إصدارات الأسرى الفلسطينيين: أسئلة التحرر والحرية

في تأمل روايات الأسرى وقصصهم، نحن لا نقرأ أدباً فقط، بل نفكر بحياتهم وما حدث معهم وكيف مدوا جسورهم نحو الحياة خارج السجن، لذلك قراءة هذا الأدب يفتح لنا الباب لنقرأ خارطة من أحلامهم وتطلعاتهم وفكرتهم عن الحرية.

لكن ما هي علاقة الحياة في السجن بطبيعة الابداع؟ وهل يكتب السجناء الذين تحرروا أدباً مختلفاً عن الحياة داخل السجن؟ وكم رواية كانت تصف السجن؟ وكم رواية أخرى كانت تتحدث عن خارجه؟ وهل انحصرت مواضيع الأسرى عن الحرية؟ وكيف كتب روائيون عن خارج السجن وهم داخله، وكيف تخطوه ليتحدثوا عن أشياء أخرى تشغلهم؟

أسئلة كثيرة تبحر داخلها هذه المقالة التي تحاول أن تضع الأسئلة أمامنا من دون أن تعطي إجابات بالضرورة، كما أنها لا تسعى لدراسة فنيات تلك الروايات، بل لتلتمس ما يربط بين هذا الفن والحياة في الخارج، ولتربط بين هذا الفن والواقع السياسي والاجتماعي، وتحاول الإجابة على كيف استطاع الأسرى أو حاولوا عبر فنهم أن يكوِّنوا رؤية ما عن الواقع الاجتماعي أو ربما عن المستقبل؟

تبني هذه المقالة أسئلتها من خلال تسجيل ملاحظات على قراءة روايات لروائيين كتبوا خلال تواجدهم في السجن أو بعد خروجهم منه. هكذا ربما تبدو خريطة هذا الأدب مفتوحة أمامنا لنقرأ تفاصيل أخرى نستطيع ربطها بما يحدث في السجن وخارجه، فالسجن تحول الى مدرسة بالنسبة للكثير من الأسرى الذين كانوا يقرؤون ويتابعون دراستهم داخل السجن الذي تحول من مكان قسري إلى بيئة تحرض على الابداع. وربما يكون الروائيون الأسرى قد تأثروا بروايات محددة داخل السجن.

ولا تهدف هذه المقالة إلى دراسة مصادر هذا الابداع، بل رؤيته عن كثب كحالة فنية وإنسانية قادرة على ربط الواقع بالفن وعلى رؤية الثقافة كجزء من تكوين معنى للأشياء والحياة وفهم العالم فهماً ينطلق من تجربة قاسية وخاصة ومهمة، لأنها جزء من جغرافيا فلسطين، هذا الوطن المحتل.

الجدير بالذكر، أن هذا الأدب لا يمكن فصله عما يكتب أيضاً من روايات خارج السجن، لكن من المهم والجميل أن ننظر إليه نظرة خاصة لأنه سيكوّن لدينا فكرة ما عن رؤية مختلفة لمستقبل الحرية والتحرر من وجهة نظر هؤلاء الأحرار المثقفين.

في هذه المقالة، سوف أمعن النظر في ستة روايات، هي: “سر الزيت” لوليد دقة؛ “العاصي” لسائد سلامة؛ “البوسطة” لعبد دولت؛ “حكاية جدار” لناصر أبو سرور؛ “الخزنة” لعصمت منصور؛ “أحلام بالحرية” لعائشة عودة، فضلاً عن مجموعة شعرية لأحمد عارضة بعنوان “‘خلل طفيف’ في السفرجل”. في الروايات الست المذكورة أعلاه، ربما نستطيع أن نلقي الضوء على مشهد أدبي وثقافي بدأ من داخل السجن وسيستمر خارجه، وهي تجيبنا ضمناً عن أسئلة كثيرة ومهمة في هذا الزمن الصعب.

"سر الزيت" والمستقبل الأسير

كتب وليد دقة رواية “سر الزيت” في سجن جلبوع، وصدرت عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في سنة 2018، وكتب بعدها “سر السيف” و”سر الطيف”. قد تكون “سر الزيت” واحدة من روايات اليافعين، لكننا لا نستطيع، ونحن نقرأ، ألا أن نلاحظ كيف يفكر أسير بالمستقبل، وكيف يعتبر المستقبل أسيراً في عقولنا وأحلامنا.

تحكي “سر الزيت” عن طفل اسمه جود يرغب في زيارة أبيه في السجن، وهو ما ترفضه سلطات الاحتلال، فيلجأ إلى أصدقائه الحيوانات لمساعدته في إيجاد حل، لكنه يفشل في العثور على حل، إلى أن يجد شجرة الزيتون التي تطلب من ومن أصدقائه الحيوانات أن يمسحوا أجسامهم بزيتها كي يصيرون لا مرئيين، وهكذا يذهب جود إلى السجن ويلتقي أبيه ويخبره بسعادة طفل، أنه تمكن أخيراً من لقائه، لكن أبيه يخبره أن هذا ليس الحل، بل الحل هو تحرير المستقبل لأنه أقدم أسير عربي، وأن المواجهة والعلم ربما هو الحل.

تعتبر “سر الزيت” أول رواية للأطفال اليافعين كتبت في السجن، لكنها برأيي تؤثث لأدب لا يحكي فقط عن السجن ومعاناة السجناء، لأن ذلك أدب آخر سأتحدث عنه بل هي تربط بين فكرة السجن وفكرة التحرر وتنتقل بين الخارج والداخل لترسم رحلة يقومها الطفل وأصدقائه الحيوانات لتجعلنا نتأمل الحياة كرحلة بحث.

يرى وليد دقة الخارج مكاناً للبحث عن السر، ويجعل من زيارة الطفل لأبيه سؤالاً مهماً يفكر فيه الجميع، لكن على الرغم من أن الكاتب يوحي بحل في نهاية الرواية، إلا أن الرواية ترتقي إلى جمالية طرح الأسئلة. فالسجن يتحول هنا الى سؤال حين نفكر فيه فإننا نجعل الحرية سراً من أسرار الوجود. لذلك فإن “سر الزيت” تنتقد الواقع، لكنها في الوقت نفسه تقيم معه علاقة ودية، فهي تعلم أن السر موجود داخله وتحرض على البحث عن هذا السر الذي هو الأمل.

تجعلنا “سر الزيت” نفكر أيضاً بكمية الروايات التي تحمل صفحاتها هذا السؤال، أو ربما أسئلة أخرى من وحيه، فنذهب بعيداً إلى تلك العلاقة بين الرواية والسجن، أو رواية الأسرى والحرية أو نظرتهم لـ “التحرر”، ليس فقط من الأسر، بل التحرر الاجتماعي والسياسي من الاحتلال وكل ما يكبلنا ويمنعنا من بلوغ الحرية بمعناها الأوسع.

"العاصي" والتحرر الاجتماعي

نجد ما أشرنا إليه أعلاه في رواية “العاصي” سائد سلامة المعتقل في سجن جلبوع، وهي صادرة عن دار الفارابي (2022)، وتطرح سؤال البطولة في الزمن الصعب، ومعنى أن تكون بطلاً في زمن تراجع فيه فعل النضال والبطولة.

يسرد سلامة قصته الحقيقية ورحلة اتخاذه قرار أن يطعن مستوطناً. لكن الرواية لا تركز على هذا الفعل بل على تأثيره على من حوله: أصدقائه وأهله وأقربائه، وعلى الطبيب، وشيخ الجامع الذي أعلن رفضه لفعل سلامة، وعلى الناس العاديين. يتحدث كيف أن يده ظلت تنزف من دون أن يجد أحداً يسعفه، وكيف سيصبح مطارداً. وفي الرواية يحلل معنى ما قام به كفعل نضالي يشتبك مع الحياة الاجتماعية، فيصبح وكأنه أسير لكن خارج السجن الذي لا ذكر له أبداً في الرواية، إذ أنه مشغول بفكرة النضال. ولأن السجن صار متوقعاً، فإنه يحفزنا للتفكير بما يحدث في الخارج وكأنه شيء يشبه السجن ويوازيه في المعاناة.

تبدو في هذه الرواية العلاقة واضحة بين الواقع الاجتماعي في الخارج ورؤية الروائي الأسير الذي لا ينتقد فقط هذا الواقع، بل يرسم لذاته حريّة أن يكون ما يؤمن به في محيط اجتماعي خائف ومرتبك. وهذه الرواية تجعلنا نطرح سؤالاً عن علاقة المثقف الأسير بواقعه داخل السجن، فهو لم يتحدث عنه، ربما لأنه صار معروفاً لنا وربما لأنه يريد أن يضع يده على أمور حساسة أخرى شعر أنه يريد أن يكتب عنها. فما معنى أن يكتب أسير روايته عما يحدث خارج السجن؟

في “العاصي”، مثلما هو الأمر في “سر الزيت”، رحلة بحث عن بطل اسمه ساري، تحفزنا الرواية أن نبحث عنه. وساري هو كل شخص قرر أن يقوم بمهمة مختلفة وعكس التيار، فشعر برفض من هم حوله. يذكرنا هذا السياق بما قاله الشاعر الأرجنتيني أنطونيو بوركيا، “سيقولون أنك على الطريق الخطأ إذا كانت طريقك.” وهكذا تنقلنا الرواية إلى محطة أخرى من محطات هذا العالم الأسير، لتحرر نظرتنا إليه.

"مسك الكفاية" والتاريخ الأسير

في رواية باسم الخندقجي “مسك الكفاية” التي صدرت عن الدار العربية للعلوم – ناشرون سنة 2014، يبدو واضحاً أن الروائي يسعى لوضع بصمة خاصة تغير الصورة النمطية عن أدب السجون، فيذهب بعيداً نحو التاريخ لكي يُهرّب الرواية التي هربت من السجن، ومن فكرة المكان وسطوته. يريد الخندقجي أن يذهب إلى التاريخ لكي ينحت نفقاً يُخرج فيه سرديته من واقع السجن، فيُقدم لنا رؤية أخرى لهذا التاريخ الأسير وكأنه يذكرنا بأن هناك سجوناً أخرى في الماضي علينا ألا نبقى أسيرين لها.

يتناول باسم في روايته فترة من التاريخ العربي تقع في ناحية ما في جنوب الجزيرة العربية الخارجة عن حكم الخليفة العباسي حيث تعيش أسرة مات معيلها، ولكن في بؤرة السرد، نلتقي بفتاة جميلة، تأخذها الأحداث لتصبح سيدة الظلال الحرة وتجابه ذكورية التاريخ وتنتصر عليه.

نجد هنا رغبة عند الروائي بأن يتحدث بصوت غير صوته، فيختار أن يتحدث بصوت امرأة، لكي يطرح أسئلة عن الحرية أبعد من أسئلة السجن، ويُظهر طموحاً بأن يحرر التاريخ باسم المرأة وصوتها، وربما هذا هو مشروعه التحرري.

تدفعنا الرواية إلى طرح أسئلة كثيرة عن نظرة الروائي والمثقف للواقع وكيف يرى جذور التخلف فيه قادمة من مكان في التاريخ، لذلك فإن حفر ذلك النفق الروائي كان ضرورياً جداً. فالسجن ليس فقط سجن الاحتلال إنه أيضاً سجن الماضي، وسجن الأفكار البالية والسائدة. ويحفزنا الروائي للنظر إلى روايات أخرى عن التراث وتعود إلى ت الماضي لتستنطقه برؤى جديدة.

البطلة هنا امرأة يرغب باسم الخندقجي أن يتحدث بصوتها ليجعلها تسرد قصة الحرية بطريقة مختلفة عما قرأناه. وهنا ربما نبحث أكثر عن روايات كتبها الأسرى وهم خارج السجن. فإذا كانت الروايات داخل السجن بهذا العمق وتتحدث عن أمكنة أخرى فكيف كتب روائيون أسرى وهم في الخارج؟

السجن كمرادف لوطن محتل

صدرت رواية عصمت منصور “الخزنة” عن دار طباق للنشر في سنة 2022، وهي الثالثة التي كتبها بعد خروجه من السجن.

تدور حكاية “الخزنة” حول مجموعتين من الأسرى تخططان لهروب من السجن عبر نفق يحفره الأسرى، المجموعتين تتحدان معا ويتصبحان مجموعة واحدة. وربما ألهمت منصور حادثة هروب الأسرى الستة من سجن جلبوع، لكتابة الرواية، لكنه أيضاً استلهمها من تجربته الشخصية داخل السجن.

وعلى الرغمن من أن عصمت كتب الرواية وهو خارج السجن، لكن السجن بقي مكاناً جغرافياً ملهماً لرؤيته إزاء مفهوم الحرية، ومثلما قال الأسير وليد دقة في دراسته المعنونة “صهر الوعي”: “حياة الأسرى عيّنة مصغرة عن حياة المواطنين في الأراضي المحتلة، يمكن تبسيط الصورة وإيضاحها لفهم المشهد الفلسطيني برمته.” وهكذا يعبر السارد خالد، ابن تنظيم فتح في الرواية، عن حالة الخوف والترقب قبل الدخول في شراكة مصير مع أسرى من حركة حماس فيقول: “كنا عاجزين نتأرجح بين تعقيدات السجن، وانعدام الأدوات والاجتهاد على الحفاظ على سرية محاولتنا.”

في هذه الرواية، نرى أن السجن قد أصبح عيّنة، أو صورة مصغرة عن الوط،ن كما يقول وليد دقة. ونلاحظ أيضاً كيف جاء أسلوب الرواية مكثفاً واستفاد من الخيال لينقل صورة الواقع المتأزم دون التخلي عن الأمل بالحرية.

السجن أم الجدار؟

في رواية الأسير ناصر أبو سرور “حكاية جدار” التي صدرت عن دار الآداب سنة 2022 ورشحت للجائزة العالمية للرواية العربية، نرى ذلك التقارب بين الجدار والسجن. فناصر الذي تمكن خلال وجوده في السجن من إنهاء دراسته الجامعية واستكمال درجة الماجستير في تخصص الدراسات الإقليمية، كان قد كتب الرواية في السجن. وقبل السجن عاش ناصر في مخيم عايدة ونفذ مع رفاقه عملية استهدفت ضابطاً إسرائيلياً، اعتقل في إثرها وحكم عليه بالسجن المؤبد.

تُظهر الرواية أن ناصر مسكون بالمخيم، فهو يكتب روايته التي هي سيرته الذاتية، ويقسمها إلى قسمين: الأول أنه ولد في مخيم، والثانية بأنه ولد في السجن. والجميل في مقاربة ناصر أن الجدار موجود في كل مكان ليس فقط في المخيم وفي السجن. والأجمل أنه يجعل قصته هي قصة هذا الجدار فيقول: “لا هذه ليست قصتي، إنها قصة جدار قرر أن يختارني شاهداً على ما يقوله ويفعله، لقد منحني الجدار كل صفاتي وألقابي منذ بداية الرحلة، في المخيم، على طرف المدينة، في السجن، وفي قلب امرأة أو في أطرافها.”

نقع على سرد قرر أن يؤنسن هذا الجدار ويجعل له حكاية ووجود، ربما لكي نعيد قراءة ما مر من أمامه من حيوات وألم، ولكي نرى أن الحرية هي أكثر من مجرد مكان خارج السجن، فقد تنوجد وتحدث حين يقرر هذا الجدار أن يسرد قصته: أن يتحرك، وأن يحكي.

في الجزء الأول من سيرته يسرد ناصر حكاية اللجوء والولادة والثورة والنضال والسجن، وفي الجزء الثاني يعطي فسحة للأمل من خلال حبٍ وُلد على جدار السجن وحرر وجدان صاحبه من أسره قبل أن تُكتب نهايته على الجدار نفسه.

في هذه الرواية أيضا نرى روح الترابط بين داخل السجن وخارجه، وذلك الانتقال المرتبط بمعنى الحرية، وتلك القدرة على نقد الواقع ورؤية أبعد من معاناة السجن. رؤية تؤسس لأفكار ترمم هذا المشهد القاتم، وبأمل يعطينا ضوء في كل تلك الأنفاق.

الحرية كقضية وقرار

لكن ماذا عن الأسيرات وماذا يكتبن في تلك العتمة المبدعة؟

ما يجعلنا نسأل عن الأسيرات ورؤاهن عن الحرية هو وجودهن ومشاركتهن في فعل النضال وفي حقل الفن والأدب في خارج السجن وفي داخله. فقد صدر في سنة 2022، عن دار طباق، كتاب قصص قصيرة لأسيرات بعنوان “ترانيم اليمامة”، كتبت قصصه مجموعة من الأسيرات المحررات، وتناولت تجاربهن الشخصية في وعنه السجن وعن المعاناة. وكأنها سير ذاتية لما حدث بالدقة، وكأننا هنا أمام سجل توثيقي للألم، فمعظم القصص تدور حول حادثة القبض عليهن، ومعظمهن قاصرات، وكيف أُدخلن السجن وعشن المعاناة داخله.

هذا الكتاب الذي يجعلنا نسأل عن رؤى الأسيرات عن الحرية وكيف كن يفكرن بها، يحيلنا تلقائياَ إلى رواية الأسيرة المحررة عائشة عودة “أحلام بالحرية” الصادرة عن منشورات مواطن (2004)، وأعيدت طباعتها أكثر من مرة، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 2005، ودار البيروني في 2016. ونالت جائزة ابن رشد للفكر الحر في 2015.

في رواية “أحلام بالحرية” التي كتبتها عائشة حين تحررت من السجن في عمر الستين، تضعنا الكاتبة أمام معاني الحرية الأعمق بالنسبة لها، والتي لا ترتبط بشرط التحرر من الاستعمار إنما تتخطاه إلى مفهوم أوسع، عبر طرحها مفهوم المساواة حتى في النضال الوطني، وعن ذلك تكتب قائلة: “ها أنا أقف مع ابن عمي على قدم المساواة، وأتخذ قراراً يعاكس قراره مائة وثمانين درجة”، وتضيف: “أليست الحرية قراراً؟ قرار الالتصاق بالوطن والدخول في صميمه؟ قرار مواجهة العدو حد الالتحام وخوض المجهول رغم الصعاب؟.”

غاصت عائشة عميقاً في سيكولوجيا المجتمع، واهتمت بتفاصيل السلوك الفردي والجماعي بلغة أدبية جميلة. ولكي تؤكد تلك الندية، تحدثت في الرواية عن القضايا الفكرية والثقافية والسياسة، وامتد مفهوم الحرية في حياتها ليعني أنها قرار ومسؤولية، وهكذا تقول عن تجربتها في الكتابة: “أحسست بتحد كبير وأدركت أن من لا يروي روايته بنفسه فإنه يسمح لآخرين صياغتها على هواهم.” وتقول أيضاً: “أعود للكتابة ربما لتأكيد أن تحويل التجربة العملية إلى وعي هو الأهم في التجربة ذاتها لأنه زبدتها ولأنه النسغ الذي يمنعها من الذبول والموت.”

كتبت عاشة عودة بعد ثماني سنوات أي في 2012 الجزء الثاني من التجربة بعنوان “ثمناً للشمس” وهي سيرة غيرية تمشي بالتوازي مع الذات من خلال سردها كيف عملت هي وزميلاتها على جبهة المواجهة المعرفية. وفي هذه التجربة أيضاً نرى كيف تتطلب الحرية وعياً معرفيا وروحاً إنسانية للنضال، وأنه حتى الأدب هو مرآة للرؤى والقضايا بطريقة بسيطة وقريبة من القلب.

الشعر والتحرر من المجاز

في المجموعة الشعرية الصادرة حديثاً عن دار الفارابي (2022) “خلل طفيف في السفرجل”، يذهب الأسير في سجون الاحتلال أحمد عارضة بعيداً نحو أسئلة بسيطة ويومية، ويسأل في لغته الخاصة التي ابتعدت عن الخطابة والمجاز والمباشرة، في قصيدة “سؤالات ما قبل النوم”: “لماذا النهار طويل؟ / تقول وتصغي / أجيب / لأن النهار مليء بضده.” ويتابع: “فتسأل: ما سر اغماضات وردة بقبضة طفل مشاكس؟ أجيب: هو السر نفسه في نوم قطتي / تحت اللحاف بغير ملابس.”

هذه التفاصيل الجمالية تدعونا للغوص في معنى أن يتأمل شاعر أسير بمثل هذا الجمال؛ إنها مقاومة جمالية ولغوية ونفسية. وعلىب الرغم من أننا نعثر أحياناً على لفظة سجن، أو على لفحة حزن أو لحظة قلق لا بد منه، لكن كل ذلك لا يشكل هاجساً كبيراً، فهو يقول في أحد القصائد: “يؤرقني مجيء الصيف للسجن / يؤرقني رحيل الصيف عن سجني.”

بالطبع هناك اختلاف كبير بين لغة الشعر والرواية، والجمالية هنا أن هذا الشعر مهتم بجماليته التي هي مقاومة للكثير مما يأسر الشاعر أحيانا من التعبير، وهذا ربما يصب في مصلحة الحياة واللغة والحرية.

بالطبع هناك إصدارات أخرى، لكن هذه المقالة تكتفي برصد أهم ما كتب، من وجهة نظري، وتعالج رؤية التحرر، وترصد علاقة ذلك بالواقع الاجتماعي والسياسي، وأهمية ذلك بالنسبة للأدب والجمالية، وهذه نقطة قد نضيفها لاحقاً. هناك أيضاً غزارة في الانتاجات التي تستند إلى السيرة الذاتية ولكن ربما القليل منها توثيقياً.

لقد كان هؤلاء المبدعون يصنعون أنفاقاً أدبية وفكرية وجمالية، لرؤية الواقع على أنه تجربة يفكرون بها بعمق، ويعملون في حياتهم النضالية والفكرية والأدبية على أن يضيئوا دروبها عبر وعيهم بأن تجربة الكتابة هي تجربة حياة بالدرجة الأولى.

  • الصورة المرفقة بالمقالة هي عمل للفنان الفلسطيني عبد الرحمن القطناني، عرضت في معرض “تحية لأسرى وأسيرات الحرية”، في نيسان / أبريل 2022، في صالة “الكلمة الرمز فلسطين” في مبنى مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.