مكتب اقتصادي في الرئاسة السورية جهاز نهب وإثراء

يعتبر “المكتب السري” أو الاقتصادي في رئاسة النظام السوري ركناً مهماً في تأمين الموارد اللازمة لإدارة اقتصاد المناطق التي تقع تحت سيطرته، معتمداً على عقلية جباية تهدف في المقام الأول إلى نهب النخب الاقتصادية في البلد لتمويل عملياته وتوفير الخدمات للمواطنين، بالإضافة إلى تكديس ثروة مالية للفئة الحاكمة الضيقة.

ومع حجم الدمار الكبير جراء تداعيات الازمة السورية، وخروج مصادر الطاقة والثروة عن سيطرة النظام، والعقوبات الاقتصادية الشديدة المفروضة على البلاد، وتراجع الإنتاج الصناعي والزراعي وهجرة الكفاءات السورية، وغياب أي حل سياسي، يبدو أن هذا المكتب مستمر في دوره وقد يتكيف مستقبلاً مع أي حل يضمن بقاء الفئة الضيقة في الحكم.

مكتب يثير القلق

يتناقل رجال الأعمال من تجار وصناعيين في دمشق وغيرها بشكل مستمر أسماء استدعيت إلى فرع الخطيب في دمشق، وهو الفرع الداخلي وأحد اقوى الفروع الأمنية في جهاز أمن الدولة، يتم ابتزازهم بحجج مختلفة منها التهرب الضريبي أو الاتجار بالعملة، وعليهم دفع مبلغ نقدي يتراوح بين مئات الملايين إلى مليارات الليرات السورية، على الرغم من الوضع السيء الذي يعاني منه هؤلاء جراء ارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض القدرة الشرائية للسوريين الذي تتجاوز نسبة الفقر لديهم حاجز 90 %، ويبقى من يتم استعادءه في الفرع حتى يُجمع المبلغ المذكور.

فرض الأتاوات، بحسب مصادر مطلعة، يشمل معظم النشاطات الاقتصادية في البلاد وخصوصاً تجار المعادن الثمينة وصناعيين كبار، وطال رجال أعمال كانوا واجهة للنظام في سنوات الازمة.

والمكتب السري أو الاقتصادي هو مكتب يتبع لأسماء الأسد ويدار من قبل مقربين منها، ولاسيما رجل الأعمال يسار إبراهيم الذي برز نجمه في السنوات الأخيرة، ويتألف من أقسام عدة تشمل المعلومات والمالي والأمني.

غير قانوني ودستوري

مصادر قانونية تصف لموقع “التقرير العربي” ما يحدث بأنه “غير قانوني”، فالمكتب السري هذا لا يعتبر هيئة او مؤسسة شرعية ولم يصدر أي مرسوم أو قانون يتحدث عن تشكيل هذا الجهاز، كما أنه مخالف لدستور الجمهورية العربية السورية حيث السلطة الوحيدة التي يحق لها أن تحاسب أي مواطن ارتكب خللاً ما واقتضى ذلك فرض غرامة عليه، هو القضاء فقط.

وينص الدستور على أن الاقتصاد الوطني يقوم على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل.

كما ينص على أن السياسة الاقتصادية للدول تهدف إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.

دور متعاظم

المكتب السري لابتزاز رجال الأعمال في سورية وفرض أتاوات عليهم يسلط الضوء، بحسب متابعين، على أمور عديدة تتفاعل فيما بينها وهي سيطرة أسماء الأسد على الاقتصاد في البلاد ودورها المتعاظم في إدارته حتى لو كانت تتخفى تحت عناوين إنسانية براقة من جهة، ويظهر طبيعة الدولة الأمنية واستمرار دورها من جهة ثانية، ويظهر الوضع الكارثي الناجم عن تداعيات الأزمة الخانقة التي يعيشها النظام من جهة ثالثة.

فدور أسماء الأسد تعاظم في السنوات الأخيرة من خلال خبرتها في العمل في المنظمات الحكومية منطلقة من الأمانة السورية للتنمية التي تأسست سنة 2007 تضم العديد من الشركات والبرامج منها يتعلق بالشأن الإنساني واجهة للتغلغل في وسط المجتمع السوري وتعاظم دورها بالسيطرة على المساعدات الإنسانية الأممية.

كما بدأت منذ سنوات بفرض أتاوات على رجال الأعمال السوريين والحد من نفوذهم والسيطرة على أصول البعض منهم وتحديد حصص لها في العديد من المشاريع الاقتصادية الكبيرة في البلد، وذلك كله عبر المكتب السري التابع لأسماء الأسد، وبهدف تمويل عمليات النظام من جهة وجمع ثروة هائلة للعائلة من جهة ثانية.

وتعد عملية أقصاء رامي مخلوف ابن خال الرئيس عن المشهد الاقتصادي السوري ووضعه تحت الإقامة الجبرية والسيطرة على أصول اقتصادية يملكها داخل البلاد أحد أهم الأمثلة على دور أسماء الأسد.

استراتيجية الدولة الأمنية

كذلك فإن المكتب السري يبرز استراتيجية الدولة الأمنية المتبعة منذ عقود، من خلال نهب الفئة الحاكمة للثروات الداخلية وإحكام قبضتها على المفاصل الاقتصادية وإسقاط مفاهيم “دولة القانون”، و”حق المواطنة ومساواة الجميع”، مع تكريس الفساد والافساد في المجتمع، وكل هذا بالتزامن مع تعاظم دور الأجهزة الأمنية على حساب استقلالية مؤسسات الدولة، وإثارة الرعب في قلوب النخب وخصوصاً الاقتصادية منها من مواجهة الفئة الحاكمة.

إفلاس النظام

كما يأتي بروز دور المكتب السري كمؤشر على إفلاس النظام اقتصادياً على الرغم من الاستقرار النسبي الذي تحظى به مناطق سيطرته منذ سنة 2018.

فقد شهدت السنوات الأخيرة تدهوراً في مستويات المعيشة ووصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وانهيار الليرة السورية مقابل الدولار، وتراجع الدخول حيث لا يتجاوز الحد الأعلى للدخل 35 دولاراً للموظفين في الجهات العامة، وكذلك تراجعاً كبيراً في الخدمات في مجالات الصحة والمياه والتعليم.

ويضاف إلى ما سبق، عدم سيطرة النظام على مصادر الطاقة، وخصوصاً النفط والغاز الواقع تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وعدم وجود احتياطي نقدي من العملات الأجنبية.

كل هذا جعل المكتب الاقتصادي السري يتعاظم دوره بهدف تمويل عمليات النظام في حدها الأدنى.

هجرة الثروات

تداعيات هذه السياسة المتبعة لجمع الأموال من التجار تسببت بهجرة الكثير منهم إلى الخارج مع ثرواتهم، إذ تشير المعلومات إلى أن معظم من تم استدعائهم أو رجال أعمال آخرين لم يتم توقيفهم هاجروا بعد بيع ممتلكاتهم وتهريب ثرواتهم إلى الخارج، وأن هذا الأمر أدى إلى استنزاف أموال طائلة كان يمكن لها أن تسهم في العملية الاقتصادية بدلاً من هجرتها إلى الخارج، وهذا ما يذكرنا بهجرة الأموال والنشاط الاقتصادي في ستينيات القرن الماضي بعد اتباع سياسة تأميم النشاط الاقتصادي.

تزامن ذلك مع هجرة الكثيرين من أصحاب الفعاليات الاقتصادية بسبب السياسة الحكومية القائمة على الجباية وفرض ضرائب عالية وعدم وضوح القوانين التجارية. وتشير غرفة تجارة دمشق أواخر العام الفائت الى أن أكثر من 100 ألف تاجر خرجوا من العمل التجاري في سورية من أصل 110 آلاف سجل تجاري مسجل في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، معتبرة ذلك بمنزلة خسارة كبيرة للاقتصاد السوري، فيما أوضح اتحاد غرف الصناعة السورية عن هجرة 47 ألف صناعي سوري معظمهم من دمشق وحلب، وذلك في سنة 2021.

الجباية على حساب الإنتاج

يرى مختصون اقتصاديون، أن “المكتب السري هو مؤشر على عقلية الجباية في إدارة الاقتصاد في مناطق سيطرة النظام خلال الأزمة، على حساب أي سياسة اقتصادية تسهم في تطوير الإنتاج، الذي يعتبر العنصر المورد الوحيد في الحصول على القطع الأجنبي فمن دون إنتاج لا يوجد اقتصاد ولا ضريبة ولا دخل أو موارد للخزينة.”

ويلفت المختصون إلى أن “هذا المكتب له تأثير سلبي على الاقتصاد ومثبط للنشاط الاقتصادي وله دور في هجرة راس المال النقدي والبشري على حد سواء من خلال الممارسات غير القانونية ونهب رجال الأعمال في البلاد، كما أنه يتناقض مع الهدف المعلن من حكومة النظام وإصدارها قوانين بشأن خلق بيئة استثمارية جاذبة في البلد.”

دور مستقبلي

ومع استمرار العقوبات الاقتصادية على سورية وفي ظل غياب أي حل سياسي للازمة السورية ورفع العقوبات المشروط بتحقيق تقدم في هذا المجال، سيبقى دور المكتب الاقتصادي السري قائماً بنفس المهام التي يقوم بها حالياً من خلال فرض أتاوات على الفعاليات الاقتصادية لتمويل عمليات النظام في إدارة البلاد من جهة، وتكديس ثروات للفئة الحاكمة من جهة أخرى.

كما أنه من المتوقع أن يستمر هذا المكتب في حال التوصل إلى حل سياسي يضمن بقاء النظام في الحكم، وذلك لتكريس سيطرة الفئة الحاكمة الضيقة على الاقتصاد السوري من بوابة إعادة الاعمار وخلق شراكات مع رؤوس الأموال الأجنبية، لكن بأساليب أخرى.”