المرسوم 54 و"دولة قيس سعيّد" في تونس

لم تكن لحظة إصدار قرارات 25 تموز/ يوليو 2021 حدثاً طارئاً في تونس، لمواجهة حركة النهضة وتيار الإسلام السياسي فقط، بل كانت هناك جملة من الأفكار في ذهنية الرئيس قيس سعيّد، يسعى نحو تثبيتها وإرساء كافة دعائمها، الأمر الذي جعل لحظة تموز/ يوليو، عتبة العبور إلى “دولة قيس سعيّد”.

مضى سعيّد، وهو أستاذ القانون الدستوري، نحو ذلك من خلال جملة من القرارات التي هدفت إلى تشكيل منظومة الحكم الجديد في تونس، عبر انتخاب وتشكيل مجلس النواب، وصياغة دستور جديد، فضلاً عن إصداره عدة مراسيم رئاسية، شغلت الرأي العام والنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني، ولاسيما ما ارتبط بالمرسوم 54 الذي صدر في 13 أيلول/ سبتمبر 2022.

المرسوم الأزمة وحرية التعبير

يهدف المرسوم 54 إلى مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، غير أنه منذ صدوره وحتى اللحظة، تعالت الدعوات المطالبة بإلغائه، أو تعديل بعض فصوله، التي ارتأت فيها بعض الأحزاب المعارضة والمنظمات الحقوقية والنقابات المهنية، ولاسيما المحامين والصحفيين، خطراً على حرية التعبير وممارسة الحقوق السياسية للمواطنين، والتي مثلت إحدى أهم تجليات الثورة التونسية.

لا ريب في أن إقرار المرسوم 54، صادف ممراً استثنائياً، كانت تسعى البلاد إلى الخروج الآمن منه، وخصوصاً مع استبداد حركة النهضة خلال سنوات حكمها، وحالة الاستقطاب السياسي الحاد والعنيف داخل البرلمان في نسخة رئيس البرلمان آنذاك راشد الغنوشي. بيد أن تجربة تطبيقه خلال أعوام تنفيذه كشفت عن عديد السلبيات

وتراكم الملاحقات القضائية، وخصوصاً استعمال المرسوم 54 ضد عدد من الشخصيات بسبب نشر آراء ومعلومات تخص الشأن العام، ومن بينهم: الكاتبة الصحفية منية العرفاوي التي تمت مقاضاتها بتهمة توجيه النقد ضدّ وزير الشؤون الدينية إبراهيم الشايبي؛ المحامي والسياسي غازي الشواشي بسبب نقده لوزيرة العدل؛ المحامي والسياسي العياشي الهمامي، للسبب ذاته؛ النائبة عن دائرة صفاقس فاطمة المسدي، التي تنتظر قرار رفع الحصانة، ومباشرة التحقيق على ذمة المرسوم.

لقد أثارت هذه التتبعات القضائية تساؤلات مشروعة وواقعية بشأن الغاية الحقيقية من وراء وضع مرسوم رئاسي متعلق بالجرائم السيبرانية، وخصوصاً أن الجرائم المنصوص عليها في صلب الفصل 24 منه، هي مُجَرّمة أصلاً وفقاً للمرسوم 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، إذ يعاقب الفصل 24 بالسجن مدة 5 أعوام، وبغرامة قدرها 50 ألف دينار تونسي، على كل من ينشر محتويات بهدف الاعتداء على حقوق الغير، أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني، أو بث الرعب بين السكان، أو الحث على خطاب الكراهية. ويضاعف العقاب إذا كان الشخص المستهدف موظفاً عمومياً.

تحركات نيابية

تحركت بعض الكتل النيابية داخل مجلس النواب، بغية إجراء بعض التعديلات على المرسوم 54، ويشير الكاتب الصحفي نزار مقني، في تصريحات خصّ بها موقع “التقرير العربي”، أن ذلك التحرك يأتي ترجمة لتحركات الشارع الرافض لهذا المرسوم وخصوصاً الفصل 24 منه.

وجاء التحرك عبر مرحلتين: الأولى من خلال إعداد مقترح لتنقيح المرسوم بقانون؛ والثاني بدأ عبر الضغط النيابي على مكتب رئاسة البرلمان لتمرير هذا المقترح للنقاش في لجنة الحقوق والحريات، ثم إحالته إلى الجلسة العامة للنظر فيه.

يرى الكاتب التونسي نزار مقني، أن غاية المرسوم قد تكون وقائية، لكن الكلمات المستعملة فيه فضفاضة، وتحيل على عديد التفسيرات والتأويلات القانونية، والتي على أساسها تم استخدامه سياسياً كعصا غليظة ضد حرية التعبير. وهو رأي تشارك في أيضاً الدول الأوربية والولايات المتحدة الأميركية، باعتباره مرسوماً مخالفاً لبنية التحول الديمقراطي الواجب في تونس، فضلاً عن كونه نكوصاً لحرية التعبير التي تمثل بنية الديمقراطية. بحسب المصدر ذاته.

احتقان متزايد

ثمّة متغير لافت تصاعدت أحداثه خلال الشهور الأخيرة، وسمحت لظلاله أن تتبدى واقعاً ماثلاً للناظرين مع تداخل النقابات المهنية، لا سيما الصحفيين والمحامين وعديد الحقوقيين ونشطاء المجتمع، في مواجهة صريحة مع الدولة والحكومة ممثلة في وزارة الداخلية، وخصوصاً مع قرار اقتحام مقر المحامين في العاصمة التونسية خلال الشهر الفائت، وتداعيات ذلك من قرارات إيقاف بعض منتسبيها، الأمر الذي ارتبط أيضاً مع قرار رئيس الدولة بتعديل محدود في التشكيل الحكومي، وإعفاء وزير الداخلية كمال الفقي، في إشارة لمسؤوليته عن واقعة اقتحام دار المحامي.

سامي بنغازي عضو هيئة الدفاع عن المحامية، والإعلامية سنية الدهماني، أكد في 11 حزيران/ يونيو، إصدار بطاقة ايداع جديدة بالسجن في حق موكلته. وكتب بنغازي تدوينة على صفحته على موقع “فايسبوك”: “بطاقة ايداع جديدة في حق الأستاذة سنية الدهماني، على معنى المرسوم 54.” وكانت الدهماني قد مثلت أمام قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية في تونس في ملفين منفصلين، على ذمة المرسوم 54 لسنة 2022 الخاص بمكافحة جرائم أنظمة المعلومات والاتصال. فيما أشارت نقابة الصحفيين في بيان صادر عنها، إلى أنه يتم استنطاق الدهماني في ملفين جديدين، على خلفية آرائها بشأن معالجة الدولة ملف الهجرة غير النظامية والأداء الحكومي، إضافة الى ثلاثة ملفات تحال فيها الدهماني على أساس المرسوم سيء الذكر، نفسه.

جدير بالذكر أنّه تم ايقاف الدهماني مساء 11 آيار/ مايو الفائت بمقر دار المحامي، تنفيذاً لبطاقة جلب صادرة في شأنها، وأصدر قاضي التحقيق 13 أيار/ مايو في شأنها بطاقة إيداع بالسجن.

في سياق متصل، قالت عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين التونسيين عائدة الهيشري، لوسائل إعلام محلية، إنه لم يعد هناك مناخ يسمح بالعمل الصحفي في تونس في ظل تكرار الايقافات في حق الصحفيين على خلفية مواقفهم، معتبرة أن كل محاكمة ضد صحفي على ذمة المرسوم 54، تعد محاكمة خارجة عن الأطر التشريعية، وغايتها الترهيب والتخويف وفق تعبيرها. وأضافت أن النقابة تعمل حالياً نحو دعم تنقيح المرسوم 54 الذي تقدمت به عدة تشكيلات نيابية في مجلس النواب.

إلى ذلك، أشارت الهشيري، إلى ضرورة مناقشة كافة الإجراءات التي ينبغي الالتفات إليها، في إطار التحركات الاحتجاجية السلمية المتعارف عليها، في حال تواصلت سياسة ترهيب الصحفيين.

وثمّة من يرى أن استمرار العمل بهذا المرسوم، وفقاً لنسخة صدوره، والسياق الخاص به من كافة الأجهزة الشرطية والقضائية، في فلسفة إقراره ذاته، هو محض خطأ غير مبرر وجب العمل على تعديله، وهو الأمر الذي يتفق معه كافة الحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني، وفقا لرئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان مصطفى عبد الكبير الذي وصف المرسوم 54، في تصريحات خصّ بها “التقرير العربي”، بأنّه جائر ومقيد للحريات، واعتبره يعكس وجه الديكتاتورية، الأمر الذي يجعل مواجهة هذا المرسوم أوسع من النقابات المهنية، ويمتد لكافة المؤسسات الحقوقية. وهنا يلفت مصطفى عبد الكبير، أنّ المرصد التونسي لحقوق الانسان أعلن غير مرة رفضه لهذا المرسوم، وضرورة العفو عن كافة الموقوفين على ذمة ذلك المرسوم، كون المرصد يرى أن تلك المحاكمات تجرى وفقا لتصور سياسي محض.

3 سيناريوهات محتملة

يمكن التفكير بثلاثة سيناريوهات بشأن مستقبل هذا المرسوم، باعتباره فتيل الاشتعال بين النقابات والرئيس الذي يستعد لانتخابات الرئاسة خلال نهاية هذا العام، بحسب مواد الدستور:

السيناريو الأول، وهو المرجح، يتمثل في دعم الرئيس سعيّد تحرك النواب التونسيين نحو إجراء عدة تعديلات على المرسوم، وخصوصاً ما يتصل بالفصل 24 الذي يعتبر محور حديث النقابات المهنية والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني.

السيناريو الثاني، هو استمرار توظيف بعض القوى السياسية داخل نقابة المحامين، وخصوصاً أتباع حركة النهضة، لتثوير الشارع التونسي ضدّ الرئيس، الأمر الذي قد يدفع الرئيس لتأجيل تحرك رئيس البرلمان إبراهيم بو دربالة، نحو التعديلات التي تطرحها الكتل السياسية في البرلمان، لما بعد الاستحقاق الرئاسي.

السيناريو الثالث، يقود إلى احتمال ارتفاع وتيرة التصعيد من النقابات، وخصوصاً المحامين، وإضافة مسالة ضرورة ترسيم المحكمة الدستورية، والغاء جميع المراسيم الرئاسية خلال الفترة الاستثنائية التي عرفتها تونس منذ 2021.