مستقبل القوات الأميركية في العراق بعد الهجمات الأخيرة

مثّل انطلاق الجولة الأولى من الحوار الثنائي بين العراق والولايات لإنهاء مهام التحالف الدولي في العراق باشراف رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، خطوة أولى لامتصاص شحنات الغضب المتولدة لدى الفصائل المسلحة والمدفوعة من إيران على وقع الاستهداف المنظم للمصالح الأميركية بعد عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وما خلفته من آثار كارثية وخسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات.

ويبدو الحديث عن انسحاب القوات الأجنبية أقرب ما يكون إلى تكتيك أميركي يعتمد على التلاعب بالعبارات والصياغات اللغوية وقد يؤدي بعد مفاوضات طويلة إلى إعادة تموضع القوات في بلاد تعاني من أزمات على أكثر من صعيد، فيما يخيّم شبح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتغول المليشيات، على الأجواء الأمنية بما يجعل بقاء الأميركيين أهون الشرين.

مستقبل العلاقة بين العراق والتحالف

ومع أن وزارة الخارجية العراقية أكدت أن بغداد وواشنطن اتفقتا على تشكيل لجنة لبدء محادثات بشأن مستقبل التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق بهدف وضع جدول زمني للانسحاب التدريجي للقوات وإنهاء التحالف، فإن بيان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، بشأن بدء اجتماعات مجموعة العمل التابعة للجنة العسكرية العليا الأميركية العراقية، لم يتطرق إلى عملية انسحاب، الأمر الذي يشي باستمرار التعاون الأمني والعسكري عبر شراكة أمنية دائمة بين الولايات المتحدة والعراق توفرها الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة منذ 2008، والتي تمنح واشنطن غطاء شرعياً لتعزيز نفوذها العسكري في العراق، إلى جانب التعاون في مجالات علمية وتجارية وثقافية واقتصادية وغيرها.

وقد تعتمد نتائج المحادثات بين الولايات المتحدة والعراق بشأن مستقبل التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن في العراق على تقييم قدرات الجيش العراقي ومستوى التهديدات التي يشكلها تنظيم “داعش” الذي لايزال نشطاً في العراق وتمارس خلاياه أعمالاً هجومية من حين إلى آخر على مواقع عسكرية في أطراف المدن التي يعمل فيها.

وهناك لجنتان يقع على عاتقهما بحث مستقبل العلاقات العراقية الأميركية، والعراقية مع قوات التحالف: الأولى لجنة التنسيق المشتركة العليا والتي تتألف من السفيرة الاميركية وفريق عملها في بغداد وفريق من العراقيين والأجانب، والثانية اللجنة العسكرية العليا التي ستتولى التخطيط لتقليل عدد القوات الأميركية بشكل تدريجي في العراق حتى انهاء وجوده، على أن يبقى عدد من المستشاريين وليس قوات قتالية.

وينصب جزء مهم من المناقشات بين واشنطن وبغداد على إمكانية وتوقيت إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، فالولايات المتحدة تفضل جدولاً زمنياً يعتمد على الظروف في العراق بما في ذلك ضمان هزيمة تنظيم داعش واستقرار الحكومة وقوات الأمن العراقية.

تأثير المليشيات

ومع أن الفصائل المدعومة من إيران ستحاول تصوير أي تحوّل في العلاقة بين بغداد وواشنطن وأطراف التحالف الدولي من بعدها العسكري، إلى جوانب أخرى، على أنه انتصار حققته بفضل هجماتها المسلحة على القواعد الأميركية، إلا أن حقيقة تلك القواعد أن موقعها لا أهمية أمنية تذكر لواشنطن مقارنة بقواعدها المنتشرة في الخليج العربي وتركيا وقبرص التي توفر لها القيام بأي عمل عسكري تريده؛ فتلك القواعد الاستراتيجية هي التي تتضمن عناصر الدفاع والقتال المتكامل، أي على أسراب الطائرات الاستراتيجية ومرابض الطائرات الهجومية ومراكز القيادة والتوجيه وادارة العمليات، بينما القواعد في العراق هي قواعد دفاعية تستعمل للدعم والاسناد اللوجستيين.

وعلى هذا الأساس فإن المليشيات المدعومة من إيران، والتي تُطلق على نفسها اسم “المقاومة الإسلامية في العراق”، والتي نفذت الهجمات على قواعد: عين الأسد في الأنبار، وحرير في أربيل، ومطار أربيل، ومنشأت عسكرية في كردستان العراق، سوف تحاول البحث عن مكاسب سياسية واقتصادية من جهة، وتأمين المصالح المشتركة لها مع طهران، لكن وبجميع الأحوال، سوف تواصل عملها العسكري بغض النظر عن الحوارات التي جرت أو ستجري بشأن مستقبل الوجود العسكري الأميركي في العراق.

كما سيمنح الحديث عن انسحاب القوات الأميركية من العراق فرصة تغول إضافي للفصائل المسلحة لتعزيز وجودها وشرعيتها وسلاحها، وخلق أجواء شبيهة بما هو واقع في لبنان، من وجود دولة داخل الدولة، تحتكر الحق باستخدام السلاح وقتما تشاء وكيفما تشاء من دون أن يكون هناك تأثير لأي جهة رسمية.

وستعمل المنظومة الإعلامية والدعائية للفصائل المسلحة على توظيف هذا التحول في العلاقة بين بغداد وواشنطن، حتى وأن كان في مراحله الأولى، على أنه إنجاز عسكري يحسب لها حققته الصواريخ والمسيرات التي تستهدف القواعد العسكرية العراقية التي يتواجد فيها الجيش الأميركي.

ولا تبدي الولايات المتحدة رغبتها في التصعيد مع الجهات العراقية المسلحة وستلجأ إلى تكتيكات متنوعة تقوم من خلالها بفتح مسارات تفاوضية بهدف إرهاق خصومها عبر حوارات قائمة على التسويف والمماطلة وإضاعة الوقت لحين انتهاء فترة الانتخابات الرئاسية المقبلة وعدم منح إيران ومحورها أي مكاسب جدية.

خطة أميركية للانسحاب

ومع أن الولايات المتحدة لم تعلن صراحة نيتها الانسحاب من العراق، لكنها تملك في جعبتها،  بحسب مصادر مطلعة، خطة معدّة لخفض القوات بشكل تدريجي ومن ثم الانسحاب والإبقاء على مجموعة من المستشاريين فقط.

وتشهد الكواليس السياسية في بغداد حراكاً على أكثر من مسار لأنهاء الخلاف الأميركي مع الفصائل التي تقودها أطراف سياسية عراقية تريد نزع فتيل التوتر ومنع تصاعد المواجهة عبر طرح مبادرة مازالت مدار بحث أطلقها أخيراً رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، وتتضمن بنوداً منها: تجريم الهجمات على القواعد الأجنبية، وتنفيذ اتفاقية الإطار الاستراتيجي مقابل اللقاء المباشر بين قادة الفصائل والجانب الأميركي، لبحث نقاط الخلاف، وخلال المباحثات يتم وقف جميع الاعمال العسكرية من قبل الطرفيين. ومع أن الحوار المباشر قد يكون مؤجلاً، لكن من غير المستبعد أن يتم عبر وسطاء موثوق بهم من واشنطن والفصائل الشيعية، حتى يحين وقت الحوار المباشر.

انعكاسات الانسحاب الأميركي

يُمكن تسجيل الانعكاسات التالية للانسحاب الأميركي المتوقع بعد مفاوضات طويلة:

1 – احتمال اندلاع مواجهة عراقية – عراقية بين بعض الأحزاب والفصائل تنتهي بانتصار أحد الطرفين.

2 – لم يصدر أي موقف رسمي عراقي يعلن تأييد انسحاب القوات الأميركية، خشية من ردود أفعال قوية من واشنطن.

3 – لا ترغب الفصائل المسلحة بخروج الأميركيين فعلياً في هذه المرحلة، فالهدف الضغط على الولايات المتحدة للتفاوض مع إيران.

4 – قد يؤدي الانسحاب الأميركي إلى فض الشراكة في القطاعين الأمني والطاقة، بل يمكن أن يصل الأمر إلى حد فرض عقوبات على القطاعين.

وعلى هذا الأساس فإن الوقت مازال مبكراً جداً لحسم مسألة مستقبل الوجود الأميركي في العراق، لكن من المؤكد أن واشنطن لن تمنح ماتبقى من نفوذ لها في العراق على طبق من ذهب لإيران، وخصوصاً في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والأزمات التي تشهدها.