زيارة السيسي إلى تركيا وتحريك الملف الليبي

لكل حدث سياقه الخاص الذي يرتبط به ويتفاعل مع جوانبه المتداخلة والمتشابكة. كما أنّ لتوقيته دلالاته ومساراته، التي لا ينبغي أن نغض الطرف عنها.

لم تكد الزيارة الأولى للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتركيا أن تنتهي في 4 أيلول/ سبتمبر، إلا وكان رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، والوفد المرافق له قد وصل للعاصمة الليبية طرابلس، صباح الخميس، 5 أيلول/ سبتمبر، ليعقد عدة لقاءات تكشف عن تفاعل القوى الإقليمية والدولية، مع سياق الزيارة ودلالاتها.

اجتمع رئيس جهاز الاستخبارات التركي مع المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، المنتهية ولايتها، عبد الحميد الدبيبة، بشأن أزمة المصرف المركزي، من دون تعقيدات ميدانية، ولتأكيد ضرورة عودة محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير إلى منصبه، وتعيين لجنة تسيير مؤقتة لمدة زمنية معلومة، حتى تنتهي التحضيرات التي تسعى إليها البعثة الأممية، لانطلاق حوار بين الأطراف السياسية داخل الأراضي الليبية، خلال أفق زمني محدد، وذلك بحسب مصادر خاصة مطلعة تحدثت إلى موقع “التقرير العربي”.

أزمة بلا أفق

كانت أزمة المصرف المركزي، واستخدام القوة في عزل المحافظ الصديق الكبير، مسألة لافتة، وأثارت غضب القوى الدولية التي أوضحت أن البنوك في الخارج سترفض التعامل مع البنك المركزي الليبي، حتى يتم تحديد من يديره، وذلك بناء على نصيحة وزارة الخزانة الأميركية، والتحذير بشكل مباشر في اللقاءات، وعبر وسائل إعلام غربية مثل مجلة “الإيكونوميست”، بالقول إنه “إذا خرجت ليبيا من النظام المالي العالمي، فسوف تجد صعوبة في شراء الأساسيات بما في ذلك الغذاء.”

أضافت المصادر أن قالن أكد في اجتماعه للفاعلين في العاصمة الليبية، أهمية أن يظل المجلس الأعلى للدولة، كغرفة ثانية بجانب مجلس النواب ومقره طبرق، متماسكاً، وأنّ الإجراءات الانتخابية التي أفضت إلى اختيار خالد المشري رئيساً، صحيحة وسليمة، وعلى الحكومة وحلفائها السماح للمجلس بتأدية مهامه، وعدم التضييق عليه.

يتفاعل ذلك ضمنياً، مع منطلقات المباحثات التي جرت بين الرئيسين التركي والمصري في العاصمة أنقرة، في 4 أيلول/ سبتمبر، وكان الملف الليبي أحد أبرز الملفات المشتركة على طاولة الرئيسين، والتي جرى بشأنها توافق نسبي خلال الفترة الأخيرة، وهو ما بدا واضحاً في تحركات أنقرة والقاهرة اللتين توافقتا أيضاً مع توجهات القوى الفاعلة دولياً، بانخراط المكونات الفاعلة محلياً في حور سياسي بخصوص توحيد المناصب السيادية، وتشكيل سلطة تنفيذية موحدة تختص بإجراء الاستحقاق الانتخابي، سواء على منصب الرئيس أو البرلمان، وضرورة العمل على نزع المؤثرات التي تفضي إلى أي سيولة ميدانية، من خلال ضبط أداء الجماعات المسلحة في الغرب الليبي، وتقييد حركتها في الشارع ضد الجماعات المتنافسة، مما تبدو معه مناطق الغرب بعيدة عن الاستقرار والأمان.

ارتباط بالتحولات الإقليمية

خلال الشهور من شباط/ فبراير، إلى آب/ أغسطس، وأيلول/ سبتمبر، من العام الجاري، تفككت عناقيد أزمة العلاقات المصرية التركية، حيث كانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى القاهرة، ثم لقاء وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مع نظيره المصري بدر عبد العاطي، لترتيب زيارة الرئيس المصري للعاصمة التركية، ومن ثم إنجاز هذه الزيارة، بناء للمزيد من التوافق بين القاهرة وأنقرة، والذي ارتفع منسوبه خلال الأشهر الأخيرة، كمؤشر لافت على حسم كثير من الملفات العالقة في الشأن الليبي، وهو ما انعكس بشكل أو بآخر على تحرك المكونات الليبية نحو أقصى توجهاتها، لكشف ردود الفعل وكسب مواقع مؤثرة لحظة الجلوس للتفاوض، وتشكيل المناصب وحيازة السلطة، الأمر الذي ظهر في جميع تصريحات المبعوث الأميركي الخاص ريتشارد نورلاند وآخرين على المستوى الدولي والإقليمي، بتأكيد أهمية التوافق وتحقيق الاستقرار، ورفض القرارت الفردية، في إشارة لتحرك المجلس الرئاسي ضدّ المصرف المركزي، ودعم حكومة الوحدة الوطنية لمحمد تكالة، الرئيس السابق للأعلى للدولة، من خلال تنظيم اجتماعات بعدد من أعضاء المجلس الأعلى للدولة المؤيدين له، فضلاً عن مسألة تعطيل إنتاج لحقول النفط، وكذا منح الضوء الأخضر لسلاح التشكيلات العسكرية في مدن الغرب، الأمر الذي جاء صريحاً وكاشفاً في المؤتمر الصحفي للرئيسين التركي والمصري الذي شدّد على ضرورة “خروج القوات الأجنبية غير المشروعة والمرتزقة من ليبيا، وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة”، معتبراً ذلك من شأنه “إنهاء مظاهر الانقسام، وتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد.”

ويشير الباحث الليبي في الدراسات الاستراتيجية والسياسية، محمد عادل أمطيريد، في تصريحات خص بها موقع “التقرير العربي”، إلى أن زيارة قالن إلى العاصمة الليبية، مرتبطة بتوقيت زيارة الرئيس المصري لأنقرة. وتابع الكاتب الليبي لافتاً إلى أن هذه الزيارة عكست نقاط التلاقي من خلال حل بعض المشاكل والاشكاليات في الملف الليبي، وعلى رأسها أزمة المصرف المركزي ومسألة، التشكيلات المسلحة وجماعات المرتزقة.

ولفت أمطيريد إلى أنّ أهم بنود زبارة قالن لطرابلس، كانت تأمين عودة الصديق الكبير إلى طرابلس واستعادة منصبه، بعد أن غادر البلاد نحو تركيا. فيما كشف أمطيريد موقع “التقرير العربي”، أن جدول لقاءات قالن في طرابلس، بدأ باجتماع مع عبد الحميد الديبة، وعضوين من المجلس الرئاسي هما: موسى الكوني، وعبد الله اللافي، فضلاً عن تأكيد اعترافه بخالد المشري، بعقد لقاء مباشر معه أثناء تلك الزيارة الأولى التي أجراها قالن لطرابلس، منذ تقلده منصب رئيس جهاز الاستخبارات التركي، فضلاً عن اجتماعه مع عبد الحميد الدبيبة كرئيس للحكومة منتهية الولاية.

إذاً، وبحسب الباحث الليبي محمد أمطيريد، فإنّ زيارة قالن عكست أولاً طبيعة النفوذ التركي في الغرب الليبي، خاصة العاصمة طرابلس، وكشفت حجم الضغط والتأثير الذي تمتلكه أنقره على الفاعلين المحليين في تلك الجغرافيا، من ناحية القدرة على التأثير والضغط اللازمين، تجاه الملفات العالقة والحاسمة والمؤثرة، لا سيما ملف المصرف المركزي، والاعتراف بصلاحية إجراءات انتخاب رئيس المجلس الأعلى للدولة، وهو ما يشير بوضوح إلى انعكاس التوافق المصري التركي على الملف الليبي، الأمر الذي يقوض مسارات الاستقطاب، في ظل تعطل الحلول الناجزة والفاعلة، وتقييد فرص السيولة الميدانية، دون القدرة على كبح فرصها بشكل كامل، حيث تظل فرضيتها قائمة.

ويقول الباحث السباسي الليبي محمد عادل، لموقع “التقرير العربي”، إن الحديث عن حوار سياسي ليبي – ليبي، ليس بجديد، ويتم الإعداد له منذ فترة ليست بقصيرة، متوقعاً أن تُكشف خلال الفترة القادمة، أغلب تفاصيله، والأطراف المشاركة له، والأهداف المرجوة منه

وماذا بعد؟

قد يبدو المشهد في ليبيا، رغم كافة تناقضاته وتعقيداته، يواجه مصيراً مغايراً، ربما يحمل بعض مؤشرات التفاؤل الحذر، والترقب النشط، أو السيولة الميدانية، وكل منها بحسب تطور عنصر محدد، أو انفراط مكون عن حالة التوافق، أو انزلاق صراع ما نحو المواجهة المباشرة. فنحن، في المحصلة، بصدد سيناريوهات لافتة ونوعية، بناء على التطورات الأخيرة، سواء على مستوى ديناميكيات العلاقات الإقليمية، أو مستوى التفاعلات بين المكونات الليبية، وأخيراً مدى رضوخ الجماعات والتشكيلات المسلحة، لمستوياتها السياسية وعدم الانقلاب عليها.