يحيى جابر المسرح الحي

من يعرف يحيى جابر على أرض الواقع، أو في الفضاء الافتراضي، وخصوصاً من خلال منشوراته على موقع فايسبوك، ويشاهد مسرحه، ويقرأ ما كتب، يجد خطاً مستقيماً وغير متعرج. فهو يعيش يومياته مثلما يعيش قصيدته أو نصه المكتوب أو مسرحياته؛ هكذا هو: كتاب مفتوح وواضح من دون أي تعقيدات؛ هو السهل الممتنع في كل ذلك.

تعرفت على يحيى خلال عمله في مجلة “الناقد”، إذ زرته فيما كنت أعمل في مجلة “الهدف” مع صديق مشترك؛ ثم تعرفت عليه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد البدء بتنفيذ اتفاق الطائف، حين شهد المسرح نهضة، وبرز في حينه يحيى في مسرحية “ابتسم أنت لبناني”، إلى جانب ثلة من المسرحيين، وخصوصاً خريجين من معهد الفنون في الجامعة اللبنانية وأساتذة في المعهد.

لم تدم تلك النهضة المسرحية كثيراً، وخصوصاً مع انتشار العادات الاستهلاكية التي تأثرت الثقافة بها، فتسطحت وهيمن على المشهد عروض “الشونسونيه”، وتراجعت العروض المسرحية، وأُقفلت دور سينما شارع الحمرا واحدة تلو الأخرى، وافتقدت بيروت للمقاهي العريقة التي كانت تجمع مثقفي البلد، وتحولت إلى متاجر لبيع الثياب، وانتشرت في الشارع العريق مقاهي تعتمد في جذب روادها على النارجيلة، بل أقفلت الجرائد واحدة تلو الأخرى، وكأنه انهيار مصفوفة الدومينو: تغيب مقاهي المثقفين، فتغيب الصحف، وتحتل النارجيلة المشهد، وتغيب دور السينما، وتتحول بدورها إلى متاجر لبيع الثياب.

مكانان في بيروت تمردا على واقع الاستهلاك: مسرح المدينة في شارع الحمرا، ومسرح دوار الشمس عند مستديرة الطيونة، فجذبا العديد من المسرحيات والنشاطات الموسيقية والرقص والأمسيات الثقافية؛ وتمردت ثُلة من الفنانين المبدعين وأصروا على منع موت المسرح، بينهم يحيى جابر الذي أخذ المسرح إلى حياة الناس اليومية، وجذب الناس إلى خشبة تحكي مسرح حياتهم.

مناسبة هذه السطور، مشاهدتي أخيراً مسرحية “هيكالو”، وكنت قد شاهدت قبلها “مجدرة حمرا” و”شو ها”. وإذا كان يحيى أبدع في النصوص وهندسة المشاهد التي حاكها هو ونفذها ممثلون محترفون على خشبة ميزتها الديكورات البسيطة مثل حياتنا، فإنه تمكن من إخراج إبداع كامن من ممثلين لم نكن نتوقع أن يكونوا بهذا المستوى الرائع من الأداء، مثل عباس جعفر الذي أبدع في “هيكالو” على خشبة “دوار الشمس”: أضحكنا وأبكانا، لكن بخفة دم، وعرّفنا على ما لا نعرفه من خصائص عشائر بعلبك الهرمل، ويومياتهم… وتمرد والدته، على التقاليد العشائرية من خلال رفضها زج أبنائها في حلقة دم الأخذ بالثأر، وأكملها عباس الذي اختار الفن طريقاً بعيداً عن الدم، وسجل في ختام العرض دعوة واضحة إلى التوقف عن عادة الأخذ بالثأر.

أختم لأخاطب يحيى: “يا يحيى ‘أخذت الكتاب بقوة’، فأحييت المسرح.”