كيف أضر التعاون الاقتصادي مع إسرائيل بأمن الطاقة في مصر؟

راكمت القاهرة طموحات عريضة لتكون مركزاً إقليمياً للغاز في شرق البحر المتوسط مع الاكتشافات الجديدة في مياهها الإقليمية، وكان دخول القاهرة إلى صراع شرق المتوسط في مواجهة تركيا، بدافع تكريس مكانة إقليمية كثيراً ما سعت إليها، ولكن يبدو أنّها وقعت في فخ الاعتماد على واردات الغاز الإسرائيلي، دافعة البلد إلى استيراد الغاز الطبيعي المسال بدلاً من تصديره، في ظل ارتفاع الطلب على الغاز في الداخل، جراء موجات الطقس الحار التي تضرب البلد لفترات طويلة، وكذلك في الخارج بسبب الحرب الأوكرانية التي عرقلت إمدادات الغاز الروسي عن الغرب.

ومع الانقطاع المتكرر للكهرباء، ولجوء الحكومة المصرية إلى زيادة ساعات تخفيف الأحمال، وفي ظل ارتباك حركة تدفق الغاز من إسرائيل منذ بداية الحرب على غزة، انكشف مدى ضعف أمن الطاقة في مصر، وأثّر ذلك على حياة المواطنين اليومية، وهو ما طرح علامات استفهام متعددة عن الأداء الحكومي في ظل ضغط السوق وأعباء خدمة الديون التي تبلغ مدفوعاتها خلال العام الجاري 2024 وحده، نحو 25 مليار دولار.

تزامن ذلك مع تراجع حركة مرور السفن في قناة السويس، منذ شرع الحوثيون في شن هجماتهم على السفن المارة، جنوب البحر الأحمر، منذ تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، وانخفضت تبعاً لذلك، إيرادات قناة السويس، لتشهد انخفاضا حاداً بنسبة 64,3% خلال أيّار/ مايو 2024، لتبلغ نحو 337,8 مليون دولار، مقارنة بـ 648 مليون دولار خلال نفس الشهر من سنة 2023.

محددات أمن الطاقة

زاد الاعتماد المصري على الغاز الإسرائيلي، منذ سنة 2020، والذي يتم إعادة تصدير نحو 90% من وارداته إلى أوروبا، بعد إسالته. أما الـ 10% الباقية، فيتم توجيهها إلى السوق المحلية. ومع أزمة العملة الصعبة، قررت مصر تخفيف أحمال الكهرباء في الداخل، لزيادة كميات الغاز المصدر، لكن توقُف الإنتاج من حقل تمار البحري الذي تديره شركة شيفرون الأميركية العملاقة في إسرائيل، في أعقاب الحرب على غزة، تسبب في ارتباك حاد لأمن الطاقة في مصر، وهو التوقف الذي تكرر بحدة في حزيران/ يونيو الفائت، وأدى إلى تفجر أزمة حقيقية في قطاع الكهرباء.

وعلى الرغم من التدابير، قصيرة المدى، لعلاج الأزمة، فإن قطاع الطاقة في مصر، يظل مرتبطاً بالوضع الاقتصادي العام، ولم تستطع الحكومة، في ظل تراجع إيرادات قناة السويس، خفض كميات الغاز المصدر إلى أوروبا، الأمر الذي يعني استمرار أزمة الطلب المحلي المتزايد، في ظل تراجع الاستثمار طويل الأجل في مصادر الطاقة المتجددة، ومحدودية أسواق الغاز الطبيعي المسال عالمياً.

وبناء عليه، وعلى الرغم من تصريحات رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي بتوقف حكومته عن تصدير الغاز في فصل الصيف في السنين الأربع الأخيرة، لمواجهة الاستهلاك المحلي، إلا أن بيانات البنك المركزي كشفت أن إيرادات تصدير الغاز في أشهر الصيف (تموز/ يوليو، وآب/ أغسطس، وأيلول/ سبتمبر)، من سنة 2020 وحتى 2023، بلغت نحو 2,5 مليار دولار.

وعلى الرغم من واقع الأزمة الاقتصادية، والذي يشي بالمزيد من التحديات، بدأت مصر العمل على زيادة وارداتها من الغاز الطبيعي المسال، بشحنتين على الأقل في نيسان/ أبريل الفائت، مع الشروع في إجراء عمليات شراء إضافية لمعالجة احتياجات فصل الصيف، والرغبة في الحفاظ على إمدادات الطاقة، مع انخفاض الإنتاج المحلي من الغاز الطبيعي وزيادة الطلب على الكهرباء خلال فصل الصيف الحار.

وفي السياق نفسه، اضطرت مصر إلى وقف جميع صادرات الغاز الطبيعي المسال ابتداء من شهر أيّار/ مايو الفائت، ووقعت الشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعي المملوكة للدولة، اتفاقية مدتها 20 شهراً مع شركة Hoegh LNG النرويجية، وشركة Australia Industrial Energy، للاستعانة بوحدة تخزين وإعادة تحويل عائمة (FSRU) في منطقة العين السخنة، لإعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى غاز، وتوجيهه إلى السوق المحلي.

التحدي والاستجابة

من الممكن التنبؤ بعواقب استمرار الحرب في غزة، على أمن الطاقة في مصر، والتي تلقي بظلال قاتمة، في ظل الاعتماد على الواردات من حقل غاز تمار، الذي يزود إسرائيل بـ 91% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، ويقع على بعد 25 كيلومتراً فقط (16 ميلاً) قبالة ساحل غزة.

وتقاوم القاهرة، من خلال حلول مرحلية، وتمارس ما يشبه سياسة الخطوة خطوة، لكن الأزمة قابلة للتفاقم، في حالة استمرار الحرب، واقتراب موسم الشتاء الذي يرتفع فيه الطلب على الغاز في أوروبا، وهو ما يثير القلق في الغرب أيضاً، ففي حزيران/ يونيو 2022، وقّعت بروكسل مذكرة تفاهم مع القاهرة وتل أبيب لتعزيز تجارة الغاز مع دول شرق البحر المتوسط ​​ وفي العام نفسه، صدّرت مصر أكثر من 7 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، بزيادة قدرها 14% عن سنة 2021.

ويمكن رصد القلق نفسه في تركيا التي تستورد بدورها كميات كبيرة من مصر، حيث بلغ حجم الواردات من مصر، في سنة 2022، ما يقرب من ربع واردات تركيا الفورية من الغاز الطبيعي المسال، وبالتالي تتابع أنقرة بدورها الأزمة عن كثب.

وعلى الرغم من شبهة ممارسة إسرائيل الضغط على القاهرة، عبر ورقة الغاز، إلا أن تل أبيب لا يمكن أن تذهب بعيداً في هذا الملف، فهي تحتاج إلى تعميق العلاقات في أكبر عدد ممكن من المجالات، وخصوصاً المجال الاستراتيجي مع القاهرة، لكن الأخيرة مدفوعة بمخاوف جمّة من نوايا إسرائيل لدفع سكان قطاع غزة نحو أبواب القاهرة، باتت تُراجع بقلق كبير ملفات التعاون بين الطرفين، في ظل افتقار إسرائيل الواضح إلى تحديد نهاية اللعبة. علاوة على ذلك، فإن عدم الوضوح بشأن سياسة “اليوم التالي” التي تنتهجها إسرائيل، يجعل من الصعب للغاية على القاهرة صياغة سياسات صلبة وبنّاءة تجاه مستقبل التعاون الاقتصادي، في ظل التصريحات الإسرائيلية غير المسؤولة تجاه مصر.

وتخشى مصر أن يؤدي اعتمادها على الغاز الإسرائيلي، إلى تشجيع الجانب الإسرائيلي على محاولة الاستفادة من الوضع الراهن، وممارسة المزيد من الضغط، من أجل الحصول على تنازلات فيما يخص ملف الصراع في قطاع غزة.

فحص التعاون مع إسرائيل

ويبدو أن القاهرة عليها أن تراجع موقفها من منتدى غاز شرق المتوسط، على الرغم من كونه الإطار الإقليمي الأول من نوعه الذي يسعى تجاه تعزيز التعاون بين الشركات العاملة في مجال الغاز في المنطقة. ويجمع بين إسرائيل ودول شرق المتوسط، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، ودُعي لبنان أيضاً للانضمام، لكن جنوح إسرائيل نحو قلب الطاولة على رؤوس الجميع، في ظل وجود حكومة متطرفة، يجعل من المهم مراجعة الدوافع الاستراتيجية مرة أخرى، في ضوء التحولات التي جرت في مياه العلاقات مع تركيا.

ويبدو أن القاهرة انتبهت بالفعل لضرورة البحث عن حلول جديدة، وهو ما يفسر موافقة مجلس الوزراء المصري، على خمسة مشروعات لاتفاقيات التزام بترولي للشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية والهيئة المصرية العامة للبترول، وعدد من الشركات العالمية والوطنية، باستثمارات تقدر بنحو نحو 200 مليون دولار.

ومن المتوقع أن تساهم الموافقة على هذه الاتفاقيات، في دعم جهود مصر لزيادة احتياطياتها وإنتاجها من النفط والغاز، وتلبية الطلب المتزايد على الطاقة في البلاد. والاتفاقيات هي:

اتفاقية التزام للتنقيب عن واستغلال الغاز الطبيعي والنفط الخام بمنطقة شمال بورفؤاد البحرية بالبحر المتوسط، بين الحكومة والشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعي وشركة Ioc Production B.V.

اتفاقية التزام لاستكشاف واستغلال الغاز الطبيعي والزيت الخام في منطقة جنوب نور البحرية بالبحر ا المتوسط، بين الحكومة والشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعي وشركة VIEOC Production B.V.

وكذلك وقعت اتفاقية التزام أخرى للتنقيب عن واستغلال الغاز الطبيعي والنفط الخام بمنطقة أرض شمال الخطاطبة بدلتا النيل بين الحكومة والشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعي وشركة ZN BV.

فضلاً عن ذلك، وضعت الحكومة تعديلاً على اتفاقية الالتزام للبحث عن البترول وتطويره واستغلاله بمنطقة حورس التنموية في الصحراء الغربية الصادرة بالقانون رقم 105 لسنة 2014 بين الحكومة وعدد من الشركات الوطنية. بالإضافة إلى اتفاقية أخرى مشابهة لاستكشاف وتطوير واستغلال البترول بمنطقة جنوب الضبعة التنموية (SD-3) بالصحراء الغربية.

ويبدو أنّ الحكومة المصرية تسعى إلى تنويع مصادر الطاقة، من خلال مجموعة من السياسات، تهدف إلى تحقيق الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية من الطاقة التقليدية بالإضافة إلى الطاقات المتجددة والنظيفة، مع العمل على رفع نسبة مشاركة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة إلى نحو 18,6% في 2026/ 2027، وزيادة الطاقات الإنتاجية للهيدروجين منخفض الكربون ومشتقاته بغرض التصدير، مع التوسع في استخدامه محلياً في كافة القطاعات وخاصة الصناعة والنقل. أضف إلى ذلك استكمال المشروع النووي في مصر، وإدراج هذه الصناعة والتكنولوجيا الاستراتيجية المرتبطة به ضمن خطة تنويع مصادر الطاقة النظيفة والمستدامة. مع التوسع في إنشاء محطات الطاقة الكهرومائية كجزء أساسي من مصادر الطاقة المتجددة في مصر، ومحطات الطاقة الشمسية العائمة.

أثبتت الأحداث أنّ اعتماد القاهرة على إسرائيل، في أحد أخطر ملفات الأمن القومي، وهو ملف الطاقة، محفوف بالمخاطر، في ظل الانفلات الأيديولوجي الذي تتميز به الدولة العبرية، وربما جاء ذلك في وقته، لإعادة النظر في الشراكات الاقتصادية المختلفة، والتوجه نحو تهميش هذا التعاون مستقبلاً.