عقوبات واشنطن على سلامة رسالة لسياسيي لبنان بأن "لا تغادروا مناصبكم"

أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، عن إدراج إسم حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة على لائحة العقوبات، بعد 10 أيام عن مغادرته منصبه، منتصف آب/ أغسطس وذلك بتهم فساد مالي.

وقالت الخزانة في بيان إن “أنشطة سلامة الفاسدة وغير القانونية ساهمت في انهيار دولة القانون في لبنان”، مشيرة إلى أنها فرضت هذه العقوبات بالتنسيق مع كل من بريطانيا وكندا. وأضافت أن سلامة أساء استغلال موقعه في السلطة، وانتهك القانون اللبناني لإثراء نفسه وشركائه، من خلال تحويل مئات الملايين من الدولارات عبر شركات وهمية لاستثمارها في قطاع العقارات الأوروبي.

من الاحتضان إلى النبذ

بذلك، يكون سلامة الذي تولى حاكمية المركزي اللبناني طوال 30 عاماً، وحصد جوائز إقليمية ودولية وأوسمة شرف تقديراً لجهوده في منصبه، بات اليوم ملاحقاً في دول أوروبية عديدة، وكذلك في الداخل اللبناني.

سلامة يحمل، فضلاً عن جنسيته اللبنانية، الجنسية الفرنسية، وقد صدرت بحقّه مذكرتا توقيف عن كل من فرنسا وألمانيا، كما أصدر القضاء الفرنسي قرارات بمصادرة أصول عقارية ومصرفية يملكها وتقدر قيمتها الإجمالية بعشرات ملايين اليوروهات.

وسبق أن جمدت كل فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ أصولاً بقيمة 120 مليون يورو يشتبه بأن ملكيتها تعود له أيضاً. أمّا سلامة فيؤكد أن هذه الأموال هي ثمرة استثمارات قام بها على مدى سنوات، من أصل مبالغ حصل عليها من عمله السابق طيلة عقدين في مؤسسة “ميريل لينش” المالية العالمية.

طوال السنوات التي سبقت العقوبات تلك، كان سلامة مدعوم ومغطى من الإدارات الأميركية المتعاقبة، باعتبار أنه يشغل منصباً حساساً (حاكمية مصرف لبنان) له أهميته لدى الخزانة الأميركية التي تستطيع من خلاله أن تطل على جميع المعلومات المالية في لبنان، وخصوصاً في ظل وجود منظمة مصنّفة “إرهابية” في الغرب اسمها حزب الله الذي حاولت الخزانة الأميركية إقصائه عن المؤسسات المصرفي المحلية والعالمية.

لماذا وكيف وإلى أين؟

إدراج اسم سلامة على العقوبات الأميركية ثم على لوائح الدول الغربية الأخرى، يقود إلى تسجيل جملة من الملاحظات، هي على الشكل التالي:

1 – إدراج سلامة على لوائح العقوبات في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، يعني أن تلك العقوبات كانت منسقة، وليست وليدة اللحظة. ويعني أيضاً أن الدول الثلاث كانت تنتظر خروج سلامة من الحاكمية (خرج في 31 تموز/ يوليو الفائت) حتى تفرض عقوبات عليه وعلى مساعديه وأقربائه، مع العلم أن الخزانة الأميركية أظهرت أكثر من إشارة في الأشهر القليلة الماضية، وخصوصاً حين أدرجت شركة صرافة لبنانية مقرّبة من “حزب الله” (شركة CITEX التي يملكها الخبير الاقتصادي اللبناني حسن مقلّد) على لوائحها للعقوبات، واتهمتها بتبييض الأموال واتهمت المصرف المركزي اللبناني بالتعاون معها. وهي كانت المرة الأولى التي تشير فيها الخزانة إلى دور محتمل للمصرف المركزي في متن نصّ يخص جهات لبنانية معاقبة.

2 – لو صدرت العقوبات خلال ولاية سلامة، لكانت ستطال بشكل أوتوماتيكي مصرف لبنان نفسه، وليس سلامة فحسب، وكانت ستشكل إرباكاً للسلطة النقدية في البلاد، وربما كان ستؤثر على علاقة لبنان الرسمية مع المصارف المراسلة وعلاقة تلك المصارف بالمصارف المحلية. وبالتالي، فإن هذه الخطوة تعني أيضاً أن الدول الثلاث (أميركا وكندا وبريطانيا) أرادت أن تنأى بمصرف لبنان عن تداعيات العقوبات على حاكمه، وما زالت حتى اللحظة، حريصة على رسم ذاك الخط الفاصل بين جماعة السلطة ومؤسسات الدولة.

3 – توقيت العقوبات، كان بمنزلة “إبراء ذمة” لمصرف لبنان من الارتكابات التي يُتهم بها سلامة وأقاربه ومعاونيه، ولعل هذا ما دفع وأسس لوصول نائبه الأول (الشيعي) وسيم منصوري المحسوب على “حركة أمل” ورئيس مجلس النواب نبيه بري، والذي يدير مصرف لبنان في توقيت حرج جداً، لكن يديره وفق المنطق والإرادة الأميركيين (By the book).

4 – العقوبات ضد سلامة كانت بمثابة “صرخة” من الولايات المتدة، أرادت أن تقول من خلالها للطبقة السياسية اللبنانية، أنها متمسكة بقرار المحاسبة، وهي ليست منفردة بهذا القرار. بل لديها شركاء آخرين هم كندا وبريطانيا إلى جانب الاجراءات الأخرى التي تتخذها الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية.

5 – تحدثت العقوبات عن تجميد الحسابات المصرفية في الخارج للمعاقبين (سلامة ورفاقه) لكنها لم تحدد إن كانت تلك المبلغ المحتجزة في المصارف الخارجية ستعود إلى خزينة الدولة اللبنانية أم لا، وهل إن تقدم سلامة بدعوى قضائية في الولايات المتحدة سيستطيع استعادة تلك الأموال بعد تسوية وضعه قانونياً؟

6 – لجنة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان المولجة بالتدقيق بكل الشبهات التي تخص تهم تبييض الأموال، كانت غائبة منذ بداية الأزمة، على الرغم من الفضائح التي سُرّبت في الاعلام وكذلك الدعاوى التي رُفعت لدى القضاء اللبناني وفي الخارج بحق سلامة وغيره، لكنها عادت إلى العمل “بسحر ساحر” بعد إدراج رئيسها السابق وأقربائه وأعوانه على لوائح العقوبات الأميركية، إذ خاطبت المصارف اللبنانية ودعتها إلى تزويدها لجميع المعلومات المتعلقة بحسابات سلامة ورفاقه المعاقبين، وهذا يعني أن اللجنة لا تتحرك إلاّ بـ “دافع” أو “محرّك” وحيد، هو الخوف من سطوة الخزانة الأميركية.

7 – بقيت الولايات المتحدة صامتة لفترة طويلة عن سلوك رياض سلامة في مصرف لبنان، على الرغم من الدعاوى القضائية الأوروبية التي باتت تلاحقه مؤخراً، وخصوصاً بعد أن وصلت إلى حدود إصدار بطاقة حمراء من الانتربول بحقه، لكن يبدو أن واشنطن ما عادت قادرة على توفير الغطاء له أكثر من ذلك، حتى لا تبدو داعمة لفساده، وخصوصاً أن كل ما يتعلق بالعقوبات المالية حول العالم منوط بها وبقدرتها على التحرك.

رسالة غير موفقة

صحيح أن واشنطن بعثت من خلال تلك العقوبات رسائل “غير مباشرة” لأركان السلطة السياسية والمالية في لبنان، تفيد بأنّها مصرة على المحاسبة، لكن شكل تلك الرسالة لسلامة (بعد انتهاء ولايته، أي بعد خروجه من مهامه رسمياً) كانت مؤذية بحق التغيير والإصلاح المنشود، وكذلك بحق مصالح لبنان واللبنانيين.

فإدارج سلامة على لوائح العقوبات بعد خروجه من حاكمية مصرف لبنان وليس قبل ذلك، يعني أن جميع أركان السلطة الفاسدة في لبنان، سيكونون أكثر إصراراً على التمسك بالسلطة وبمراكزهم، ولن يتخلوا عنها خوفاً من العقوبات، بينما التغيير قد يكون بحاجة إلى ما يشبه التطمينات بأن رحيلهم عن السلطة ربما يكون ذات منفعة للبلاد بينما بقاؤهم في السلطة هو الضرر بعينه.