مصالحة السعودية وإيران في ميزان الجيواستراتيجيا

يسير قطار المصالحة السعودية الإيرانية على سكته بعدما أصلحتها لقاءات دامت أكثر من سنين في بغداد ومسقط وأخيراً في بكين، انتجت التوافق على وضع حد لمنافسة عنيفة بين القوتين الإقليميتين ذات الامتداد الدولي، وباتت محطات التوتر في منطقة الشرق الأوسط جاهزة للتهدئة على طريق خفض احتمالات الانفجار، وصولاً إلى احتمالات تسويات طويلة الأمد بين متصارعي الأمس، وربما تعاون إقليمي يخرج عن سياقات التوتر العالمي الروسي الأميركي الأوروبي والأميركي الصيني، إذا لم تُعرقل هذا المسار تدخلات بعض المتضررين.

الخليج وجواره اليمني أولاً

على الرغم من أن تراتبية حل مشاكل المنطقة ضمن التوافق السعودي الإيراني لم تُعلن على الملأ، إلا أن مخرجاتها الواضحة التي تزخر الصحافة الإقليمية في تحليلها، أشرت بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذا التوافق تمت مرحلته ليبدأ أولاً في منطقة الخليج العربي وجوارها اليمني تحديداً.

والواقع أن التسوية الملموسة في اليمن لم تبدأ مع إعلان بكين عن المصالحة السعودية الإيرانية، إنما كانت قد لاحت بوادره منذ أن اقترحت السعودية قبل أكثر من سنة هدنة من جانب واحد، تساوق معها الحوثيون حلفاء إيران، فتوقف قصف الطيران السعودي على اليمن، وتوقفت صواريخ الحوثيين عن ضرب أهدف استراتيجية داخل المملكة، ولا سيما محطات تكرير ومصاف وخطوط نقط تابعة لشركة أرامكو.

لم تكن هذه الهدنة معزولة عن ترتيبات مع إيران تحت الطاولة، قادتها خصوصاً عُمان، وترتيبات فوقها، تختص بالعلاقات الإيرانية السعودية قادتها بغداد. وعندما حان وقت قطاف ثمرة محطتي عُمان وبغداد، جاءت بكين لتضفي بعداً دولياً على التوافق السعودي الإيراني، ولتضع حلقة صلبة بضامنات وازنة، في سلسلة تحتاج بعد إلى وصل حلقات أُخرى يتم وضعها واحدة تلو الأخرى، وبدايتها كانت بالإعداد لفتح سفارتي السعودية في طهران وإيران في الرياض.

لقد مثّل وصول وفد سعودي وآخر عُماني إلى صنعاء أخيراً للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب اليمنية، مرحلة متقدمة من تسوية الوضع في اليمن، وهي تسوية معبرة عن منطق نصف هزيمة ونصف انتصار:

ـــ نصف هزيمة للسعودية التي اضطرت للاعتراف صراحة وبلا مواربة بسلطة الحوثيين في اليمن بعدما كانت تعمل على هزيمتهم، بل أظهرت المصافحة بين الوفد السعودي ومستقبليه الحوثيين نديّة صاحب سيادة لضيف ذي وزن كبير، بينما كانت الرئاسة اليمنية التابعة للتحالف السعودي في اليمن “ترحب” بخفر بهذا التطور، وكذلك الجنوبيون (المتحالفون مع أبو ظبي) المائلون نحو الانفصال عن الشمال، والذين سوف يجدون أنفسهم، ربما، مضطرون للقبول بتسوية تكون ما بين الانفصال والفدرالية.

هكذا تكون السعودية قد تلافت هزيمة، أو نصف انتصار مكلف، كون الحوثيين أظهروا قدرة على الصمود بدعم إيراني، بينما لم يتمكن خصومهم اليمنيون من حلفاء السعودية أو حلفاء أبو ظبي، من جمع صفوفهم وتوحيد أدوات المعركة بما يُمكنهم من التغلب على الحوثيين، حتى وبوجود كل الدعم السعودي.

كذلك وجدت السعودية نفسها في مجال ابتزاز مزدوج، من حلفائها الخليجيين، وخصوصاً أبو ظبي الطامعة بنفوذ وموطئ قدم استراتيجي في سقطرة وعدن، ومن حليفتها الولايات المتحدة التي كانت تضع شروطاً تلو الشروط لتعويض السلاح والذخيرة للسعودية، وتظهر بين فترة وأخرى ازدراء للحكام في الرياض، الأمر الذي دفع حاكم المملكة الفعلي الأمير محمد بن سلمان إلى معاقبة واشطن عبر نسج علاقة عميقة: اقتصادية وأمنية مع بكين، إحدى الحليفات الكبيرات لطهران.

ـــ نصف انتصار لإيران التي فشلت في إحداث اختراق حقيقي في شرق السعودية عبر الطائفة الشيعية التي لا يبدو أنها استجابت لمساعي استمالتها من قبل إيران تحت يافطة الأيديولوجيا الطائفية، مثلما تمكنت من استمالة الحوثيين الذين كانوا يحتاجون إلى مثل تلك المساعدة لكي يستعيدوا، ما يعتبرونه، حقاً مسلوباً لهم في الحكم، كونهم كانوا حكام البلد قبل ثورة سبتمبر 1962.

لم تتحقق أمنية الحوثيين / إيران الكاملة بحكم شمال اليمن على الأقل، كون جزءاً كبيراً من الشمال خرج من تحت سيطرتهم لمصلحة “الشرعية اليمنية”، بدعم لا محدود من التحالف السعودي – الخليجي – العربي، فضلاً عن محافظات جنوب اليمن.

مثّل اليمن جرحاً نازفاً وثقباً أسوداً يبتلع مقدرات سعودية وإيرانية تحت ناظر الولايات المتحدة التي لم تكن بوارد مساعدة السعودية وحلفائها اليمنيين على الانتصار، فالأمر يصب لمصلحتها عبر استنزاف طويل الأمد للسعودية (الحليف الممقوت) وإيران (العدو المُعلن)، فجاء التوافق السعودي الإيراني لينهي هذا الاستنزاف، بل ينقل الوضع إلى حالة من التعاون الذي سوف تظهر ملامحه في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.

سورية ثانياً

بينما كان قطار التسوية في اليمن سائراً على سكته، فتحت السعودية خط تسوية مع نظام بشار الأسد في دمشق، وزار وزير الخارجية السوري فيصل المقداد الرياض لأول مرة منذ اندلاع الأزمة السورية في سنة 2011، والتقى بنظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، وتوافقا على استئناف الخدمات القنصلية والرحلات الجوية، وعلى تعزيز التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب ودعم المؤسسات السورية لإنهاء وجود المليشيات المسلحة والتدخلات الخارجية، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم. كما أن عودة سورية رسمياً إلى الجامعة العربية مطروحة بقوة على بساط البحث، من باب حضور الرئيس بشار الأسد القمة العربية المزمعة في أيار / مايو المقبل في الرياض، مع وجود تحفظ قطري قد يعيق هذا الحضور، لكن بمطلق الأحوال فإن العودة إلى المحيط العربي باتت أمراً واقعاً عبّرت عنها زيارة المقداد إلى الرياض والقاهرة وزيارة بشار الأسد إلى أبو ظبي.

واحتمالات التسوية في سورية تصبح أكثر واقعية مع توجه تركيا إلى مصالحة مع نظام الأسد، وهي مصالحة واقعة لا محالة، وعلى الأغلب بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في تركيا، سواء فاز أردوغان مجدداً أو فاز مرشح المعارضة. لكن تبقى الممانعة الأميركية حجر عثرة قد تؤجل التسوية في جزئها المتعلق بمنطقة نفوذ الأكراد حلفاء واشنطن، مع تسجيل ميل أوروبي للخروج من أسر الهيمنة الأميركية، عبر عنها الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون أخيراً في سياق رفضه التساوق مع واشنطن في الصراع الأميركي الصيني الذي تتصاعد وتيرته في تايوان، وعلى خط منتجات التكنولوجيا والرقميات، فيما تبدو ملامح إرهاصات للخروج من أسر التحالف ضد روسيا الذي كلّف أوروبا غالياً على المستويات الاقتصادية، وبالتالي متفرعات الصراعات التي تخوضها واشنطن وصولاً إلى ملفات الشرق الأوسط التي ستكون سورية واحدة منها.

العراق ومحاولات الالتفاف الأميركية

كان بارزاً أهداف زيارة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في مطلع آذار / مارس الماضي، إلى العراق ولقائه رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني، والذي كتب على تويتر لدى هبوطه في بغداد “أنا هنا لأُعيد تأكيد الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق بينما نمضي قدماً نحو عراق أكثر أمناً واستقراراً وسيادة.” وبعد لقائه السوداني تذرع أوستن بالحرب على “داعش” لتأكيد بقاء قوات أميركية في العراق، وقال: “نركز على المهمة الموكلة لنا لهزيمة تنظيم داعش، ولكن أي هجمات تستهدف قواتنا يمكن أن تقوض هذه المهمة”. وأضاف أن “هذه المهمة حساسة، ويسرنا أن ندعم شركاءنا العراقيين، ولكن يجب أن نعمل بشكل آمن لاستمرار هذه الحرب ضد التنظيم المتشدد.”

وتستشعر واشنطن خطراً وجودياً في العراق خصوصاً، وفي الشرق الأوسط عموماً، حيث خففت اهتمامها به للتفرغ لمواجهة الصين في آسيا، وروسيا في أوروبا من خلال أوكرانيا، والاندفاعة الصينية لملئ الفراغ من خلال قوتها الاقتصادية الناعمة، وأبرز انجاحاتها في هذا السياق احتضانها المصالحة بين إيران والسعودية صاحبتا النفوذ القوي في العراق.

الاختبار بالنار

وسط كل هذه التطورات، حدث التطور الأخير انطلاقاً من جنوب لبنان والجولان وغزة، وعطفاً على ما يجري في فلسطين. فقط مثل إطلاق صواريخ من جنوب لبنان باتجاه المستعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة اختباراً حقيقياً بالنار لاستعداد إسرائيل لخوض معركة مع أطراف “محور المقاومة”، وخصوصاً اذا اقترن هذا التطور بإطلاق صواريخ من الجولان باتجاه المنطقة المحتلة من الهضبة السورية، واختبار النار أيضاً في قطاع غزة حيث انطلقت صواريخ من هناك باتجاه مستعمرات غلاف القطاع، فضلاً عن المواجهات التي احتدمت في القدس وفي الحرم القدسي خصوصاً، وفي الضفة الغربية وخصوصاً شمالها، من جنين إلى نابلس.

رُسمت السيناريوهات في الساعات الأولى لهذا التطور بين رد إسرائيلي عنيف يطاول حزب الله في لبنان ومواقع في داخل مدن قطاع غزة، وبين رد خجول هو ما حدث، من خلال غارات إسرائيلية على مواقع انطلاق الصواريخ في لبنان وسورية وغزة، بل أكثر من ذلك، فقد ظهر عدم استعداد إسرائيل لخوض مواجهة مع الجبهات المحيطة بها حتى ولو كانت محدودة، من خلال قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو منع المستوطنين من اقتحام الحرم القدسي خلال العشر الأواخر في رمضان، خشية رد قد ينطلق من غزة ولبنان.

لقد نجح اختبار النار الذي نفذه “محور المقاومة” لقياس مدى رد إسرائيل على فتح 3 جبهات أساسية ضدها هي لبنان وغزة وسورية، وكذلك جبهتي الضفة والقدس، ومناطق 1948، التي فاجأت إسرائيل أخيراً عبر عملية مجدّو التي لم تُكشف تفاصيلها الحقيقية حتى اليوم. فقد جاءت استجابة إسرائيل، مثلما ذكرنا، ضعيفة وغير مقنعة البتّة.

وقد يتجاوز الاختبار بالنار هذا جغرافيته المباشرة، أي لبنان وفلسطين وسورية، إلى النطاق الجيواستراتيجي المتمثل بإيران، إذ ساد كلام كثير قبل ذلك عن استعداد إسرائيلي لضرب إيران، ليأتي الرد عبر توحيد الجبهات، ليس فقط للرد على الاستفزازات الإسرائيلية في القدس، إنما لتوجيه رسالة إلى أن الجبهات مستعدة للرد على أي عدوان إسرائيلي على إيران التي تبدو أكثر ارتياحاً بعد مصالحتها مع السعودية، لجهة صب جهدها في المواجهة مع إسرائيل بعد أن بردت جبهة المواجهة مع السعودية في اليمن والعراق، وباتت الموارد كلها متاحة للمواجهة مع إسرائيل.

أما إسرائيل، فهي الآن في وسط أزمة داخلية معقدة، لا يبدو أنها قادرة على الخروج منها إلا بانتخابات مبكرة، لن تكون متاحة حالياً، الأمر الذي يعني أن الشرخ بين اليمين الصهيوني الديني واليمين الصهيوني التقليدي سوف يزداد توسعاً، ليكون شرخاً عمودياً، ملامحه تشكلت، في المجتمع الإسرائيلي، وعبرت عنه التظاهرات الحاشدة لرافضي التعديلات القضائية التي أرادها نتنياهو وحلفائه الأكثر تطرفاً في الائتلاف الحكومي متمثلين بالثنائي بن غفير وسموتريتش.

مصالحة تستجر مصالحة

فتحت المصالحة السعودية الإيرانية شهية مصالحات أخرى، كانت تتهيأ ببطء، وربما أبرزها المصالحة المصرية التركية، والتي تشي بالتوجه لتشكيل محور مقابل للمحور السعودي الذي قد ينشأ عن المصالحة مع إيران.

فمصر التي تعيش فترة جفاء مع السعودية والكويت اللتين لم تسعفاها في أزمتها الاقتصادية، إذ باتت السعودية تقيس مساعدتها لدول شقيقة بمقياس المصلحة والفائدة. ففي مقابل المساعدات تريد الرياض حصصاً في البلدان التي تتلقى تلك المساعدات، أو أقله أن لا تتبخر تلك المساعدات في ثقب الفساد الأسود.

وجدت القاهرة نفسها أمام احتمالات انحناء كبير للسعودية، أو عُزلة، وربما هذا الاحتمال دفعها إلى الاستجابة لمبادرة تقارب باشرتها أنقرة معها منذ فترة، وتُوّجت بزيارة وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو إلى القاهرة، والرد بزيارة مماثلة لنظيره المصري سامح شكري إلى اسطنبول، وتوافق بين الطرفين على التعاون في ليبيا، واحتمالات وساطة مصرية بين تركيا واليونان، ومساعدة على تقريب وجهات النظر مع دمشق.

يشير تحرك القاهرة هذا إلى مسعاها لإيجاد توازن بين علاقتها الباردة مع السعودية، عبر نسج حلف براغماتي مع تركيا التي تحتاج بدورها إلى مساندة من مصر (انظر تقديرات الموقف التي تناولت المصالحة السعودية الإيرانية في موقع التقرير العربي)، والتي قدّمت بغية الوصول إلى ذلك، تخليها عن حلفائها السابقين في جماعة الإخوان المسلمين والتضييق عليهم بعدما كانت استضافتهم في أعقاب سقوط سلطة الإخوان في مصر. كما تتواصل القاهرة مع أبو ظبي لتعويض انخفاض الدعم الاقتصادي السعودي والكويتي لها، في محاولة للاستفادة من جفاء سعودي إماراتي أيضاً.

هل ترتاح المنطقة؟

إن ما سبق هي مجرد محاكاة لسيناريوهات محتملة، لكن السؤال يبقى عن إمكانية أن ترتاح منطقة الشرق الأوسط المتعبة بصراعات تمتد لعشرات الأعوام؟

صحيح أن المصالحة السعودية الإيرانية سوف تحول دون انفجار صراع طائفي شيعي سني كانت احتمالاته عالية جداً في العقد الأخير، وصحيح أن هذه المصالحة، مقرونة بمصالحة مصرية تركية تخفف من التوتر الإقليمي المبني على تعزيز قدرات السيطرة لدى كل من إيران وتركيا على الدول العربية، مع التذكير بتصريحات قادة إيرانيين عن السيطرة على 4 عواصم عربية، والدخول التركي على تفاصيل أزمتي سورية وليبيا، لكن الصحيح أيضاً أن احتمالات الوصول إلى هدوء مستدام في المنطقة يبقى غير واقعي مع عدم إيجاد حل للمسألة الفلسطينية، حيث نشأت في إسرائيل قوى هي الأكثر عنصرية وعداء لأي حل مع الفلسطينيين سوى حل الخضوع أو الترانسفير.

إن بقاء المسألة الفلسطينية من دون حل عادل لن يجعل المنطقة ترتاح، وسوف يبقيها على صفيح ساخن مع احتمالات حرب إيرانية إسرائيلية تستجر معها معارك مع الجوار الفلسطيني والسوري واللبناني، قد يُقدم عليه متطرفو إسرائيل للخروج من الأزمة الداخلية، تستتجر أيضاً تدخل أميركي يضع المنطقة أمام حرب مدمرة جديدة.

للمزيد عن العلاقات السعودية الإيرانية إقرأ تقدير الموقف: اتفاق السعودية وإيران يُباغت الجميع في لبنان