الأزمة الاقتصادية في مصر: سيناريوهات التعافي والانهيار

تواجه القاهرة أزمة اقتصادية حادة، اضطرتها إلى الانخراط بشكل شبه كامل في الإجراءات التي طالب بها صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على حزمة المساعدات الأخيرة. وبحسب الصندوق، فإن برنامج التعافي يحتوي على عدد من الإجراءات لتعزيز الشفافية المالية العامة، والتي يقول الصندوق إنها ضرورية لتقديم صورة دقيقة عن الأوضاع المالية عند اتخاذ القرارات الاقتصادية، بما في ذلك تكاليف تغيير السياسات وفوائدها، والمخاطر المحتملة على المالية العامة.

وقد أصر الصندوق، في مفاوضاته مع الحكومة المصرية، على تزويد الهيئات التشريعية والأسواق والجمهور، بالمعلومات التي يحتاجون إليها لمراقبة عمل الحكومة، لمزيد من الشفافية المالية التي تعزز مصداقية الخطط الاقتصادية للبلد، وتزيد من ثقة السوق وتصوراته للملاءة المالية.

إجراءات صارمة

بعد جولات من المفاوضات، أعلن الصندوق أن الحكومة المصرية أكدت التزامها بعدد كبير من الإجراءات المطلوبة، ومن ضمنها:

ـــ أن تُقدم جميع الشركات المملوكة للدولة، حسابات مالية نصف سنوية إلى وزارة المالية التي يجب أن تضمن الوصول المفتوح والحر إلى هذه البيانات، إلى جانب المعلومات المتعلقة بالإعانات المقدمة إلى الشركات المملوكة للدولة.

ـــ إصدار الجهاز المركزي للمحاسبات تقارير تدقيق خاصّة بالحسابات المالية، وكذلك نشر جميع عقود الشراء التي تتجاوز 20 مليون جنيه مصري، على موقع بوابة المشتريات، مع إصدار تقرير سنوي شامل بشأن الإعفاءات الضريبية والحوافز، على أن تنشر وزارة المالية تقارير عن متأخرات السداد ونتائج الميزانية الشهرية في غضون 60 يوماً.

هذه الإجراءات التي يرى البعض فيها نوعاً من التدخل الخارجي، هي في حقيقة الأمر إجراءات تأخر الإعلان عنها، في ظل الانكماش الاقتصادي الحاد وتراجع فرص الاستثمار، بدءاً من تداعيات جائحة كوفيد 19، وانتهاء بالكارثة الاقتصادية التي تسببت فيها الحرب الروسية الأوكرانية.

خروج الأموال الساخنة وانهيار قيمة الجنيه

في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية التي أوقفت إمدادات الغلال إلى مصر، وما أعقبها من توقف للمساعدات الأوروبية، شهدت السوق المصرية في سنة 2022، أكبر عملية نزوح لرأس المال الأجنبي، وذلك بخروج نحو 20 مليار دولار أميركي، الأمر الذي أدى إلى انهيار العملة المحلية وفقدان الجنيه المصري نصف قيمته الشرائية، بحلول نهاية العام. أضف إلى ذلك انفجار الدين الداخلي، واقتراب الدين الخارجي من 170 مليار دولار، بنسبة ارتفاع تقدر بــ 35% من الناتج المحلي. وبحسب تقرير منصىة مودرن ديبلوماسي (Modern Diplomacy) الأميركية، فقد ارتفع التضخم في مصر إلى أكثر من 10٪، مع استمرار العجز المزمن في ميزان المدفوعات، وبالتالي أصبحت مصر غير مؤهلة هيكلياً لتحمل الصدمات العالمية.

سيناريوهات الأزمة الاقتصادية

هناك عدة سيناريوهات يمكن من خلالها توقع مصير الاقتصاد المصري، في ظل حالة من التردي الاقتصادي العالمي، وفي ظل محاولات النظام إنقاذ ما يمكن انقاذه:

1 - تجاوز الأزمة

مع تدخل صندوق النقد الدولي، وافقت الحكومة المصرية على برنامج إصلاح هيكلي، الأمر الذي تطلب اعتماد نظام مرن لسعر صرف الجنيه المصري، فجرى تعويم الجنيه المصري وتم عرضه للتداول داخل الحدود اليومية مقابل الدولار الأميركي، مع ترشيد الإنفاق الحكومي، وخصوصاً ما يتعلق بالمشاريع التي تتطلب عملات أجنبية، مع بيع حصص في الأصول المملوكة للقطاع العام، الأمر الذي يمهد الطريق للقطاع الخاص للعب دور أكبر في المنظومة الاقتصادية.

ربما تنجح تلك الإجراءات وغيرها التي فرضها صندوق النقد الدولي، في تقليص آثار الفساد المالي في المؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة، ووقف إهدار المالي العام، مع خلق فرص عمل جديدة في المشروعات الانتجاية المتعثرة، فضلاً عن مساهمات دول مجلس التعاون الخليجي، والتزامها بضخ الأموال، وشراء بعض الشركات المتعثرة، مع توفير مصادر تمويل إضافية بقيمة 14 مليار دولار أميركي، من مؤسسات متعددة الأطراف، وصناديق سيادية في دول مجلس التعاون الخليجي، لسد جزء كبير من فجوة الصرف الأجنبي، الأمر الذي يمكن أن ينعكس بشكل جيد على فروق عوائد السندات الدولية ومقايضات التخلف عن سداد الائتمان، وكذلك الحصول على نحو 6 مليارات دولار أميركي سنوياً، من استثمارات المحفظة.

إذا تزامن هذا السيناريو مع توقف الحرب في أوكرانيا، وعودة تدفق الغلال إلى الموانئ المصرية، أو النجاح في الحصول على الغلال من أسواق جديدة، ربما تكون الهند أبرزها، فربما تسهم التدابير الهيكلية في تحسين بيئة الأعمال، وتعيد الأموال الساخنة التي تركت السوق. ويرتبط الأمر كذلك، وبحسب توصية سابقة لصندوق النقد الدولي، بتفكيك بنية اللوائح غير الفعالة والروتين الحكومي لزيادة فرص الاستثمار وجلب القطاع الاقتصادي غير الرسمي (اقتصاد الظل) إلى الحظيرة الرسمية، مع التأثير الإيجابي لذلك على خفض معدلات البطالة، ورفع مستويات المعيشة بشكل عام.

ربما يمكن كل هذا الحكومة من بناء مؤسسات حديثة وشفافة تقوم على المساءلة والحكم الرشيد وضمان قواعد الاقتصاد العادلة والشفافة، الأمر الذي يضمن أن تفيد مكاسب النمو جميع الناس.

يمكن الاستناد إلى عدة معطيات قد تفيد في تحقق هذا السيناريو: فبالتزامن مع الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه في مقابل الدولار، مطلع العام الجاري، حدث تدفق لاستثمارات المحفظة، بقيمة مليار دولار أميركي، وفقاً للبنك المركزي المصري. كما أوصى ستاندرد تشارترد، بحسب مودرن ديبلوماسي في تقرير للمستثمرين، بشراء أذون الخزانة المصرية، وأشار إلى عودة تدفقات المحفظة إلى سوق الدين المحلي في الأيام الأولى من شهر كانون الثاني / يناير 2023. وبالمثل، أشارت تقارير إلى قدرة القطاع المصرفي المصري على مواجهة تداعيات انخفاض قيمة الجنيه، مؤكدة أن نسب الاحتياطي الإلزامي داخل البنوك المصرية، قادرة على تحمل أي انخفاض في قيمة الجنيه، لأنها مدعومة بتدفقات داخلية جيدة لرأس المال.

وعليه قد يحدث التحول نحو الاقتصاد التشغيلي، وتحقيق معدلات تنمية حقيقية، مع فض الاشتباك مع مؤسسات سيادية، تهيمن على قدر كبير من السوق.

2 - استمرار الأزمة

ويرتبط سيناريو استمرار الأزمة إلى حد كبير، بعدة مؤشرات تتصل بتراجع الاقتصاد العالمي، إذ من المتوقع أن يتراجع النمو في سنة 2023 إلى 1,9% من 3% في سنة 2022، مُسجلاً أدنى معدلات النمو في العقود الأخيرة.

ووفق تقدير إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة (UNDESA)، فإنّه من المتوقع في معظم البلدان، أن يضعف الاستهلاك والاستثمار بسبب التضخم وارتفاع أسعار الفائدة.

وعليه قد تشهد السوق المصرية ركوداً معتدلاً، قبل أن يرتفع النمو في النصف الثاني من هذا العام وحتى سنة 2024 بسبب الآثار المترتبة على الحالة الوبائية العالمية، والحرب في أوكرانيا، وأزمتي الغذاء والطاقة الناتجة عنها، وارتفاع التضخم، وزيادة الديون. لكن ذلك النمو المتوقع والذي قد يرتفع بشكل معتدل إلى 2,7% في سنة 2024، لن يفي باحتياجات الوضع الاقتصادي، أو بأعباء الديون الخارجية والداخلية. وفقاً لهذا السيناريو، فإن الأزمة سوف تستمر.

3 - الانهيار

يرتبط سيناريو الانهيار بفشل سياسات إعادة الهيكلة، وتفشي التضخم، مع تسبب التوسع في حركة استقبال الودائع البنكية بفوائد كبيرة، في حدوث ركود اقتصادي عام، وكذلك مقاومة بعض الجهات السيادية خضوعها للرقابة وقواعد الشفافية المالية، كل هذا قد يؤدي إلى مسار الانهيار المالي.

ويرتبط هذا السيناريو كذلك بتحولات الوضع الإقليمي والدولي، وخصوصاً في حال شروع إثيوبيا في انتهاج المزيد من المساس بحصص مصر المائية، وبالتالي تعرض قطاع الزراعة للضغط الضغط، وكذلك فإن أفق الانسداد السياسي في الصراع الدولي، وتورط أطراف أخرى في الصراع الروسي الأوكراني، يعني تعرّض اقتصاديات الدول النامية إلى صدمة عنيفة، وتوقف الاستثمارات وحركة القوافل التجارية.