مؤشرات ودلالات مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة

شكلت المحادثات العسكرية السورية التركية في مطار حميميم في اللاذقية ومبادرة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للتطبيع بين دمشق وأنقرة حدثاً بارزاً على مستوى المنطقة، وذلك بعد سنوات من القطيعة التي وصلت إلى الصدام العسكري.

هذا الأمر يثير تساؤلات عن عملية استئناف مسار التطبيع العلاقات بين البلدين الذي توقف منذ حزيران/ يونيو 2023، وإمكانية تحقيق خرق بعد تطورات الوضع الداخلي التركي، والانفتاح العربي على دمشق، والنزعة الانفصالية للأكراد في سورية وتأثيرها على الأمن القومي في كلا البلدين.

بدء مسار التفاوض

انطلق مسار تطبيع العلاقات بين دمشق وانقرة، والذي لعبت فيه روسيا الدور الأساسي من زيارة رئيس الاستخبارات التركية السابق هاكان فيدان إلى دمشق في أيلول/ سبتمبر 2022.

وفي أواخر 2022 اجتمع وزيرا دفاع البلدين في روسيا، ثم استطاعت إيران أن تفرض نفسها على مسار التطبيع ونشأة الرباعية، حيث استضافت موسكو لاحقاً اجتماعات الرباعية على مستوى نواب وزراء خارجية مطلع نيسان/ أبريل 2023، ثم وزراء الدفاع في 25 من الشهر ذاته، ثم وزراء الخارجية في 10 أيار/ مايو 2023، ثم نقل وزراء الخارجية العملية إلى نوابهم كي يصيغوا “خريطة طريق” للتطبيع السوري التركي.

نوقشت عناصر الخريطة في اجتماع على مستوى نواب وزراء الخارجية في العاصمة الكازاخستانية أستانا في 20 حزيران/ يونيو 2023، حيث طالب وفد الحكومة السورية بالانسحاب التركي قبل الشروع في بحث أي تطبيع، وهو الأمر الذي رفضته أنقرة، داعيةً إلى صياغة دستور جديد لسورية، وضمان أمن حدودها وشعبها قبل أي انسحاب، الأمر الذي اضطر موسكو إلى الإعلان في نهاية الاجتماع عن أن الوثيقة لا تزال تخضع لعمل “مكثف ودقيق”، ليتوقف مسار التطبيع.

اعتبارات الرباعية

كان لكل طرف من الرباعية أهداف من انطلاق مسار التطبيع؛ فروسيا كان لديها مخاوف من اتفاق أميركي تركي يسمح بتوسيع سيطرة انقرة في شمال سورية على حساب “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، مقابل موافقة الأتراك على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وانضمام أنقرة إلى خطط واشنطن في الحرب الروسية الأوكرانية.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجد في مسار التطبيع امراً يدعم حظوظه في انتخابات الرئاسة التركية التي جرت في 14 ايار/ مايو 2023، بخلاف الرئيس بشار الأسد الذي كان يراهن على هزيمته، ومحاولة الحصول على تنازلت من أردوغان، فيما كان هدف إيران من الرباعية المحافظة على نفوذها السياسي والعسكري في سورية.

لقاء حميميم ومبادرة السوداني

مسار التطبيع استؤنف مع الإعلان عن لقاء عسكري تركي سوري عقد في قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية، والذي حمل رمزية بأنه أول اجتماع بين ممثلي البلدين على الأراضي السورية.

جاء لقاء حميميم في سياق مبادرة أعلن عنها رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، مطلع حزيران/ يونيو 2024، في مقابلة مع قناة خبر تورك التركية، وقال فيها إن هناك اتصالات يجريها مع الأسد وأردوغان بشأن المصالحة بين الطرفين.

وأكد أن “مصادر التهديدات الأمنية التي يواجهها العراق وتركيا تنبع من المناطق السورية التي لا تسيطر عليها دمشق، وان هناك مصلحة مشتركة في تقريب وجهات النظر للتوصل إلى توافق وحل قضايا الخلاف والتركيز على القضايا المشتركة.”

حديث السوداني يحمل العديد من الدلالات أهمها إن إعلانه عن الوساطة جاء عبر وسيلة تركية وهو ما يُمثّل رسالة غير مباشرة للداخل التركي، وخصوصاً أن هناك تيارات سياسية تركية مُعارِضة تؤيد تطبيع العلاقات مع دمشق، بالإضافة إلى الدور السياسي الذي اضطلعت به بغداد في لعب دور الوساطة بين السعودية وإيران.

مستجدات في تركيا

الموقف التركي الرسمي تزامن مع تصريحات أدلى بها زعيم المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل بشأن التطبيع مع دمشق، كما يأتي في وقت يسعى كل طرف إلى تعزيز موقفه الداخلي، ولا سيما بعد أن استشعر أردوغان وحزبه الخطر داخلياً بعد الانتخابات المحلية التي جرت في نيسان/ أبريل الفائت، والتي اسفرت عن فوز حزب الشعب الجمهوري في تلك الانتخابات محققاً خرقاً مهماً على الساحة التركية، لم تشهده تركيا منذ أكثر من عقدين من الزمن.

كما أن الوضع الاقتصادي في البلاد وأزمة اللاجئين السوريين التي أسهمت في جزءاً منها بتلك الأزمة أسهمت في تغير موقف أردوغان.

في المقابل، استثمر أوزغور أوزيل سياسة اردوغان بشأن الملف السوري لتمرير رسائل للداخل التركي والخارج قائلاً إن “مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، أسس السياسة الخارجية على مبادئ أساسية تتمثل في عدم التدخل في شؤون دول الجوار الداخلية واحترام وحدة أراضيها وعدم التعامل مع العناصر غير الحكومية في هذه الدول، فكيف يمكن أن ندعم خطاب الصلاة في الجامع الأموي في دمشق الذي أطلقه إردوغان سنة 2011.” وأضاف “أعارض تماماً كل ما أدى إلى تدفق 4 إلى 5 ملايين لاجئ إلى تركيا بسبب السياسات الخاطئة.”

مرونة دمشق

دمشق التي حققت مكاسب سياسية في الآونة الأخيرة من خلال عودتها إلى الحضن العربي، أبدت مرونة بشأن موقفها من التطبيع، إذ قال وزير الخارجية فيصل المقداد في مؤتمر صحفي في 4 حزيران/ يونيو “نريد أن نرى تعهدات تركية دقيقة تعكس التزام تركيا بالانسحاب من أراضينا التي تحتلها ووقف دعمها التنظيمات الإرهابية.”

ويقول مطلعون على هذا المسار، إن “دمشق، التي أعلنت مراراً إن القوات التركية التي سيطرت على مساحة 9 آلاف كيلو مربع في شمال سورية بثلاث عمليات عسكرية بالإضافة الى تواجدها في ادلب كـدولة احتلال، تحاول الاستفادة من التطورات الداخلية التركية، والتي قد تخفف من تشددها من خلال إقرار جدول زمني للانسحاب التركي من سورية بضمانات دول إقليمية ودولية فاعلة كالعراق وإيران وروسيا.”

توقعات بكسر الجمود

ويرى مطلعون أن “أحد الأسباب التي قد تؤدي الى كسر الجمود واحداث خرق في مسار التطبيع بين دمشق وانقرة هي التطورات في شمال شرق سورية والنزعة الانفصالية الكردية من خلال عزم ‘الإدارة الذاتية’ الكردية، إجراء انتخابات محلية في آب/ أغسطس المقبل وسط معارضة إقليمية شديدة، وإمكانية التوصل الى تفاهمات أمنية بين البلدين لإجهاض مخططات الإدارة الذاتية المدعومة أميركيا، وهي انتخابات تؤثر على الأمن القومي التركي، وخصوصاً بعد تصريحات زعيم حزب الحركة القومية دولت بهشلي، حليف أردوغان، والذي دعا إلى عملية عسكرية مشتركة تجمع تركيا وسورية للقضاء على ‘حزب العمال الكردستاني’ في مناطق شمال شرقي سوريا، معتبرا الانتخابات الكردية بأنها مرحلة جديدة قادمة لتقسيم تركيا”.

وتابع المطلعون “كما أن الوضع الداخلي التركي والأزمة الاقتصادية وملف اللاجئين السوريين قد يجعل انقرة تتراجع عن شروطها للتطبيع مع دمشق، في وقت قد تبدي الأخيرة مرونة بشأن الوجود التركي في حال الاتفاق على عدد من القضايا منها: ادلب، ومستقبل الفصائل العسكرية الموالية لها، ‘الجيش الوطني’، وملف اللاجئين، والاعتراف التركي بشرعية النظام، مستفيدة من انخراطها في المبادرة العربية ‘خطوة – خطوة’ لحل الأزمة السياسية.”

ويبدو أن مسار التطبيع الأخير سيستمر مع الإعلان عن عقد جولة قادمة في بغداد قريبا خاصة وان الظروف الداخلية لكل من سورية وتركيا والوضع الإقليمي والدولي قد نضجت للوصول الى تفاهمات قد تكون بحدها الأدنى.