السلطان أردوغان المتعثر يستند إلى بغداد في خريف الحكم
عندما حط الرئيس التركي رجب طيب اردوغان رحاله في بغداد يوم الإثنين الماضي بعد غياب 13 عاماً، لم يعد ذلك “السلطان” الذي أثار إعجاب الكثيرين في المنطقة العربية ممن استلهموا واستنسخ تجربة حزب “العدالة والتنمية” التركي، وخصوصاً في العديد من بلدان الربيع العربي التي اصبحت حطاماً بعد ذاك.
جاء اردوغان إلى بغداد محملا باعباء اقتصادية وسياسية؛ فحلم السلطنة العثمانية الذي يعشعش في عقول البعض من مريديه قد تداعى، بينما يحاول “السلطان” المتعثر داخلياً استعادة توازنه وهو يعيش خريف الحكم بعد أن أفل نجمه وخفت بريقه في ظل ما تشهده بلاده من أزمات.
كانت بغداد قبل 13 عاماً مختلفة عمّا هي اليوم بعد أن تجاوزت آثار الحروب والانقسامات واستعادت توازنها على اكثر من مسار.
ووسط كل هذا الصخب الإقليمي لا يزال العراق ساحة جدلية للصراع التاربخي الصفوي – العثماني الذي يشتد تارة ويخبو تارة أخرى على وقع التفاهمات والتسويات الكبرى في منطقة كانت دائماً ضحية صراع القوى الكبرى.
المياه ونفط كردستان
واكتسبت زيارة اردوغان ولقاءاته مع القيادات العراقية بمختلف توجهاتها، سواء في بغداد أو أربيل، أهمية خاصة في ظل الحاجة إلى بحث العديد من الملفات المشتركة التي تتطلب إيجاد حلول، وفي مقدمتها ملفات المياه وتصدير النفط من إقليم كردستان وطريق التنمية والتعاون الاقتصادي والمصرفي وملف الأمن المشترك وهي ملفات يجد فيها أردوغان ورقة رابحة لتحقيق فوائد كبيرة لبلاده، فهو أكثر شخص يجيد التعاطي بواقعية والتماهي مع التحولات التي تطرأ وتغير مواقفه السياسية تجاه الاحداث في المنطقة.
ويدرك الرئيس التركي حساسية ملف المياه بالنسبة لبلاد مابين النهرين التي تعاني مناطق كبيرة منها العطش، فـ “الابتزاز المائي”، إن صحت التسمية، ورقة رابحة بيد أردوغان الذي قال قبيل زيارته إلى العراق أن “قضية المياه ستكون من أهم بنود جدول الأعمال وندرس طلبات تقدم بها الجانب العراقي بخصوص المياه، وسنسعى لحل هذه المشكلة معهم… هم يريدون منّا حلها وستكون خطواتنا بهذا الاتجاه.”
وعانى العراق من نقص حاد في المياه بسبب قلة هطول الأمطار وانخفاض إمدادات المياه من نهري دجلة والفرات وهو بهذا الواقع يريد أن يعالج قضية التصحر مقابل منح امتيازات أمنية واقتصادية لتركيا.
وقد العراق وتركيا مذكرات تفاهم تتضمن عدة مجالات، وعلى اتفاقية لمدة 10 سنوات بشأن إدارة الموارد المائية تسعى بغداد من خلالها للحصول على حصة أكبر من المياه من نهري دجلة والفرات.
حزب العمال الكردستاني
وتشغل قضايا الأمن، وخصوصاً ما يتعلق بتواجد حزب العمال الكردستاني التركي المعارض لانقرة، تفكير الرئيس التركي الذي قال “سنجعل بلادنا وأمتنا أكثر أماناً، في الداخل والخارج… في الأمور المتعلقة بأمن تركيا، سنسعى للحصول على حقوقنا دون تراجع.”
ويعد حزب العمال الكردستاني التحدي الأبرز الذي يقف في طريق الاندفاعة الإستراتيجية التركية، وهو تحد حظى باهتمام بالغ قبيل زيارة أردوغان في ظل الحديث عن إمكانية إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي العراقية وبعمق 40 كيلومتراً من أجل احتواء تحركات الحزب المناهض لانقرة وإبعاد تهديداته عن الممر البري الذي يمر منه مشروع “طريق التنمية” الذي يمثل ركناً اسياسياً جديداً في السياسة التركية، وخصوصاً أن العمليات العسكرية لم تنجح في كبح نشاط الحزب الكردي الحالم باقامة دولة كردية في تركيا؛ فما زال الحزب يحتفظ ببنيته التحتية العسكرية ويمتلك هامش حركة مؤثرة، ويرتبط بتحالفات إقليمية عابرة للحدود، وهي مسارات زادت من العقدة التركية في هذا السياق.
وعلى الرغم من الانتشار العسكري التركي في شمال العراق، وتحديداً في المناطق التي تطمح تركيا إلى شمولها بمشروع المنطقة العازلة، فإن مثل هذا الانتشار قد لا يعطيها فرصة النجاح في تحقيق هذا المشروع، نظراً للجغرافيا المعقدة في شمال العراق، فضلاً عن ذلك فإن حزب العمال الكردستاني يمتلك خبرة التحرك في شمال العراق، ولديه علاقات واسعة هناك، وتحديداً العشائر الكردية المتحالفة معه، الأمر الذي يجعل هذا المشروع يواجه صعوبات كبيرة في النجاح.
العقبة الإيرانية
ولا يغيب عن بال صانع القرار التركي طبيعة الدور الإيراني والوضع السياسي المعقد الذي يعيشه إقليم كردستان، حيث مكنت الشراكة التي تربط إيران بحزب العمال من الحصول على موقع متقدم لتهديد الأمن القومي التركي إلى جانب مزاحمة تركيا في مناطق نفوذها وبالتالي وصولها السلس إلى البحر الأبيض المتوسط عبر ربط الأراضي العراقية بالأراضي السورية ومثلت سنجار عقدة مهمة في هذا السياق.
ومن غير المستبعد أن تمارس إيران جهوداً لتحجيم نتائج زيارة أردوغان، وتحديداً في موضوع الاتفاق الأمني الذي يطمح اليه مع العراق، أو حتى في إفراغ هذا الاتفاق من مضمونه إذا شكل خطراً على نفوذها في شمال العراق. فبغداد لم تضع الحزب الكردي المعارض في خانة التنظيمات الإرهابية وإنما في خانة التنظيمات المحظورة، وهذا فرق واضح في التعاطي مع الملف الحساس والمؤرق لتركيا.
طريق التنمية ومذكرات تفاهم
ويمثل مشروع “طريق التنمية” احد اهم الحلول العملية التي يطمح الرئيس اردوغان إلى توظيفها في تطبيع العلاقات مع العراق، وذلك عبر تحويل مناطق التشابك الأمني إلى مناطق للتشابك الاقتصادي؛ فالمشروع قد يساهم في إعادة تشكيل الدور التركي في العراق عبر السماح لتركيا بتحقيق منافسة إقليمية في العراق من خلال الوصول الآمن إلى الأسواق العراقية في مدن وسط وجنوب العراق.
وشهدت بغداد توقيع 26 مذكرة تفاهم ثنائي بين بغداد وأنقرة في مختلف المجالات الى جانب حضور رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان توقيع مذكرة تفاهم رباعية بين العراق وتركيا وقطر والامارات للتعاون في”مشروع طريق التنمية”.
وقع المذكرة عن الجانب العراقي وزير النقل رزاق محيبس، وعن الجانب التركي وزير النقل والبنية التحتية عبد القادر أورال أوغلو، ومن قطر وزير المواصلات جاسم بن سيف السليطي، ومن الإمارات وزير الطاقة والبنية التحتية سهيل محمد المزروعي.
وتتضمن المذكرة قيام الدول الموقعة بوضع الأطر اللازمة لتنفيذ المشروع الذي سيسهم في تحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز علاقات التعاون الإقليمي والدولي من خلال تحقيق التكامل الاقتصادي والسعي نحو اقتصاد مستدام بين الشرق والغرب، كما سيعمل على زيادة التجارة الدولية، وتسهيل التنقل والتجارة وتوفير طريق نقل تنافسي جديد، وتعزيز الرخاء الاقتصادي الإقليمي.
ويعول العراق أيضاً على طريق التنمية، أو ما يُعرف محليا “بالقناة الجافة”، لربط الأسواق الآسيوية بالأوروبية عبر ميناء الفاو الكبير في محافظة البصرة (جنوباً)، ثم القناة الجافة التي تبدأ من الميناء جنوبا وتنتهي بالحدود العراقية التركية شمالاً.
وجاءت لقاءات أردوغان بالزعامات السنية كمحاولة منه لإظهار نفوذ بلاده على العرب السنة وكرسالة توازن تجاه النفوذ الإيراني، بينما تجارب أردوغان السابقة تدلل على أنه أكثر من يتخلى عن حلفائه في لعبة المصالح.