شاتيلا: مخيم بين مقبرتين

من أين يمكن أن يبدأ من يريد الكتابة عن مخيم شاتيلا: من المخيم الرمز الذي كان يؤمه الكثيرون مطلع سبعينيات القرن الماضي للتعرف على “الفدائي” الأيقونة، أم من المقبرتين: الضريح الجماعي على الطرف الجنوبي الشرقي، للمجزرة التي ارتكبتها مليشيات يمينية لبنانية بغطاء من الجيش الإسرائيلي في سنة 1982، ومقبرة شهداء حرب المخيمات، منتصف الثمانينيات، في أرضية المسجد وسط المخيم، أم من حاضره الذي جعله عرضة للإهمال والتهميش والتغيُّر الديموغرافي الذي استحال معه المخيم تجمعاً لأقلية فلسطينية في نواته وأكثرية متنوعة بين سوريين ولبنانيين وعمّال أجانب على أطرافه وفي محيطه، وبات ـ مثل محيطه ـ يعاني آفة انتشار المخدرات ؟
الصورة المرسومة من خارج المخيم سوداوية ويغذي سوادها تركيز إعلامي على كل ما هو سلبي في مخيمات الفلسطينيين في لبنان؟
في الذهن أيضاً، لدى بدء التحضير للكتابة عن المخيم، ملاحظة لديبلوماسي برازيلي حالي، وناشط حقوقي، صديق لفلسطين والفلسطينيين، أعدّ أطروحته للدكتوراة في العلوم الاجتماعية عن مخيم شاتيلا. قال لي مرّة، إنه أتى إلى لبنان، وتحديداً إلى مخيم شاتيلا، تقوده فكرة عرفها سابقاً عن الفلسطينيين، وهي فكرة “العيب”… والمقصود بـ “العيب” كرامة الإنسان، إذ إن الرجل الفلسطيني كان يخجل من الوقوف أمام مخازن الأونروا لجلب المساعدات التي تقدمها هذه الوكالة الدولية، ويطلب ذلك من النساء. ويرفض أي كلام عن مقابل لخدمة يقدمها لغريب ـ وهو أمر عاينه أصدقاء له في سبعينيات القرن الماضي عندما قدموا إلى مخيم شاتيلا تحديداً؛ لكن ما اكتشفه في بين سنتي 2007 و2009، هو غياب مفهوم “العيب” عند الكثير من الرجال، الذين باتوا يتدافعون لأخذ المساعدات حتى ولو لم يكونوا محتاجين إليها، ويبادرون إلى طلب مقابل ـ ـ لأي خدمة ولو كانت بسيطة.
غياب “العيب”، أو الشعور بالكرامة، هو ما لفتني إليه الصديق والمتضامن البرازيلي، الذي كان يتحدث عن ذلك بألم شديد، عازياً إياه إلى ما عاناه ويعانيه أهل المخيم، من إهمال وتهميش وتمييز، وانكسار لحلم كرس الشعب الفلسطيني حياته له ـ أي العودة إلى أرض طرد منها بالقوة والإكراه.
لكن مفهوم البحث يقضي بأن يزيل الباحث أي حكم مسبق، وأن يرفض أي صورة نمطية: إيجابية كانت أم سلبية، ويترك لما يكشفه له ميدان البحث من معلومات، يبني عليها ويستنتج.
هكذا يتحول السؤال عن شاتيلا ـ في سياق توجه لدى “مجلة الدراسات الفلسطينية” بالإضاءة على قضايا اللاجئين الفلسطينيين ـ إلى بحث عن كيفية الإجابة عن السؤال… فيكون الخيار هو زيارة ميدانية، وتحقيق يسعى إلى تقديم صورة عن المخيم “الرمز” كما هي، من خلال المشاهدة والملاحظة المباشرة، وبلسان أهل المخيم أنفسهم.

اللاجئين الفلسطينيين
المدخل الشرقي للمخيم (تصوير محمود الحنون)

شاتيلا في ذاكرة الأمس

أول مرّة دخلت مخيم شاتيلا كانت مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكنت “شبلاً” قادماً من جنوب لبنان، للمشاركة في نشاط تقيمه “مؤسسة الأشبال والفتوة”، يتراوح بين تدريب رياضي وقليلاً على فك وتركيب السلاح، وفقرات فنية هي عبارة عن أغان وطنية.
كان الفدائي لا يزال تلك الأيقونة الذي يغطي وجهه بالكوفية، والذي على الرغم من وجود السلاح إلاً أنه لم يكن ظاهراً كثيراً. وخلال تلك الفترة، اغتال الموساد الإسرائيلي الأديب والقائد الفلسطيني غسان كنفاني، فشاركت من ضمن مجموعة من الأشبال انطلقت من شاتيلا، في جنازة كنفاني التي لا زلت أتذكرها بما حملته من مهابة ومشاركة عشرات الآلاف بها، في شوارع بيروت، وصولاً إلى مقبرة الشهداء.
كان المخيم، في حينه، مثل باقي المخيمات، بيوتاً فقيرة، لكنها مليئة بالفخر والاعتزاز والأمل بمستقبل يتحقق فيه حلم العودة إلى فلسطين.
المرة الثانية جئت شاتيلا شاباً وطالباً جامعياً في النصف الثاني من السبعينيات، استأجرت مع أقارب لي منزلاً خارج المخيم على الطرق الغربي من الشارع الفاصل بين شاتيلا وحي صبرا اللبناني، وكان كل سكان الطرف المقابل، تقريباً فلسطينيون، فيما العمق يسكنه لبنانيون فقراء.
أتذكر أن الشارع كان غارقاً بالوحول، بسبب قيام الفرق الهندسية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية بحفر مجار لمياه الشتاء والمياه المبتذلة من صبرا نزولا إلى شاتيلا، كانت عميقة كفاية كي تخرج إشاعة بأنها خنادق تربط المخيم بمحيطه ـ لاحقاً اكتشفنا أنها لم تكن سوى بنى تحتية مدنية لا غير.
المرة الثالثة جئت شاتيلا هرباً من حملة التجنيد الإلزامية التي قررتها منظمة التحرير الفلسطينية للطلاب الفلسطينيين في جيش التحرير الفلسطيني، وكنت قد تركت “فتح” منذ بضع سنوات، والتحقت عملياً باليسار الفلسطيني، وقد تخرجت للتو من معهد سبلين للتدريب المهني التابع لوكالة الأونروا، بدبلوم تجارة وإدارة مكاتب، بعد أن كنت قد تركت الدراسة الجامعية.. كان في حينه بديل التجنيد الإلزامي، الالتحاق أو بصورة أدّق التفرغ في أحد الفصائل، فكان خياري البديهي “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي سأكون أحد متفرغيها لنحو ربع قرن.
في شاتيلا، عشت قرابة سنتين، عملت في منظمة الشبيبة وفي أعلام هذه المنظمة، وسكنت منزلاً لم تره الشمس منذ أن تحول من خيمة إلى منزل حجري بين أزقة ضيَقة. كانت معظم الأبنية تعلو بحد أقصى طبقتين، وبمساحات ضيّقة، بحيث تغيب الشمس تماماً عن الطبقة الأرضية.
كانت الثورة الفلسطينية في أوجها في مخيمات لبنان… لكنها تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل الاجتياح الاسرائيلي والمجزرة الرهيبة في سنة 1982. كان الحلم قائماً. وكانت جدران شاتيلا تعج بصور الشهداء… والمؤلم أن معظمهم سقطوا على محاور القتال في بيروت أو في الجبل؛ فيما بعضهم سقط في عمليات فدائية على الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية، أو بسبب غارات الطائرات الإسرائيلية على المخيمات أو قواعد الفدائيين.
مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أغادر شاتيلا هذه المرة، لدراسة الصحافة في رومانيا، ولن أعود إلى المخيم سوى قبل الاجتياح ثم بعد حرب المخيمات.
في سنة 1982، وخلال الاجتياح الاسرائيلي، مثل كثير من الطلاب الفلسطينيين، أعود إلى لبنان للقتال ضد إسرائيل، وبهدف النزول إلى بيروت، وهو أمر لم يتحقق، إذ باغتنا الجيش الإسرائيلي في منطقة عاليه وشتتنا تماماً، ولحظي الجيد أني تمكنت من الانسحاب الى خارج المنطقة المحتلة، والعودة إلى مقاعد الدراسة في رومانيا.
ولأن الفلسطيني اللاجئ في لبنان، كان يعاني اذا وجد في الخارج بعد الاجتياح ومقتل بشير الجميل وتولي شقيقه أمين الجميل سدة الرئاسة اللبنانية، وقرار تصعيب تجديد وثائق السفر، وهو قرار أصابني واضطررت بسببه التوجه الى سورية، بوثيقة منتهية الصلاحية، لأكون أحد الصحافيين العاملين في مجلة الهدف، وأزور شاتيلا قبل قليل على اندلاع حرب المخيمات، بقصد كتابة تحقيق عن المخيم وطبيعة الحياة فيه بعد بضع سنوات من الاجتياح الاسرائيلي والمجزرة الرهيبة.
كان يومها الكل قلقا، بسبب الانقسام الذي عانته حركة “فتح” وما شهدته تلك المرحلة من صدام بين النظام السوري والحركة، وهو أمر انعكس انقساماً على مستوى الفصائل، التي اصطفت خلف الرئيس أبو عمّار أو ضده. وكان ظهور حركة أمل واضحاً في محيط المخيم، بل وفي داخله.
لم يمض سوى القليل حتى اندلعت حرب المخيمات وعانى شاتيلا حصاراً خانقاً.. ومجزرة جديدة، سقط خلالها عشرات الشهداء من مدنيين ومقاتلين. وقد عمد الأهالي إلى دفن الشهداء داخل المسجد وسط المخيم، بعدما تم تدمير أكثر من 90% من بيوت المخيم.
انتهت حرب المخيمات، ولم تنته ذيولها وذيول المرحلة التي سبقتها… وفيما فشلت محاولتين لدخول بيروت خلال حرب المخيمات، للقيام بمهام صحافية، فإن مرحلة ما بعد حرب المخيمات، قادتني مجدداً إلى بيروت، لأعمل صحافياً في إذاعة صوت الشعب، ومراسلاً لمجلة الهدف، فتتكرر الزيارات الى شاتيلا، للعمل الصحافي، ولنشاط شبابي واجتماعي.. وكان المخيم لا يزال رمزاً يحاول النهوض من كل المآسي، وإعادة التشكل مجدداً، بقدر كبير من الشعور بالفخر والكرامة.
لكن المخيم، أوقف عن حلمه مجدداً، بعد أن بدأ تطبيق اتفاق الطائف، وبوشر بتسليم السلاح الثقيل والمتوسط؛ فكان شعور مزدوج في شاتيلا: التوق إلى الحياة كمجتمع مدني، والخوف من أمثلة الماضي التي جزرت المخيم مرتين، وأن يقود التخلي عن السلاح إلى مجزرة ثالثة!!
لكن مجزرة الدم الثالثة لم تأتِ… ما شهده المخيم كان مجزرة أخرى، بلا دماء، مجزرة متغيرات اجتماعية أحالت الرمز إلى مكان بلا روح… كاد المخيم أن يصبح بؤرة آفات اجتماعية لولا بعض تحركات من شبان وشابات يتمسكون بالحياة ويرفضون الانحدار بالرمز إلى بؤرة… يحاولون، لكنهم يخشون الفشل.. فالتحديات قد تكون فوق قدراتهم وأحلامهم!!

شاتيلا في مرآة الحاضر

لم تكن زيارة شاتيلا يوم 16 شباط / فبراير الماضي، الأولى في السنوات الأخيرة، لكن بالتأكيد كانت أكثر تفصيلاً من سابقتها؛ المرة السابقة كانت تغطية بتكليف من “مجلة الدراسات الفلسطينية” ونشرت المادة في العدد 101 (شتاء 2015)، وتناولت عملية إعادة تأهيل مقبرة شهداء حرب المخيمات في مسجد المخيم. أظهرت الزيارة في حينه مدى المتغيرات التي حدثت في المخيم ومحيطه، والإهمال الخدماتي والسياسي والحزبي وكل نواحي الأهمال المعروفة التي يعانيها المخيم.
الدخول الأخير إلى شاتيلا، من الجهة الشرقية من مدخلي حي فرحات وصبري حمادة، كان مشابهاً لما سبقه، والصورة لم تتغير كثيراً؛ يكاد المرء أن ينقل الكلمات نفسها التي نشرت في عدد 101 وتكون كافية: “عند الدخول إلى شاتيلا من جهة الشرق، من حي فرحات المجاور، على قاصد المخيم السير طويلاً بين أعلام ورايات حركة أمل، قبل أن يلاحظ وجود أعلام فلسطينية ورايات خضراء وشعارات فصائل المنظمة.” هذا ما كتب في حينه، وهو ما شاهدناه في الزيارة الأخيرة.
المتغير الكبير والملحوظ هو من الجهة الشرقية الغربية، أو مدخل حي الرحاب: مقبرة الشهداء لم تعد منظورة… تغطي مدخلها بسطات الباعة… التي تنتشر على طول الطريق وبكثافة وصولاً إلى سوق صبرا… لا شيء في الشارع يذكر بماضيه الذي التحم بشاتيلا جغرافياً وديموغرافياً واجتماعياً… ففي المقبرة الجماعية مئات من عائلة المقداد اللبنانية التي كانت من أولى ضحايا المجزرة، كون الحي هذا وحي الحرش هما حيان لبنانيان، وسكانهما بمعظمهم من البقاع والجنوب، كانا قد تشكلا حول المخيم، كشريط فقر حول بؤرة فقر.

أصوات وضوضاء ومناداة على بضائع… واللهجة المسموعة، تقود تماماً إلى تأكيد ما سمعناه قبل الزيارة، عن أن الشارع بات سوق حميدية جديد.
ولا يتقصر التغيير على هذه المدخل، فحتى المدخل الشمالي من جهة تجمع الداعوق، الذي ثارت بشأن أراض فيه في سنة 2011 مشكلة مع دار الفتوى، جرى تسويتها لاحقاً، تغير أيضاً. فسكان الشارع اللبنانيون السنة، أقفلوه، وفي أحد المداخل هناك بوابة حديدية ضخمة، مفتوحة لكن يمكن إقفالها في أي وقت، وبالتالي منع سكان المخيم من استخدام هذا المدخل!!
لا شيء يميز بين المخيم ومحيطه في هذه الجهة، فالعشوائية في البناء هي قاسم مشترك، ومن لا يعيش داخل المخيم، يستحيل عليه التمييز بين حدود شاتيلا وحدود منطقة الداعوق، التي تسكن فيها الكثير من العائلات الفلسطينية أيضاً!!
أما داخل المخيم، فثمّة الكثير من المتغيرات ـ في الشكل ـ وخصوصاً كثافة البناء العمودي الذي تكاثر كالفطر في السنتين الأخيرتين، وكان عملياً قد بدأ ينتشر منذ أن صدر تعديل قانون التملك للأجانب عن المجلس النيابي اللبناني في سنة 2011، وحُرم بموجبه اللاجئون الفلسطينيون حصراً من تملك شقة سكنية، فباع من امتلك شقة خوفاً من خسارتها، ولجأ الكثيرون في مختلف المخيمات ـ ومنها شاتيلا ـ إلى البناء العمودي لاستقبال العائدين.
الأزمة السورية، لعبت لعبتها أيضاً.. ولأن الفقراء يجتمعون، كانت وجهة آلاف العائلات السورية نحو مخيم شاتيلا.. منهم من استأجر ومنهم من تملك… ولأن سكان المخيم الفلسطينيين يعانون أساساً أزمة اقتصادية جراء حرمان اللاجئين من العمل في عشرات الوظائف، على الرغم من تعديل قانون العمل سنة 2010 وهو تعديل لم يغير كثيراً في واقع الحال، فقد وجدوا فرصة لكسب مالي عبر بيع أسطح المنازل للقادمين هؤلاء، أو القيام ببناء عشوائي عمودي وبيع شقق أو تأجيرها للاجئين السوريين؛ من دون أن يعوا أن ذلك سوف يقود إلى تغيير ديموغرافي يصبح فيه اللاجئون الفلسطينيون أقلية في مخيمهم؛ بل وتنشأ عن هذا الاكتظاظ الشديد في مساحة بضع مئات من الأمتار طولاً وعرضاً، والذي يقدره البعض بأنه يراوح بين 25,000 و30,000 ساكن، مشاكل اجتماعية واقتصادية وأمنية، وتقود إلى فوضى لم يتم وضع تصور بعد لكيفية الحد منها.

المخيم اليوم.. وعلى لسان أهله

بعد حرب المخيمات، كانت الكآبة تعم المخيم والشوارع شبه مقفرة، لكن كانت ثمّة إرادة بإعادة البناء، ليس البناء الحجري فقط، إنما إعادة بناء مجتمع المخيم.. أو هذا ما استطعت تكوينه من صورة خلال زياراتي في تلك الفترة.
في زيارتي الأخيرة، كان المشهد مختلفاً… فالشوارع والأزقة في حركة لا تهدأ… الحياة تدب في كل ناحية، والطبقات الأرضية، خصوصاً في الشوارع الضيّقة وليس داخل الأزقة، تكاد تختفي ليحل مكانها محال تجارية للمواد الغذائية والخضار ومطاعم ومقاه وصيدليات وعيادات طبية ومراكز وأندية رياضية.. وحتى مركز لايزر لإزالة الأوشام، فضلاً عن صالونات التجميل والنوفيتيه …الخ!!

كل شيء موجود في مساحة لا تتعدى بضع مئات من الأمتار طولاً وعرضاً… حتى أنه لا حاجة لساكن تلك المئات من الأمتار، الخروج الى مكان آخر لتأمين الاحتياجات.
لا مظاهر لمتطرفين ولتطرف.. نساء تبيع في الكثير من تلك المتاجر، بل والمطاعم، وكثيرات منهن سافرات وإن كانت ثيابهن شديدة الاحتشام، وهو مظهر اجتماعي مفهوم في مخيم كمخيم شاتيلا!!
لا أثر لسلاح أو للباس يفضله المتطرفون ويعرف باسم اللباس الأفغاني.. لا في الشوارع الضيّقة ولا في الأزقة بين المنازل المتلاصقة. وأكد كل من قابلناهم وجود فصائل إسلامية ممن تعد من الفصائل المعتدلة (“حماس” و”الجهاد”) وبعض المشايخ ومريديهم، لكن لا توجد مجموعات متطرفة منظمة.

عملٌ؛ أملٌ.. وخيبات

أي حديث، عرضي أو منظم، مع ساكني المخيم من الفلسطينيين، يبدأ بشكوى.. وأمل بأن تقود مبادرات فردية إلى الخروج من المستنقع.. ثم خيبات وعدم يقين بما يمكن أن يحمله المستقبل.
فـ “الفصائل” غير فاعلة، وغير مكترثة بهموم الناس في المخيم، وهي منقسمة على ذاتها. و”الجمعيات معظمها غير فاعل… يتم تأسيسها وتعمل بقصد الربح المادي الفردي… عدد قليل من الجمعيات العاملة في المخيم تنشط بشكل فعلي، ومعظمها عبارة عن مبادرات فردية!!”
وفي خلال حديثنا مع كل من قابلناهم، سمعنا شكاوى من عدم فاعلية اللجنة الشعبية وانقسامها إلى لجنتين واحدة تابعة لفصائل المنظمة والثانية لتحالف الفصائل المقرب من النظام السوري، تختلفان في كل شيء، وتتفقان على مشاريع تعطي بعض أفرادها مكاسب مالية خاصة ـ هذه الاتهامات تحفظ جزئياً عليها رئيس اللجنة التابعة لمنظمة التحرير، خلال حديث لنا معه؟؟
هناك فوضى خدمات… كهرباء وماء. لكن ما شهدناه خلال جولتنا، أن الأزقة لا تتكدس فيها النفايات، بعكس المشهد عند مداخل المخيم أو في محيط المخيم حيث تتكدس النفايات… ما يعني أن هناك من يهتم بجمع النفايات… وفي الغالب هذه مهمة الأونروا في كل المخيمات، لكن دائماً هناك شكوى من أن الأونروا غير فاعلة أيضاً.
المبادرات الفردية تعطي نتائج إيجابية أحياناً، فقد علمنا أنه في مبنى ملتقى الشطرنج الفلسطيني، توفي شاب من أعضاء الملتقى نتيجة صعقة كهربائية، فباشر أعضاء الملتقى بجمع تبرعات وعملوا على تنظيم التمديدات الكهربائية وقد باتت في بعض الأزقة تصل عبر كابلات ووسائل أمان وهي مغطاة بالكامل، وقد شاهدنا ذلك ولمسناه خلال جولتنا في الأزقة. لكن في أماكن أخرى لا تزال مشكلات الكهرباء تودي بحياة شبان بعمر الورد. فخلال إجرائنا إحدى المقابلات، بلغنا أن شاباً من اللاجئين السوريين قضى صعقاً بالكهرباء وهو يحاول أيصالها إلى منزل ذويه.

وربما تكون معاناة الأطفال في شاتيلا في ظل أوضاعه القائمة حالياً، في صدارة الاهتمام.. تقول صفاء عثمان، مسؤولة مركز الولاء للدعم النفسي للأطفال وحقوق الطفل وحمايته (مؤسسة مدنية تم إنشاؤها بمبادرة فردية): “الأطفال يعانون من العنف الإسري والمعنوي والنفسي نتيجة الوضع الاقتصادي، والمشاكل التي تحدث بشكل مفاجئ وصادم مثل العنف المفاجئ في الشارع وإطلاق النار.”
أما عمّا يحلم أطفال شاتيلا به، فهي: “حديقة ومراجيح.. وذلك بسبب عدم وجود أماكن للهو، واقتصارها على ترفيه داخل قاعات صغيرة الحجم، في الغالب”، وهو أمر شهدناه خلال حديثنا مع صفاء في مقر مركز الولاء، حيث حضر قرابة 20 طفلة وطفلاً ودخلوا إلى قاعة صغيرة للقيام بنشاطات تربوية وترفيهية.
“جو المخدرات يؤثر على الأطفال..”، تقول صفاء رداً على سؤالنا بشأن تأثير الأجواء السلبية على الأطفال؛ توضح أن “الأطفال يتحدثون عن المخدرات؛ هم يعرفون أنواع المخدرات حتى وإن لم يتعاطوها؛ يسمعون عنها من الكبار… خلال عملي مع الأطفال لم أصادف أي طفل يتعاطى المخدرات… انما هي شائعة بين بعض المراهقين والشباب.” تضيف “أصبح تدخين الحشيش وتعاطي الحبوب المخدرة أمراً عادياً… بل لم يعد يشار إلى هذه الآفة بأنها عيب، كما كان الأمر من قبل… ربما لكثرة متعاطي المخدرات!!”
ترى صفاء أن “محيط المخيم هو الموبوء، وقد صدّر الآفات إلى داخل المخيم: حي فرحات والحرش والحي الغربي وحي الرحاب، وهي خارج حدود المخيم وسكانها ليسوا من الفلسطينيين.” وتعتبر أن “البطالة والكسب السهل والسريع يشجع بعض المراهقين والشبان في المخيم على العمل في ترويج المخدرات.”
وفيما يتحدث كثيرون عن انتشار الدعارة في شاتيلا، تؤكد صفاء أنه “داخل المخيم لا توجد دعارة، لكن في محيطه هناك بيوت دعارة.. في الماضي تم اكتشاف بضع بيوت سريّة للدعارة من غير الفلسطينيين وليس من سكان المخيم، وقد جرى إقفالها وطرد من يديرها ويعمل بها.”
وتؤكد صفاء أن “وضع المرأة الاجتماعي في شاتيلا جيد ولا توجد قيود على ظهورها ومظهرها وعملها… فهي مسؤولة في مؤسسات مدنية وتدير مطاعم وبقالات.”
أما عن سؤال “شاتيلا الرمز”، فتقول صفاء: “لم يعد شاتيلا للفلسطينيين؛ اختلطت جنسيات كثيرة؛ بات وجود المخدرات أمراً مفروغاً منه وفيه بيئة غير صحية.” تضيف: “شاتيلا كان رمز الصمود ومخيم الشهداء؛ كان رمز الشتات.. ما هو عليه الآن أمر يحز بالنفس؛ لكن هناك عائلات ومؤسسات وفصائل لا تزال تعمل على إبقاء شاتيلا الرمز.”
وتحمّل صفاء الفصائل المسؤولية عن الفوضى القائمة في المخيم، إذ إنها سياسياً مختلفة بعضها مع البعض الآخر، وهذا ينعكس أيضاً على الوضع الاجتماعي والأمني، لأنها تخلط بين مواقفها السياسية واحتياجات السكان التي لا يجب أن تحكمها الخالافات السياسية.”
حال من هم في عمر الشباب لا يختلف كثيراً عن وضع أطفال ونساء شاتيلا. يوضح أحمد لطفي من منظمة الشبيبة الفلسطينية (ويعمل في تمديدات الساتلايت في المخيم) أن “حلم الشباب: العمل والزواج وامتلاك منزل”، ويشير إلى أن “نسبة الطلاق بين الأزواج الشباب مرتفعة، بسبب عدم القدرة على تأمين متطلبات الحياة الكريمة.”
وبشأن آفة المخدرات، يرى أن “هناك تضخيم لمسألة المخدرات، فهي موجودة لكنها لا تقتصر على شاتيلا، ففي كل لبنان تنتشر المخدرات بين المراهقين والشباب، وهناك جهود تبذل في المخيم للحد منها.”
ويشير أحمد إلى أنه “لم يعد هناك انسجام اجتماعي، فبعض المباني تسكنها عائلات متعددة الجنسيات وليس بينها أي رابط اجتماعي.”
ويحذر من أن “البناء العمودي يمثل خطراً دائما لأن البناء لا يتم على أساس علمي… أصبح هناك أبنية من 8 طبقات كل طبقة مركبة لصقاً فوق الطبقة السفلى… يمكن في أي وقت أن نشهد انهيار مبنى… أهل المخيم يبنون لإسكان أولادهم أو طمعاً بتأجير سوريين وغير سوريين… أو أنهم يبيعون السطح فيبني الشاري طبقة ثم يبيع بدوره السطح ليبني من اشترى طبقة أخرى… الخ.”
ويعتبر أحمد أن “المخيم هو مخيم الصمود… الصورة النمطية التي تعطى أنه موبوء بتجارة السلاح والمخدرات والدعارة، يسوق إعلامياً، لكنه غير دقيق… هذا موجود لكن ليس بالصورة التي يتم ترويجها.”
ويؤكد أن “شباب المخيم يتمسكون بالمخيم كرمز، لكن المشكلة عدم وجود ضبط أمني ولا اجتماعي ولا سياسي، الأمر الذي يجعل الوضع غير ممسوك… اللجنة الأمنية مفككة وليست فاعلة كفاية وكذلك الفصائل… لذلك تتفاعل الاشكالات وتأخذ وقتاً كي يجري حلها… وتحل عادة بتدخل من الوجهاء.”
ويطلب أحمد “من الفصائل ومؤسسات المجتمع المدني العمل على تأمين احتياجات المخيم وأهله في ظل تقليص خدمات الأونروا، لكي تتعزز جهود الشباب بإعادة المخيم كرمز للتضحية والصمود وإرادة الحياة.”
من ضمن المبادرات الفردية، الحملة لمكافحة ترويج المخدرات وتعاطيها، وأحد المبادرين فيها هو حسن عثمان، وهو مؤسس صفحة أخبار شاتيلا على الفايسبوك وأحد مؤسسي الحراك الشبابي الذي نشط ولا يزال في هذا المضمار.
يبدي حسن أسفه على ما حل بالمخيم، الذي “تحول من رمز إلى بؤرة.” لكنه يقول إنها ليست الصورة التي يجب أن يكون عليها: فـ “المخيم قدم تضحيات وآلاف الشهداء والجرحى.. إنه مخيم دلال المغربي وعلي أبو طوق.”
يتهم حسن “بعض الأفراد الذين يتغطون بانتمائهم إلى الفصائل بتسهيل عمل مروجي المخدرات… لكن ليست الفصائل كفصائل هي من تسهل ذلك.” ويقول: “نعم هناك تجار ومروجين ومتعاطين… وهم أقوياء وقد يكونون أقوى من الفصائل ـ إنهم مسلحون أيضاً ـ لقد جرى تهديد وترهيب الناشطين في حملة مكافحة المخدرات كثيراً، ونحن نعمل وسط مخاطر عديدة.”
وليست المخدرات وحدها التي تمثل خطراً على المخيم الذي “لم يعد مخيماً فلسطينياً.. الديموغرافيا تتداخل. وعندما يقال تاجر أو مروج في شاتيلا يعتقد من لا يعرفون التفاصيل أن ذلك يحدث حصراً في المخيم… لكن معظم ذلك يتم في الأحياء المحيطة وليس في المخيم… علماً أن هناك تجاراً صغاراً ومروجين داخل المخيم لكن بضاعتهم تأتي من خارج المخيم. وبالتأكيد لم يكن التاجر أو المروج اللبناني أو السوري ليتجرأ على دخول المخيم لو لم يكن هناك من يحميه داخل المخيم، أو من يتعاطى معه.”
ويشير إلى أن حملة مكافحة انتشار وترويج المخدرات، والتي بدأت على صفحة أخبار شاتيلا على موقع فايسبوك ومن خلال نشاط أعضاء الحراك الشبابي، أثمرت في تلبية دعوة لتظاهرة، شارك فيها أكثر من 1500 من أبناء المخيم، والتي في إثرها لم يعد هناك ترويج علني للمخدرات، لكن الترويج استمر يشكل أكثر حذراً وسرية… قبل التظاهرة كان المروجون يبيعون الحشيشة والمخدرات علناً وعلى بسطات في الشوارع، وهذا لم يعد موجوداً حالياً.”
أوضح أن “آفة المخدرات بدأت من خلال تعاطي بعض الشبان والمراهقين، ثم باستقطاب التجار من خارج المخيم بعض هؤلاء لترويج المخدرات، وبسبب الكسب السريع، انشرت عمليات الترويج وأصبحت هناك عصابات ترويج داخل المخيم لها صلات وتحميها عصابات المتاجرة بالمخدرات خارج المخيم.”
ولم تكتف الحملة في التوجه إلى السكان في مسعاها لمحاربة المخدرات، فزار نشطاء الحملة ” الفصائل وطالبوا بالتشدد في قمع المروجين، وتلقوا وعوداً بذلك، لكن عملياً لم يحصل أي شيء…”؛ أكد أنه “لا يكفي أن تقوم اللجنة الأمنية بطلب تعهد من المروج بالتوقف عن الترويج، لأن عائلته أو الفصيل الذي ينتمي إليه طلب ذلك، إنما يجب تسليمه إلى السلطات اللبنانية والعمل على إنزال أقصى العقوبات به كي يرتدع.” يقول “إن على الفصائل قبل أن ترفع شعار تحرير فلسطين، أن تعمل على تحرير المخيم من آفة المخدرات.”
وعلى الرغم من انتقاده تقصير الفصائل، إلاّ أنه يؤكد أن “الفصائل لعبت دوراً في التوعية على مخاطر المخدرات وعقدت ندوات جلبت لها مختصين، وهذا جيد لكن غير كاف، إذ يجب أن يسير بالتوازي مع إجراءات ميدانية لمكافحة وإنهاء عصابات الترويج.”
كما انتقد اللجنة الشعبية بشقيها التابع للمنظمة والتابع لتحالف الفصائل، ووصمهما بالفساد، وقال إنها “غير منتخبة ولا تمثل الناس وهمومهم؛ أعضاء اللجنة مهتمون بالتمويل والفائدة الشخصية والبروز الشخصي ولا دور للجنة الشعبية التابعة للمنظمة أو الأخرى التابعة للتحالف في حملة مكافحة المخدرات.”
يبدو حسن ـ مثله مثل الكثير ممن تحدثنا معهم، ووافقوا على نشر ما قالوه أو تحفظوا ـ متخوفاً على مستقبل المخيم “إذا بقي على ما هو عليه حالياً… فإذا بقي الفلسطينيون أقلية في مخيمهم وازداد أكثر عدد غير الفلسطينيين، ماذا يبقى من المخيم؟”
قال: “أنا شاركت في الدفاع عن المخيم خلال حرب المخيمات… ولو عرف الشهداء الذين سقطوا أننا سنصل إلى ما وصلنا إليه، ربما لم يكونوا ليقدموا على التضحية بحياتهم، فيما المخيم بات الآن ساحة لتجار المخدرات والفاسدين من سماسرة الكهرباء والماء والبنى التحتية.”
لكن، وعلى الرغم من الواقع السلبي، يبدي بعض التفاول ويؤكد أن “روح المخيم، وعلى الرغم من المشاكل الحالية والمخدرات والفساد، لا تزال ظاهرة… فأخيراً أقيم احتفال بذكرى استشهاد القائد علي أبو طوق، كان لافتاً فيه الحضور الشبابي الكثيف. وفي النهاية فإن المسيئين لرمزية المخيم مصيرهم النبذ والسجن.”
ولمواجهة الواقع السلبي وتغييره، يدعو حسن الفصائل “إلى نبذ الخلافات السياسية والعمل على حماية المخيم وأهله، وإنشاء قوة أمنية موحدة وحقيقية، ومحاربة آفة المخدرات ووقف الفساد ومافيات المياه ومولدات الكهرباء والبنى التحتية.”

أخيراً ينتقد حسن، كيفية التعاطي الإعلامي اللبناني مع قضايا المخيم، ويضرب مثلاً “محمد علي الويس (لبناني) قاتل أنطوان عون على خلفية تجارة مخدرات، الذي اعتقلته اللجنة الأمنية الفلسطينية وسلمته للأجهزة الأمنية اللبنانية، لكن الإعلام اللبناني أظهر الأمر وكأن الويس من سكان المخيم، وأن الأجهزة الأمنية اللبنانية هي التي اعتقلته، فيما الصحيح أنه التجأ إلى المخيم، ولم يمكث طويلاً حتى داهمته القوة الأمنية واعتقلته وسلمته للأجهزة الأمنية اللبنانية.”
ويدعو وسائل الإعلام “إلى التفريق ما بين الأحياء المحيطة بالمخيم والتي تنتشر فيها تجارة المخدرات والدعارة وغير ذلك من آفات، وهي أحياء محميّة، وبين المخيم الذي يتأثر بمحيطه، لكن ما فيه من مشاكل أقل كثيراً من تلك الموجودة في المحيط وتلصق من غير حق بالمخيم.”
إحدى المبادرات الفردية المميزة، هي تلك التي قادها مؤسس ورئيس ملتقى الشطرنج والناشط الإعلامي محمود هاشم.
يقول عن ملتقى الشطرنج الفسطيني أنه “مبادرة فريدة في لبنان وفردية، تهدف لتنمية القدرات الذهنية لدى الناشئة… نعتمد فيها على مساهمات ومساعدات فردية ونرفض أي تمويل دولي… وقد عرضت علينا تمويلات من هذا القبيل ورفضناها.”
وفي حديثه عن مبادرته، يمكن تلمس موقف الكثيرين في شاتيلا وغيره من المخيمات، الفاقد الثقة بالمنظمات غير الحكومية التي تكاثرت في السنوات الماضية، ويقول: “لسنا جمعية [منظمة غير حكومية] لأن سمعة الجمعيات لدى الكثيرين ليست جيدة.. الجمعيات هدفها التمويل. نحن نُموَّل جزئياً من قبل رجل أعمال فلسطيني، الذي حضر إلى الملتقى قبل نحو عامين، وكنّا على وشك الإقفال، لأني لم أعد قادراً على الصرف على الملتقى من مرتبي الضئيل، وعلى بيتي. حضر هذا الشخص ولم أكن أعرفه ولم أعرف حتى من هو، وسأل عمّا يقوم به الملتقى، فشرحت له الأمر وتفاجأت أنه حضر ثانية وقرر أن يشتري لنا المبنى الذي رممه أعضاء الملتقى، وقرر رجل الأعمال هذا مشكوراً تخصيص مصروف شهري يكفي نثرياتنا، وعلى ضآلة المبلغ، إلا أننا نكتفي به. واللافت أن المساعدة التي قدمها ويقدمها المتبرع هذا، غير مشروطة بأي شيء، وهو لا يتدخل أبداً.. هذا هو النوع من التمويل الذي يجب التمسك به، وليس التمويل المشروط بمشاريع على القياس.”
ويضيف محمود: “لدينا علاقة مع الاتحاد اللبناني للشطرنج وأحياناً يقدمون لنا رقع شطرنج كهبات.”
ويصف الإقبال على الملتقى بأنه “كبير لأن الأهالي يشجعون أبناءهم على الدخول في مبادرات إيجابية تبعدهم عن الأجواء الموبوءة.”
ويرى أن “أهمية لعبة الشطرنج أنها تحفيز ذهني وتنمية للقدرات الذهنية، فمن يلعب الشطرنج يفكّر ويميّز… وهذا ينعكس على خياراته الاجتماعية، وخصوصاً في مسألة الحشيشة والمخدرات، فلا أحد ممّن يرتادون الملتقى ويمارسون لعبة الشطرنج يتعاطى المخدرات.”
لكن المبادرات الفردية تبقى محدودة النتائج، فـ “نحن لا نستطيع تغيير المخيم، لكن عبر ما نقوم به نساهم في إبعاد 37 عضواً (6 ـ 17 عاماً) عن وباء تعاطي المخدرات.”
ويعتبر أن “الصورة ليست كلها سوداوية؛ لكن يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، وأن لا نخفي السلبيات، كي نتمكن من إصلاحها.” ويقول: “المشكلة في الإعلام أنه يسلط الضوء على السلبيات ويضخمها، ويصور المخيم على أنه بؤرة أمنية وإجرامية، وهذا غير دقيق.”
لكنه يعترف أنه “مقارنة بالماضي نحن مستاؤون من واقع المخيم. في السابق كان المخيم بؤرة ثورية؛ الآن هناك فلتان أمني وأخلاقي.”
ويحمّل هاشم، “المرجعيات” الفلسطينية مسؤولية ما آلت أيه الأوضاع، ويقول: “للأسف لا توجد مرجعية تكون على مستوى تاريخ وتراث ورمزية المخيم… هذا الوضع قاد المخيم إلى الواقع الذي يعيشه حالياً. الفصائل واللجنة الشعبية غير جديّة في محاسبة المجرمين والمسيئين ومروجي المخدرات. اللجنة الشعبية لا تقوم سوى بإجراءات إدارية وأعضاؤها يهمهم الوجاهة فقط، وليس خدمة المخيم والحفاظ على المجتمع. المسؤولية لا تقع على الأفراد، إنما على المرجعية الفلسطينية المفترض أنها مسؤولة عن الفلسطينيين.”
ويكرر ما يقوله الجميع: “لدينا لجنتين: واحدة تابعة للمنظمة والثانية لتحالف الفصائل.. والانقسام السياسي يعكس نفسه على عمل اللجنة الشعبية. كما أن حماس والجهاد غير ممثلتين في أي من اللجنتين وهذا يضعفهما. يجب توحيد اللجنة الشعبية وتمثيل الجميع فيها وأيضاً تمثيل المجتمع من خلال اجراء انتخابات، فحالياً اللجنة الشعبية هي تجمع فصائل وليست لجنة من الشعب وللشعب، وبالتالي لا تقوم بأي دور خارج مصلحة الفصائل وفي بعض الأحيان لمصلحة مسؤول هذا الفصيل أو ذاك.”

لجنة شعبية محكومة بالواقع

أمام سيل الاتهامات بتقصير وقصور عمل اللجنة الشعبية، كان لا بد من استطاع رأي اللجنة التابعة لفصائل منظمة التحرير بعد الإجماع الذي لمسناه على أنها هي الفاعلة بحدود معيّنة، وهي المعترف بشرعيتها. فكان لقاء مع زياد حمّو ـ أمين سر اللجنة الشعبية (التابعة لفصائل منظمة التحرير).
في الطرف الشمالي للمخيم، وبين الأزقة، يقع مقر اللجنة الشعبية التابعة لمنظمة التحرير. فضلاً عن رئيس اللجنة السيد زياد حمّو (المعين من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطيني في اللجنة) يتواجد عضوان آخران: أحدهما “مستقل” مقرب من “فتح” والثاني من الجبهة الديموقراطية.
هذا التفصيل كافٍ كي يتم الاستغناء عن الحديث مع مسؤولي فصائل المنظمة. فالأعضاء يمثلون اللجنة والفصائل في آن.
يشرح زياد حمّو قائلاً: “اللجنة هذه هي اللجنة الرسمية والمعترف بها والناشطة، وهي مكونة من ممثلين عن فصائل المنظمة وبعض المستقلين، أمّا اللجنة الثانية التابعة لفصائل التحالف فغير موجودة فعلياً، هي عبارة عن أمين سر اللجنة سليمان عبدالهادي.”
يضيف: “بدأت مسؤوليتي مؤخراً وكان مكتب اللجنة متداخلاً مع مقر حركة ‘فتح’، ولا توجد أي خصوصية للمكتب. ولذلك عملت أولاً على الانتقال إلى المقر الجديد المنفصل عن مقار كل فصائل المنظمة.”
وعن عمل اللجنة، يوضح: “طورنا عملنا الإداري وأصبح لدينا ملفات محفوظة وأرشيف. كما طورنا علاقاتنا بمنظمات وهيئات دولية؛ على سبيل المثال وليس الحصر، لدينا علاقات مع أطباء بلا حدود وأرض البشر والإنقاذ الدولية، وغيرها من الهيئات والمنظمات. وهناك مشروع لتنظيم البنية التحتية من كهرباء وصرف صحي، مع الاتحاد الأوروبي. ومحلياً نحن نتعاون مع بلدية الغبيري والعلاقة بيننا إيجابية جداً. ونتعاون مع مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني الفلسطيني في المخيم. ونعمل مع الجميع من دون التمييز بشأن الانتماء الفصائلي.”
ويوافق حمّو على ما يقوله الجميع من أن اللجنة تكتفي بالمهام الإدارية، فإدارة الخدمات في المخيم منوطة بها رسمياً. ويقول: “مهمتنا هي القيام بكل الأعمال الإدارية المتعلقة بالمخيم: بيع وتأجير المساكن. الأمن العام اللبناني لا يعترف بأي ورقة تعريف وسكن ما لم تكون صادرة عن اللجنة الشعبية التابعة للمنظمة.”
لكن أمين سر لجنة فصائل المنظمة يشير إلى أن “الكهرباء ليست ضمن مسؤولية اللجنة الشعبية. هناك مشكلة كبيرة بشأن الكهرباء. هناك قوى تضع يدها على هذا المرفق، ونحن لا نريد أن نكون جزءا من ذلك.”
ويوضح أن “مشكلة الكهرباء أيضاً لها علاقة بمؤسسة كهرباء لبنان. حضر مندوب من المؤسسة واشتكى من أن الجباة لا يستطيعون جبي الاشتراكات، فقلت له أرسلهم إلينا ونحن نطلب من اللجنة الأمنية مرافقهم عندما يريدون جباية الاشتراكات. أوضحت له أن هناك 130 طلب اشتراك مدفوعة لكن المؤسسة لم تركب أي ساعة حتى الآن.”
ويلفت في هذا الملف إلى أن “هناك مبادرات فردية لتنظيم تمديدات الكهرباء، مثل مبادرة ملتقى الشطرنج ـ بعد وفاة أحد الأعضاء صعقاً ـ في جمع تبرعات وتنظيم تمديدات الكهرباء في الزاروب الذي يقع فيه مقر الملتقي. وهناك مؤسسات مدنية تعمل على مسألة الكهرباء، فمثلاً مؤسسة بيرسيو دفعت مئة ألف دولار لتنظيم التمديدات وشراء محولات وتقوية الكهرباء، وقد أنجز المشروع في كثير من الآزقة، لكن ليس في كل أنحاء المخيم. ونحن لم نتدخل في هذا المشروع، لأن هناك تداخلاً في الأمر ومشاكل سياسية تحول أحياناً دون إشرافنا على المشاريع، وبالتالي لا يتم استكمال العمل.”
وفضلاً عن الكهرباء “هناك مشكلة المياه أيضاً،” يضيف حمّو: “المياه في المخيم مالحة. وهناك مافيات تحتكر ضخ وتوزيع المياه الحلوة. وفي الفترة الأخيرة بادرت الأونروا إلى إعادة تأهيل تمديدات المياه.”
كما يلفت إلى أن “هناك مشروعاً بتمويل سويسري لتأهيل تمديدات المياه ونحن شركاء فيه. توجد شبكة مياه تحت الأرض تابعة للدولة اللبنانية وهي أفضل من الشبكات التي تم إنشاؤها فوق الأرض. هناك من حاول إقناع المهندس السويسري بإنشاء تمديدات هوائية. رفضنا ذلك وأصرينا على استغلال وجود الشبكة التحت أرضية الجاهزة والتي تصل إلى كل المنازل، ولا يمكن السيطرة عليها من قبل المحتكرين، بخلاف الشبكة الهوائية التي اقترحت. علماً أن بلدية الغبيري متعاونة معنا في هذه المجال إلى أقصى الحدود.”
وإجابة عن سؤال بشأن آفة تعاطي تفشي المخدرات والحشيشة، يقول إنها “تأتي من خارج المخيم، وهناك مروجين داخل المخيم، وأحد أسباب عملهم في الترويج هو البطالة وعدم وجود فرص عمل.”
لكن ماذا عن المطلب الدائم لسكان المخيم، بشأن تطوير عمل اللجنة الشعبية، واللجوء إلى الانتخابات؟
يقول زياد حمّو: “أنا مع فكرة الانتخابات… لكن يجب ان تكون هناك شروط ومعايير.” وعن الصلاحيات، يقول: “يجب إن تعطى صلاحيات للجان الشعبية من قبل الفصائل ومن دون تدخلات مباشرة بعملها، ومن قبل الدولة اللبنانية بحيث تكون بمثابة بلديات للمخيمات. الآن الدولة اللبنانية تتعامل مع اللجان الشعبية كأمر واقع لكن لا تعترف رسمياً بها.”

سؤال المستقبل.. جوابه في الحاضر؟

لكن ماذا عن المستقبل. فالحركة والحيوية التي يلمسها أي زائر للمخيم، ليست سوى جسد بلا روح. والسائد لدى كل من يوُجه السؤال له عن المستقبل، عدم اليقين… وعدم التفاؤل في المستقبل، إن لم نقل التشاؤم.
فمشكلة انقسام فصائل أساسية في وضع المخيم وانعكاس ذلك على عمل اللجنة الشعبية، التي لا تعمل سوى في الملفات التي يتم التوافق عليها، وتتهرب من ملامسة الملفات التي تحكمها سلطة المافيات المحميّة من بعض الفصائل!
والتغيير الديموغرافي خطر داهم… ماذا يبقى من المخيم إذا تركه سكانه الفلسطينيون؟
ففيما شاتيلا تتغير ملامحة الديموغرافية، يُحكى عن تجمع من سكان شاتيلا في ضواحي عاصمة الدنمارك، كوبنهاغن، يبدو أنه يمتلك روح المخيم أكثر من المخيم نفسه. وهذا التجمع نشأ بسبب الهجرات المتواصلة بعد مجزرة صبرا وشاتيلا وحرب المخيمات، وبفعل التهميش الذي يعانيه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وعدم الاهتمام بهم من قبل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، بعدما بات التركيز هو على “الدولة الفلسطينية” في إثر اتفاقات أوسلو وإنشاء السلطة الوطنية، وهي الدولة التي لا يبدو أنها ستقوم أصلاً.
إن من بقي في المخيم من لاجئين فلسطينيين قد يذوب مع سكانه الجدد الذين بات عدد كبير منهم يملكون منازل ومبان، فالمخيم كمكان من دون أكثرية فلسطينية يكون كجسد بلا روح، ولن يبقى شيء من رمزية المخيم، بل إن شواهد مثل المقبرة الجماعية التي باتت محجوبة بسبب البسطات التجارية، وحتى مقبرة الجامع لشهداء حرب المخيمات، قد تزولان كأثر.

شاتيلا

إن الحياة التي تدب في المخيم ليست بالضرورة شاهداً على حيوية المخيم… بل هي صورة عن تحوله من رمز إلى مكان بلا ملامح.
باختصار، وكما قال كل من التقيناه ـ من أذن بنشر ما قاله ومن لم يأذن ـ فإن المستقبل يلفه عدم اليقين، بل ربما اليقين بأن المخيم، كرمز، إلى زوال، إذا لم يتم تدارك الأمر… وهي مهمة ليست سهلة، بعدما بات اللاجئون الفلسطينيون في مخيمهم، أقلية.