأكثر استخداماً في مصر، حيث ارتفع سعره من 10 جنيهات مصرية (0,21 دولار) إلى 11,50 جنيه (0,24 دولار).

وجدير بالذكر أن هذه الإجراءات تهدف إلى رفع الدعم عن المحروقات بشكل تدريجي، كجزء من صفقة الإنقاذ التي دشنتها الحكومة مع صندوق النقد الدولي، وكانت مصر قد نفذت المرحلة الأولى في آذار/ مارس الماضي، وصولاً إلى إلغاء الدعم على الوقود بشكل كامل بحلول نهاية اسنة 2025.

وتأتي هذه الخطوة في الوقت الذي تواجه فيه مصر أسوأ أزمة اقتصادية لها منذ أكثر من عقد من الزمن، حيث أدّى تضخم الديون الخارجية إلى ارتفاع التضخم، وتسبب في عدة تخفيضات متتالية في قيمة العملة المحلية، مع وصول معدلات الدين الداخلي إلى أرقام كارثية.

بين الإذعان والحماية

تسعى القاهرة إلى إعادة بناء الاحتياطي الأجنبي، وسد فجوة التمويل الخارجي لمعالجة الفارق بين الطلب والعرض المتوقعين للتمويل بالعملة الصعبة، لكن الأمر الذي ربما يحدث الفارق المأمول، هو تحفيز الشركاء الخليجيين لتقديم الدعم المالي عبر الدخول بقوة إلى سوق الاستثمار المصرية، على غرار صفقة رأس الحكمة التي استحوذ البنك المركزي المصري على الجزء الأكبر منها، من أجل تحسين احتياطياته.

على الجانب الآخر، لم تستطع السياسات النقدية، إلى الآن، حماية الفئات الأكثر احتياجاً، مع تآكل القوة الشرائية، الأمر الذي بدأ يؤثر بصورة ملموسة على الطبقة فوق المتوسطة، مع تراجع حاد في مستوى معيشة الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، بحيث أصبحت مخصصات برنامج تكافل وكرامة الذي يخدم أكثر من خمسة ملايين أسرة، غير كافية، كما أنّ حزمة الحماية الاجتماعية، واسعة النطاق، التي أعلنت عنها الحكومة المصرية في أوائل سنة 2014، بقيمة 180 مليار جنيه، غير قادرة على مواجهة الارتفاع الجنوني في الأسعار.

وعلى ما يبدو، فإن قطار الإذعان إلى شروط صندوق النقد الدولي غادر محطته، مع بدء برنامج تصفية الأصول للحد من دور الدولة، وتعزيز قدرة القطاع الخاص في المقابل، من أجل تكريس استقلالية المنافسة في السوق المصرية، مع تفكيك بنية الإجراءات البيروقراطية، التي تواجهها الشركات التي تستهدف الاستثمار في مصر، لخلق بيئة أعمال جذابة، وخالية من الفساد.

جدير بالذكر أنّه خلال شهر تمّوز/ يوليو، سحب البنك المركزي المصري سيولة هائلة من البنوك، تفوق التريليون جنيه، وبعائد ثابت مرتفع يصل إلى 28%، لتقييد الطلب على السلع والعقارات والخدمات، في محاولة لخفض معدلات التضخم، لكنها عملية تؤدي بالضرورة على المدى البعيد إلى الركود الاقتصادي، بالإضافة بالطبع إلى الخسائر الكبيرة التي تلحق بالبنك المركزي الذي يقوم بربط الودائع لديه بفائدة عالية.

وتسعى الحكومة إلى وضع نسبة الدين الحكومي العام، إلى الناتج المحلي الإجمالي على مسار هبوطي، وهو أمر لن يتحقق إلاّ من خلال تعبئة المزيد من الإيرادات من خلال عائدات برنامج تصفية أصول الدولة الجاري تنفيذه.

في هذا السياق، أكد وزير المالية المصري الجديد، أحمد كجوك، في اليوم الأول لمشاركته في اجتماعات مجموعة العشرين، في البرازيل أنّ التحديات الاقتصادية العالمية، لا تزال تمثل ضغوطاً شديدة على الاقتصادات الناشئة والدول النامية. ولفت إلى أن هذه التحديات ترجع بشكل مباشر إلى ارتفاع تكلفة التمويل، وتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. وقال الوزير إن قضايا الديون العالمية تعيق النمو العادل، الأمر الذي يتطلب حلولاً دولية شاملة، تساهم في دعم ومساعدة الاقتصادات الناشئة. وأوضح أن السياسات التجارية، التي تنتهجها بعض الاقتصادات المتقدمة، تخلق عقبات إضافية أمام حركة صادرات الدول النامية.

وزير المالية المصري اعترف أن صفقة رأس الحكمة، أنقذت الاقتصاد المصري من تداعيات خطيرة، حيث أدت إلى تحقيق فائض أولي قدره 6,1% من الناتج المحلي الإجمالي، في العام المالي 2023/ 2024، مدفوعا ًبتدفقات استثنائية للاستثمار الأجنبي (الإماراتي) المباشر.

توقعات جديدة

بحسب استطلاع أجرته وكالة “رويترز” مؤخراً، توقع العديد من الاقتصاديين أن يصل النمو الاقتصادي في مصر إلى 4% خلال السنة المالية الحالية (2024/ 2025)، ضمن نطاق مماثل من التوقعات الأخرى من صندوق النقد الدولي والحكومة المصرية والبنك الدولي.

وتوقع الاقتصاديون الذين شملهم الاستطلاع، الصادر يوم الثلاثاء 24 تمّوز/ يوليو، أن يتقلص النمو في هذه السنة المالية، بمعدل انخفاض بنسبة 0,35%، مقارنة بمسح أجرته “رويترز” في نيسان/ أبريل الفائت.

وبحسب التوقعات، فإن النمو الاقتصادي سيكون أضعف في هذه السنة المالية، بسبب ضعف الجنيه المصري. وهي توقعات أقل بقليل من توقعات صندوق النقد الدولي البالغة 4,1% بعد المراجعة الأخيرة له، تليها توقعات البنك الدولي ومصر نفسها البالغة 4,2%. ووفقاً لاستطلاع “رويترز”، نما اقتصاد مصر بنسبة 2,9% في السنة المالية السابقة، وهو أقل قليلاً من توقعاتها السابقة البالغة 3% في نيسان/ أبريل.

كما سجلت شركة BMI للأبحاث، أدنى التوقعات للنمو الاقتصادي في مصر حتى الآن، فقدرت معدل نمو بنسبة 3,2% للعام المالي الحالي.

وتضمنت نتائج الاستطلاع توقعات بارتفاع معدل التضخم السنوي إلى 20,5% في العام المالي 2024/ 2025، و12,05% في العام المالي 2025/ 2026. وأن الجنيه المصري سوف يتراجع أمام الدولار ليصل إلى 49,5، بحلول نهاية حزيران/ يونيو 2025.

وبحسب المعطيات السابقة، فإن الشغل الشاغل للحكومة المصرية، محاولة امتصاص التضخم المتزايد، عند طريق جمع الأموال من البنوك، وهو أمر يتطلب بالضرورة رفع أسعار الفائدة، مع المضي قدماً في برنامج تصفية الأصول، لجذب المزيد من الإيرادات للميزانية، وجذب استثمارات خارجية، يمكن من خلالها تنشيط السوق، وتثبيت سعر الصرف عند معدلات مقبولة، وهو أمر يحتاج إلى عدة عوامل خارجية، أهمها على الإطلاق توقف الحرب في الشرق الأوسط، وعودة الملاحة بصورة طبيعية إلى قناة السويس.