الصين والأردن: تجربة بتوقعات إيجابية ونتائج سلبية

العلاقة بين الأردن والصين ليست وليدة سنوات قليلة، فجذورها تعود إلى سنة 1977، وقد تعمّقت وازدهرت منذ سنة 2015، لكنّها تراجعت في العامين الأخيرين على خلفية مشروع “عطارات” للطاقة الذي سنأتي على ذكر تفاصيله في نهاية هذه الورقة، باعتباره نموذجاً حياً لشكل العلاقات والهواجس لدى الطرفين.

تاريخ العلاقات الأردنية الصينية

دُشنت العلاقة الدبلوماسية بين عمّان وبكين في 7 نيسان/ أبريل 1977. ومنذ تولي الملك عبد الله الثاني العرش في شباط/ فبراير 1999، زار الصين 8 مرات، فأقام صداقة عميقة مع القادة الصينيين، وفي سنة 2015، وقع البلدان اتفاق “الشراكة الإستراتيجية” الذي فتح بينهما فصلاً جديداً في العلاقات.

في سنة 2021، تبادل الرئيس شي جين بينغ والملك عبد الله الثاني رسائل التهنئة بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني والذكرى المئوية لتأسيس الأردن، وأعلنا عن التوجه إلى تبني سياسة “تنموية مستقبلية” للعلاقات باعتبار تلك السنة “نقطة انطلاق تاريخية جديدة”.

وفي السنة نفسها (2021) انتعشت التجارة الثنائية بين الصين والأردن بقوة على الرغم من جائحة كورونا، ووصل التبادل التجاري بينهما إلى 4,416 مليار دولار أميركي، أي بزيادة سنوية قدرها 22%.

تعاونت الصين والأردن خلال جائحة كورونا، واتخذ الأردنيون إجراءات للتبرّع بمواد مكافحة الوباء للمناطق المتضررة بشدّة في الصين، وبدورها قدمت الصين اللقاحات للأردن مرتين، كما سهّلت له شراء اللقاحات أيضاً.

مذّاك إلى اليوم، قدمت الصين إلى الأردن أنواعاً مختلفة من المساعدة، بما في ذلك: المنح التعليمية المجانية، والقروض الميسرة، ومشاريع للبنية التحية، ودورات تدريبية للموارد البشرية، كما ساعدت اللاجئين في الأردن من خلال الوكالات المتعددة الأطراف مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وبرنامج الأغذية العالمي.

تُقدم الصين لطلاب الأردن المنح الدراسية للمشروعات الحكومية، وقد أنشأت “مجلس المنح الدراسية الصيني”، حيث درس ما يزيد عن 200 طالب أردني في الصين من خلال برامج المنح الدراسية، وشارك أكثر من 900 طالب أردني في دورات تدريبية قصيرة المدى حول المساعدات الخارجية الصينية.

ويعتبر الطلاب الصينيون الأردن أحد الأماكن الأولى لتعلم اللغة والثقافة العربية، وتزداد شعبية اللغة الصينية في الأردن.

وفي الأردن أيضاً، هناك معهد طلال أبوغزاله – كونفوشيوس في عمان، ومعهد كونفوشيوس في جامعة فيلادلفيا في الأردن. الجامعة الأردنية  (UJ)، الكلية التربوية الإسلامية (IEC)، معهد اللغات الدفاعية (DLI)  لديها نقاط تدريس اللغة الصينية.

وتقيم الصين كل سنة، مسابقة “الجسر الصيني” لإتقان اللغة الصينية لطلاب الجامعات الأجنبية في الأردن. كما تعقد الفعاليات مثل “ندوة رفيعة المستوى لإذاعة وتلفزيون الدولة العربية” و”رؤية الصين: ورشة عمل للفنانين العرب المشهورين في الصين”.

وحظيت بترحيب حار من الشعب الأردني، الأنشطة الثقافية الصينية مثل “العام الصيني الجديد” و”معرض التراث الثقافي غير المادي” ومشاركة الفرق الفنية الصينية في “مهرجان جرش” الفني.

كما وعدت الصين باستثمارات رئيسية في البنية التحتية الأردنية، بقيمة إجمالية تزيد عن 7 مليارات دولار، تضمنت:

– إنشاء جامعة صينية/ أردنية جديدة (لم تبصر النور إلى اليوم).

– بناء خط سكة حديد وطني (لم يُنفذ)

– خط أنابيب نفط يربط البصرة في العراق بالعقبة، المدينة الساحلية في جنوب الأردن (مجمد بسبب تردد العراق).

– مشروع محطة كهرباء “العطارات”، وهو الاستثمار الصيني الرئيسي في الأردن، باعتباره أكبر مشروع خاص للبنية التحتية الصينية في مبادرة “الحزام والطريق” خارج الصين (يخضع حالياً للتحكيم الدولي بعد خلافات بين الأردن والصين. انظر التفاصيل أدناه).

كما خططت الصين لنحو 29 مشروعاً تنموياً في الأردن منذ سنة 2015، الغالبية العظمى منها خُصصت لقطاعي الطاقة والبنية التحتية. كما اشترت الشركات الصينية أغلب الحصص في شركة “البوتاس العربية الأردنية”، وهي واحدة من الشركات الرائدة في العالم في إنتاج البوتاس، وكذلك في شركة العطارات للطاقة التي تقود بناء وإدارة محطة العطارات في الأردن (والتي تعثر العمل بها لاحقاً).

وفي سنة 2021، وافق “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” (الأردن عضو مؤسس فيه) على أول مشروع استثماري في الأردن، لدعم التعافي الاقتصادي والتحول الأخضر.

ماذا تريد الصين من الأردن؟

تقول الصين أنها تريد تعزيز قدرة الأردن، كمركز اقتصادي أساسي في مبادرة “الحزام والطريق”، وكذلك مركزاً محتملاً لـ “إعادة إعمار سورية بعد انتهاء الحرب”.

وأدرجت بكين الأردن ضمن برنامج قروض الرئيس شي جين بينغ، التي خصصت نحو 20 مليار دولار لدول الشرق الأوسط، وخصوصاً أن الأردن يقع ضمن نقطة استراتيجية، وكان بمثابة عقدة مهمة وطريق تجاري لـ “طريق الحرير القديم” منذ العصور القديمة.

واليوم، وباعتباره “واحة استقرار” في المنطقة، يرى الصينيون أن الأردن يمكن أن يلعب دوراً مهماً في البناء المشترك لـ “الحزام والطريق” مع دول الشرق الأوسط. ولهذا كانت الصين تؤكد رغبتها في العمل مع الأردن من أجل مواصلة مواءمة استراتيجيات التنمية وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري وتحسين الارتباطية وتشجيع تنفيذ المزيد من المشاريع العملية.

مشروع العطارات نموذجاً لمشاريع "الحزام الطريق"

صُوِّرت محطة العطارات لتوليد الطاقة الكهربائية في الأردن، على أنّها مشروع تاريخي يَعِد بتزويد المملكة الصحراوية، بمصدر رئيسي للطاقة مع توطيد علاقاتها مع الصين. لكن بعد أسابيع من الافتتاح الرسمي للمحطة، تحول الموقع جنوب العاصمة عمّان، إلى مصدر لجدل محتدم بين عمّان وبكين.

وقد وضعت صفقة الموقعة بين الصين والأردن، ثم عمل المحطة، عمّان في مأزق بسبب ديون بمليارات الدولارات لمصلحة الصين، وأجّجت التوترات بين البلدين، بعد طعن تقدم به الأردن لعدم حاجته إلى المحطة، ولجأ للبت في الخلاف، إلى التحكيم الدولي لدى غرفة التجارة الدولية في باريس.

الأردن يدفع ثمن التحكيم

إذاً، دفع تراجع المشروع أو التأخير بتنفيذه، الحكومة الاردنية إلى التوجه إلى التحكيم الدولي في كانون الأول (ديسمبر) 2020، في مواجهة مع “شركة العطارات” للطاقة المملوكة بنسبة 45% للحكومة الصينة عبر شركة “غواندونغ للطاقة”.  والنتيجة كانت تأجيج التوترات بين البلدين ضمن “معركة قانونية”، قد تتسبّب بتعريض السمعة الاستثمارية في الأردن للتشويه، وخصوصاً أن فُرص خسارة الأردن في التقاضي تبدو مرتفعة، الأمر الذي سوف يُرتب على عمّان أعباء مالية كبيرة، يتحملها المواطنون الأردنيون دافعو الضرائب، ناهيك عن أن ذلك يشكل عام طرد للاستثمار ويخفض النمو الاقتصادي، ويرفع بالتالي معدلات الفقر والبطالة، علماً أن الأردن يحتل أيضاً المركز الأول في أعلى فاتورة كهرباء بين الدول العربية وشمال أفريقيا.

ما هي التبعات المالية والاجتماعية؟

إذا استمرت الاتفاقية الأصلية بين الأردن والصين، سيتعين على عمّان أن تدفع للصين 8,4 مليار دولار على مدى 30 عاماً، مقابل شراء الكهرباء المولدة من هذه المحطة. ولهذا تقدّر الخزينة الأردنية، خسارة الأردن نحو 280 مليون دولار سنوياً.

وتعتبر الأردن أن شراء كهرباء المشروع بسعر 11,8 قرشاً للكيلو واط/ ساعة فيه غبن وإجحاف، وخصوصاً أن الكهرباء مُنتجة من وقود محلي (الصخر الزيتي)، بينما إنتاجها بالغاز المستورد (محطة السمرا الحكومية مثلاً)، يُكلف قرابة 5 قروش للكيلو واط/ ساعة.

ولتغطية المدفوعات، يقول خبراء الطاقة إنّه يتعين على الأردن رفع أسعار الكهرباء للمستهلكين بنسبة 17%، وهي ضربة قاسية لاقتصاد مثقل بالفعل بالديون والتضخم.

وتؤكد وزارة الطاقة الأردنية أن التحكيم الدولي، هدفه “رفع الغبن الفاحش في اتفاقية شراء الطاقة من شركة العطارات”، وإصدار حكم يُمكّن شركة الكهرباء الوطنية الأردنية من فسخ العقد.

تفاصيل المحطة

تعود جذور المشروع إلى سنة 2008، عندما تم تصميم مصنع الزيت الصخري الموجود في منطقة منطقة اللجون على أرض مساحتها 15 كيلومتراً مربعاً. وفي حينه كان مشروعاً واعداً لتحقيق الطموحات الوطنية في خطة الاستقلال بمشاريع الطاقة. مع العلم أنّ الإنتاج العالمي للنفط من الصخر الزيتي، لا يتعدى 20 ألف برميل يومياً، وهي تجارب موجودة في البرازيل واستونيا والصين فقط.

ويملك الأردن رابع احتياطي في العالم من خام الصخر الزيتي، وبحجم يقدر بنحو 40 ملياراً إلى 70 مليارَ طن من هذا الخام. وتقول السلطات الأردنية إن المواقع المعروفة التي تحتوي على الصخر الزيتي في المملكة، تبلغ 18 موقعاً.

في سنة 2012، اقترحت “شركة العطارات” الأردنية  الخاصة للطاقة على الحكومة، استخراج الزيت الصخري من الصحراء، وبناء محطة لتستخدمه في توفير 15% من إمدادات الكهرباء في البلاد. في حينه، قال مسؤولون أردنيون إنّ مشروع “شركة العطارات” يتناسب مع رغبة الحكومة المتزايدة في الاكتفاء الذاتي من الطاقة وسط اضطرابات “الربيع العربي” في سنة 2011.

في حينه أيضاً، كشف عضو مجلس إدارة “شركة العطارات” للطاقة محمد معيطه، إنّه عرض المشروع في جميع أنحاء العالم، من الولايات المتحدة وأوروبا إلى اليابان وكوريا الجنوبية، لكن لم يلق اهتماماً إلا من الصين التي عرضت مصارفها في 2017، أكثر من 1,6 مليار دولار على شكل قروض من أجل تمويل بناء المحطة الذي كان المشروع الاستثماري الأكبر في الأردن، كما أنّه أول مشروع يستخدم موارد الصخر الزيتي الوفيرة تجارياً في المملكة.

وقد اشترت شركة صينية مملوكة للدولة (مجموعة “غواندونغ للطاقة”)، حصة 45% في شركة العطارات، مما جعلها أكبر مؤسسة خاصة تخرج من مبادرة “الحزام والطريق”.

وكانت قدرة المحطة المقررة نحو 2 × 235 ميغاواط، وبتكلفة استثمارية إجمالية تبلغ 2,1 مليار دولار أميركي، تتعهد الحكومة الأردنية بشراء إنتاجها الكهربائي وربطها بالشركة الأردنية الام.

في منتصف 2021، بدأت “شركة العطارات” بالتشغيل التجريبي، وفي المرحلة الأولى، كانت تستطيع توليد 277 ميغاوات يتم استهلاك 40 ميغاوات منها في داخل موقع الشركة، وجرّ قرابة 235 ميغاوات على شبكة الوطنية.

ولا يتوقف الاهتمام الصيني بالمشروع الأردني على جني المال من الأردن فقط، بل يتعداها إلى سورية التي تمكن فيها نظام بشار الأسد من كسب الحرب الأهلية في سنة 2017، وكان للصين مصلحة في الاستثمار بهذا المشروع المجاور لسورية باعتباره نقطة انطلاق، مع توقع طفرة في إعادة إعمار ذلك البلد المدمر، يمكن أن تؤمن استثمارات للصين بمليارات الدولارات.

حتى سنة 2020، كانت “شركة العطارات” مستمرة في بناء مشروعها بعد التعاقد عليه في سنة 2014، وذلك بمباركة من الحكومة ومجلس النواب، وبهدف رفع مستوى “أمن الطاقة” الاستراتيجي للأردن، ودعم التنوع في مصادر الطاقة، وتوفير فرص عمل واكتساب خبرات محلية، لكنّ المشروع تأخر.

لماذا تأخر المشروع؟

تأخر تنفيذ المشروع لأسباب عديدة، وتقول الجهات الرسمية الأردنية إنّ التأخير كان سببّه التالي:

– تلكؤ مجمع الشركات، ضمنها “شركة العطارات” وتوابعها، بعد دراسة الجدوى الاقتصادية.

– جائحة كورونا والظروف الاقتصادية الناتجة عنها.

– انخفاض أسعار النفط نسبياً، والذي جعل تقنية التقطير تواجه تحديات تمويل، في مقابل توجه العالم صوب مشاريع الطاقة المتجددة والبديلة والصديقة للبيئة بدافع مكافحة التغير المناخي.

لكن على الرغم من ذلك، يعزو بعض المراقبين فشل المشروع إلى عوامل أخرى، تتحفّظ الحكومات الأردنية عن ذكرها، وعندما سُئلت عن أسباب موافقتها على مثل هذا العقد “غير المتوازن” منذ البداية، رفضت وزارة الطاقة الأردنية التعليق رداً على أسئلة أكبر وسائل الإعلام العالمية، وكذلك فعلت شركة الكهرباء الوطنية.

أمّا الأسباب غير الرسمية، فيعزوها المراقبون إلى: الفساد المستشري في الأردن وسوء التخطيط؛ التعاقد الخاطئ؛ الضغوط الخارجية.

انسحاب أميركا هو السبب

يصور مسؤولون أميركيون العقد بين الأردن والصين على أنّه “فخ دبلوماسي صيني”، وخصوصاً بعد أن امتنعت وزارة الخارجية الصينية عن التعليق على تداعيات المشروع، ودافعت عن استثمارات بكين في البلدان النامية، ونفت المزاعم بأنّها تُورّط شركاء في الديون.

أمّا الخبراء الغربيون، فيعتبرون أن الصين تستغل هذه البنى التحتية من أجل تعزيز نفوذها السياسي، ومشروع العطارات هو “نموذج لما كانت وما أصبحت عليه مبادرة الحزام والطريق”، كما يعتبرون إن الصفقة الصينية مع الأردن هي “دراسة حالة” مثيرة للاهتمام، بشأن كيفية انخراط الصين في البلدان ذات الدخل المتوسط، وتستوجب التوقف عندها، لأنها جزء من اندفاع الصين الأوسع نحو عالم عربي، متعطش للاستثمار الأجنبي، ولهذا جاءت الأموال المخصصة لمشروعات البنية التحتية الضخمة، مصحوبة بشروط سياسية قليلة.

ومع تنامي عدم ثقة الدول العربية والخليجية بالولايات المتحدة نتيجة النزاعات في الشرق الأوسط وقرب الإدارة الأميركية الديمقراطية من إيران، تحولت تلك الدول نحو الصين التي تسعى إلى بلوغ الأصول استراتيجية في الشرق الأوسط، حتى في الدول المضطربة اقتصادياً.

اشترت الصين الكثير من النفط العراقي، وقدمت مناقصة لميناء في شمال لبنان، وضخت أموالاً في العاصمة الجديدة للرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر.

الصين تردّ بخلاف هذه السردية، وتقول وزارة الخارجية الصينية إنّ بكين لا تجبر الآخرين على الاقتراض منها “بالقوة”، كما تؤكد أنها لا تعلق أي قيود سياسية على اتفاقيات القروض”، بينما توقعت “شركة العطارات” صدور قرار التحكيم بالقضية في وقت لاحق من 2023، مع العلم أن الأحكام الصادرة عن منظمة الأعمال التجارية العالمية، ملزمة قانوناً وقابلة للتنفيذ.

كما رفضت الصين مزاعم الأردن عن “تضخم الأسعار”، واتهمت المملكة بالتراجع عن الاتفاقية بسبب “المشاعر المعادية للصين”.  وقال أحد مسؤولي الشركة إنّه منذ بدء تشغيل أول وحدتين للطاقة في الخريف الماضي، لم تدفع الحكومة الأردنية سوى نصف مستحقاتها الشهرية.

ضغوط أميركية؟

لكن يبدو أنّ ما تقوله الخارجية الصينية فيه شيء من الصحة، إذ كشف مصدر دبلوماسي أردني، قبل أشهر، أن الأردن يتعرض لضغوط من الإدارة الأميركية.

وظهرت تلك الضغوط من خلال اتفاقية مدّ لبنان بالطاقة الكهربائية الأردنية، وهي العملية التي كانت السلطات الأردنية متحمسة لمساعدة لبنان عبرها. وقد اتُفق على استجرار الغاز المصري – (أو المصري – الإسرائيلي) إلى بيروت، وكذلك استجرار الطاقة من الأردن.

كان الاتفاق يقضي بإجراء أعمال الصيانة على الشبكة الممتدة بين لبنان والأردن عبر سورية. وبالفعل، أجرى الجانب الأردني الصيانة المطلوبة للشبكة في وقت قياسي فاق التوقعات، وأعلنت الحكومة الأردنية استعدادها لجر الطاقة فوراً، لكن الإدارة الأميركية مارست ضغوطاً على الأردن من أجل التريث في تنفيذ المشروع، بحسب ما يكشف الدبلوماسي الأردني. وقد فعلت واشنطن الأمر نفسه مع مصر التي طالبتها بضمانات مكتوبة كي لا تتعرض للعقوبات الأميركية، لكن واشنطن لم تستجب للقاهرة إلى اليوم، باعتبار أن لبنان يقع تحت سطوة المحور الإيراني المتحالف مع الصين ويدعو إلى “التوجّه شرقاً” لملاقاة الانفتاح الصيني على دول الشرق الأوسط.

تلك الضغوط الأميركية دفعت بلبنان إلى توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل في سنة 2022، كان قد جرى التفاوض عليه منذ سنة 2012. وتصف الأوساط اللبنانية هذا الاتفاق بأنّه مجحف أيضاً بحق لبنان وثرواته لمصلحة إسرائيل.

هذه المعطيات ربّما تؤكد أن الأردن تعرض فعلاً لضغوط أميركية مماثلة لمواجهة المشروع الصيني، ولهذا، على ما يبدو، أبرمت الأردن إتفاقية بقيمة 15 مليار دولار لاستيراد كميات هائلة من الغاز الطبيعي بأسعار تنافسية من إسرائيل في سنة 2014، الأمر الذي تسبّب بتضاؤل الحاجة والاهتمام بمشروع العطارات، علماً بأن إتفاقية الغاز مع الحكومة الإسرائيلية وشركة “نوبل إنيرجي”، كانت ستتأثر سلباً في حال استمرار “مشروع العطارات”، وذلك بتراجع كميات الغاز الطبيعي المستوردة بنسب تتراوح ما بين 15 و25%.

ويرى خبراء أردنيون أن اتفاقية العطارات أزعجت الإدارة الأميركية، وكان الرد على الاتفاقية بالضغط على الأردن لتوقيع اتفاقية استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل.

ومن المرجح أن يستمر الأردن والصين في تضخيم الخطاب الثنائي بشأن الصداقة والتجارة الذي عزز العلاقة بينهما لمدة 45 عاماً. ويظل دعم الصين الخطابي لفلسطين حجر الزاوية في العلاقات الدبلوماسية ومن المرجح أن يستمر في المستقبل. ومع ذلك، في الوقت الحاضر، فشلت العلاقة الاستراتيجية التي وضعت أسسها في سنة 2015 في تقديم أي دليل ملموس على العلاقات العميقة التي تتجاوز الخطابة.

وتُعَد المشاريع مثل محطة العطارات للطاقة أمثلة قوية على التحديات التي تواجهها الصين في سعيها إلى توسيع مبادرة الحزام والطريق لتشمل البلدان المنخفضة إلى المتوسطة الدخل مثل الأردن، والتي لا تزال تعاني من عقود من الصراع، وأزمات اللاجئين، والتدهور الاقتصادي.

ومن الممكن أن يؤدي خوف الأردن من الانزلاق إلى المزيد من المديونية للصين، بسبب العطارات، إلى إثارة بعض أشكال ردود الفعل الشعبية العنيفة أو حتى التوترات الثنائية عن غير قصد. وللمضي قدماً، بالنسبة للصين، يتوجب الحفاظ على العلاقات مع الأردن الذي تربطه علاقات عميقة مع الولايات المتحدة التي إن استمرت بالتزامها بتخفيض وجودها العسكري في الشرق الأوسط، فإن ذلك سيخلق فرصاً جديدة لـ الصين، بينما يبحث الأردن عن مصادر دعم أخرى لتعويض أزمته الاقتصادية. لقد أثبتت الصين مراراً وتكراراً رغبتها في اختبار الأجواء دبلوماسياً واستثمار المزيد من رأس المال السياسي والدبلوماسي لتعزيز علاقتها مع الأردن.

علاوة على الشأن الاقتصادي، ثمة معوقات وعراقيل سياسية وأمنية، أبعد من الاستثمارات الاقتصادية تسببت في تراجع العلاقة بين الأردن والصين بشكل مضطرد، نذكرها أدناه وفق النقاط التالية:

أ - الحسابات الإستراتيجية الخاطئة

على الرغم من كل المساعدات والقروض والعلاقة النامية، فشل الزخم الخطابي الذي بُنيت عليه العلاقات الصينية الأردنية منذ سنة 2015 إلى اليوم، في إنتاج أيّ علاقة “استراتيجية ناضجة”، وقد تعرض بحسب المراقبين، إلى العديد من “الحسابات الاستراتيجية الخاطئة”:

1 – عدم قدرة الصين على الوفاء بالتزاماتها التنموية الاستراتيجية (قضية العطارات)، إذ واجه الأردن والصين عقبات كبيرة في تنفيذ العديد من مشاريعهما واستثماراتهما التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، على الرغم من المحاولات المتكررة للمضي قدمًا.

فاستثمار الصين في خط السكك الحديدية الوطنية الأردنية (بقيمة 2,5 مليار دولار) كان هدفه ربط نظام السكك الحديدية الناشئ في الأردن بشبكة السكك الحديدية الأوسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ثم لاحقاً بشبكة الشحن الصينية الأوروبية. هذا المشروع تلاشى مع تحرك المملكة العربية السعودية لتمويل المشروع، ولم يُعرف إن كان سيُنفذ عبر السعوديين أو الصينيين، لكن الأمر الأكيد أنه مرجل.

وحتى في الحالات التي أحرزت فيها المشاريع تقدماً، وتحديداً مشروع العطارات للصخر الزيتي، كان التنفيذ موضوعاً لتدقيق واسع، وضع الحكومة الأردنية في موقف صعب. إذ تحوّل هذا المشروع إلى “مصدر ذعر” بين الطرفين، يغذي الانتقادات الموجهة ضد مشاريع مبادرة “الحزام والطريق” باعتبارها “فخ ديون”.

 

2 – عدم التوازن في المساعدات (اختلال التوازن في توفير المساعدات)، إذ يختلف نهج الصين في تقديم المساعدات بشكل كبير من حيث الجوهر عن نهج الدول الغربية وتحديداً الولايات المتحدة التي تُعد أكبر مانح مالي للأردن.

وبدل تقديم الأموال، تقوم الصين بتمويل مساعدات التنمية من خلال المنح أو التبرعات، أو من خلال القروض بدون فوائد، أو تلك الميسرة فتستخدم لهذا الغرض مقاولين صينيين يقومون بالمشاريع ويشرفون عليها.

أما لجوء الدول العربية إلى الصين، فسببه طبيعة المساعدات التي تنطوي على شروط أقل من تلك الغربية، مثل مطالبة الدول المستفيدة باحترام حقوق الإنسان أو ضرورة الإصلاحات السياسية.

من هذا المنطلق، كان يُفترض بالنهج الصيني الجديد في المنطقة أن ينافس المساعدات المالية الأميركية في حالة الأردن، والتي تشمل مبالغ كبيرة من المساعدات الاقتصادية، ودعم الميزانية لمؤسسات الدولة، ومبالغ كبيرة من المساعدات العسكرية.

لكن ذلك لم يحصل؛ فالمساعدات الصينية الخارجية لسنة 2019 تراوحت بين 5 و6 مليار دولار، في حين أن المساعدات الأميركية الخارجية للعام نفسه (لا تشمل المساعدات العسكرية والأمنية) كانت قرابة 31 مليار دولار، وقد تم تقديم أكثر من مليار دولار منها إلى الأردن وحده، ما يعني أن المساعدات الأميركية بقيت أكثر إغراءً من تلك الصينية.

3 – التأخير في تطوير العلاقات العسكرية والدفاعية (التنافس على العلاقات الدفاعية). فالعلاقة الأردنية – الصينة موجودة في الوقت نفسه، في ظل شراكة دفاعية أخرى بين الأردن والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو). هذه العلاقات، سواء كانت معلنة أم لا، كانت تحدّد دوماً معالم التعاون مع الصين.

ويحرص الأردن على عدم تقويض علاقته بواشنطن، وخصوصاً العلاقة الدفاعية، ولا تتخطى المملكة الخطوط الحمر الأميركية، مثل: التعاون العسكري المكثف مع الجيش الصيني، وانتشار الدفاعات الصينية في الأردن؛ أو أي قرار يمكن أن يعرّض للخطر إمكانية التشغيل البيني للقوات الأردنية والأميركية.

تلك الخطوط تشمل أيضاً الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية الاستراتيجية التي يمكن أن تشكل تهديدات للمصالح العسكرية الاستراتيجية الأميركية، مثل شراء الأردن لأنواع معينة من التكنولوجيا العسكرية الصينية، ولهذا بقيت العلاقات العسكرية بين الصين والأردن محدودة جداً.

ب - الأولويات الاستراتيجية

للأردن أولويات محددة، إذ يهتم في الحفاظ على استقرارها الداخلي والأمن القومي، باعتبارهما ركيزتان أساسيتان لأي مساعدة اقتصادية أو أمنية الأجنبية. ومن خلالهما يحدد الأردن توقعاته وتفضيلاته للشركاء الدوليين.

فالصين عرضت دعم الأردن اقتصادياً واستثمارياً بحماس، لكنّها تراجعت عن تقديم الدعم لأولويات الأردن الأمنية – الاستراتيجية، بما في ذلك القضايا الرئيسية مثل عملية السلام الإسرائيلية العربية، وأمن حدود المملكة الشمالية مع سورية.

ج - مكافحة الإرهاب وصعود "داعش"

وضع ظهور تنظيم “داعش” في عام 2014 وسلسلة الهجمات ضد القوات الأردنية داخل حدودها وخارجها، عمليات مكافحة الإرهاب في صلب عمل الأجهزة الأمنية الأردنية والتعاون مع الشركاء الدوليين. وفي هذا السياق وقع الأردن والصين اتفاقية التعاون التاريخي بينهما في 2015 بعد 9 أشهر من قتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة على يد تنظيم “داعش”، وهو الحادث الذي كان حافزاً رئيسياً لقرار الأردن بتعزيز مشاركته في الجهود الدولية لمواجهة التنظيم وهزيمته.

وبموجب الاتفاقية، قرر الأردن والصين على “تعزيز التعاون بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والقضائية وإنفاذ القانون في البلدين، من أجل مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والجريمة العابرة للحدود الوطنية”، وهو ما يعني، بالنسبة للأردن، التعاون في هزيمة الإرهاب.

وعلى الرغم من هذه الالتزامات، لم يتحقق التعاون الصيني مع الأردن في مجال مكافحة الإرهاب، بل سعت بكين فقط إلى تحويل الأردن إلى مركز اقتصادي قيد انتظار “إعادة إعمار سورية”، وبذلك أيضاً فشلت في إدراك مصالح الأردن، وتحديداً الخوف من دعم النظام السوري واستعادة سيادتها الوطنية، لأنّ ذلك من شأنه أن يعظّم الخلاف مع الأردن بسبب سياسات النظام السوري.

فبالنسبة للأردن، كان النظام السوري وما زال، مصدراً رئيسيا لعدم الاستقرار منذ سنة 2011، حين بدأت الحرب الأهلية التي شهدت حملات قمع شنها النظام ضد المتظاهرين ثم قصفه مدن وقرى خرجت عن سيطرته بعنف، الأمر الذي تسبب بلجوء مئات الآلاف من السوريين إلى الأردن، وبقي معظمهم في المملكة ولم يعودوا إلى بلديهم.

وبعد هزيمة “داعش” في جنوب سورية في سنة 2018، اكتسبت الميليشيات المرتبطة بإيران، موطئ قدم على حدود الأردن، وفي السنوات التالية، أصبحت هذه المنطقة نشطة في صناعة تجارة المخدرات العابرة للحدود، وصارت تستخدم الأردن كطريق لتهريب المخدرات إلى دول الخليج العربي.

وقبل ذلك، عندما استولى تنظيم داعش على مساحات كبيرة من العراق وسورية في سنة 2014، بما في ذلك مواقع استراتيجية على الحدود الأردنية، اختارت الصين عدم التورط في جهود مكافحة الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة، ودعت بدلاً من ذلك المجتمع الدولي إلى تعزيز قدرات الجيش السوري، بخلاف العديد من الجهات العربية والغربية التي طعنت في شرعية النظام السوري.

ولم يتجسد التزام الصين الخطابي بمحاربة الإرهاب في تقديم الدعم ملموس للأردن. وبدلاً من ذلك، اعتمدت عمّان على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لمعالجة التحديات الأمنية الرئيسية.

وكذلك، بينما عمل الأردن من خلال الآليات الدولية والإقليمية لمعالجة مخاوفه في “الخطر السوري”، أثبت نظام الأسد أنه ليس أهلاً للثقة بل متورط بنشاطات تهريب المخدرات إلى الأردن.

ولم تبد الصين أي استعداد لأن تصبح الضامن لأمن الأردن، وتتحمل المسؤولية التي بقيت في عهدة الولايات المتحدة منذ عقود، بل عززت دعمها لعمليات مكافحة الإرهاب التي تنفذها الحكومة السورية، وليس العمليات الأردنية، وهذا شكل خللاً في العلاقات الأمنية بين الصين والأردن، وخصوصاً في سعي الصين إلى الحفاظ على نظام الأسد. كل هذه الأسباب دفعت الأردن إلى اعتبار الصين شريكاً لا يمكن الاعتماد عليه في المجال الأمني.

لكن تلك الأسباب، تراجع العلاقات بين البلدين، ودفعت بالأردن إلى إعادة حساباته، وخصوصاً بعد تحولات العالم وانقسامه نتيجة  الحرب الروسية – الأوكرانية، ناهيك عن الاصطفافات الدولية الجديدة بعد توسيع “بريكس” الذي لم يبدِ الأردن حماسة ظاهرة للإنضمام إليه على غرار ما فعلت السعودية والإمارات ومصر.