خروج أموال ساخنة ضربة جديدة للاقتصاد المصري

لا يزال الاقتصاد المصري يُعاني جراء عدم الاستقرار الأمني في الإقليم، وآخر مؤشرات المعاناة تلك، خروج قسم مما يطلق عليه اسم “الأموال الساخنة” (الأصول عالية المخاطر)، وسط شكوك بقدرة الجنيه المصري على الصمود أمام التداعيات الإقليمية الخطيرة، وأبرزها ما يجري في قطاع غزة، وأثره على حركة الملاحة في قناة السويس، حيث تقدر الخسائر الشهرية، بسبب تراجع حركة الملاحة في القناة، بنحو 400 مليون دولار منذ كانون الأول (ديسمبر) 2023.

وعلى الرغم من التوقعات المتفائلة التي راجت الشهر الماضي، أجرت شركة الأبحاث BMI التابعة لشركة Fitch Solutions دراسة أفضت إلى توقعات جديدة بشأن انخفاض قيمة الجنيه المصري، خلال الفترة المتبقية من العام الجاري.

خروج الأموال الساخنة

فقد تعرض الاقتصاد المصري، خلال الأسبوع الأول من آب/ أغسطس، إلى هزة جديدة، مع خروج نحو 7 إلى 8% من الأموال الساخنة، بشكل حاد ومباغت، وسط أنباء عن ركود محتمل في الولايات المتحدة، وتصاعد التوترات في إسرائيل وغزة وبيروت وطهران، وهو وضع تسبب بارتفاع جديد في سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الجنيه المصري، بحيث أصبحت احتياطات مصر من النقد الأجنبي، تكفي لتغطية واردات ثمانية أشهر قادمة فقط.

ومع مطلع الأسبوع الثاني من الشهر نفسه، هبطت البورصة المصرية بنسبة 2,19%، وواصل الجنيه المصري تراجعه أمام الدولار، ليصل إلى 49,5 جنيه مصري، فيما سعى المستثمرون لتقليل الخسائر عن طريق الانسحاب من جميع الأصول عالية المخاطر، بما في ذلك سندات الخزانة الحكومية، والتي يشار إليها عادة باسم الأموال الساخنة، والتي شهدت عائداتها زيادة متتالية لنحو ست مرات خلال الربع الفائت من العام الحالي لتصل إلى 27.65 في المائة، خلال 91 يوماً.

وحتى الآن، لم يتم تعويض خروج الأموال الساخنة من خلال تدفق استثمارات جديدة، الأمر الذي أدى إلى عودة منحنى العائد الذي كان يتجه نحو الانخفاض، إلى الارتفاع مرة أخرى، بعد خروج نحو 1,2 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق خلال يومين.

وكان البنك المركزي المصري، أعلن في الأسبوع الأول من آب/ أغسطس، عن ارتفاع صافي احتياطيه من النقد الأجنبي بنحو 105 ملايين دولار، لتصل إلى 46,489 مليار دولار في نهاية تمّوز/ يوليو، وعلى الرغم من كونه مستوى قياسي، قادر على توفير الحماية ضد التقلبات، ألاّ أن نسبة حيازة الأجانب من أذون الخزانة المصرية، بلغت في نيسان/ أبريل، نحو 35,6 مليار دولار، وهو ما يمثل نسبة كبيرة، غير مستقرة، من احتياطيات النقد الأجنبي.

وشهدت الاحتياطيات انخفاضاً حاداً بلغ 4 مليارات دولار في حزيران/ يونيو الماضي، في مقابل تدفقات داخلة بلغت 900 مليون دولار فقط. وذلك بسبب اضطرابات الأمن الإقليمي، الأمر الذي زاد من الضغوط على الجنيه، نتيجة لتفاقم المخاطر، ممّا أدى إلى تراجع سعر صرف العملة المحلية.

وقد أدى تحرير سعر الصرف الذي قام به البنك المركزي مؤخراً، بهدف القضاء على نشاط السوق السوداء ومعالجة فجوة التمويل الخارجي، إلى ارتفاع كبير في قيمة الدولار مقابل الجنيه، ليقفز من من 30,94 جنيه إلى نحو 49,35 جنيه منذ بداية العام.

جدير بالذكر أن الحكومة المصرية، واقعة تحت ضغط أعباء الدين بشكل كبير، إذ إنها مطالبة بنحو 35 مليار دولار حتى نهاية هذا العام، ما يعني أن البنك المركزي المصري ليس لديه خيار، سوى قبول عوائد أعلى على أذون الخزانة، في محاولة لوقف هروب المستثمرين إلى الخارج.

الوضع الجيوسياسي وتداعياته

وكان تقرير لشركة BMI توقع أن يتراوح سعر صرف الجنيه بين 47,9 و49,5 جنيه مقابل الدولار الأميركي، في تراجع عن توقعاتها السابقة، التي تراوحت بين 46,5 و47,5 جنيه مقابل الدولار الأميركي.

ويعزى هذا التراجع المحتمل، إلى التوترات الجيوسياسية المستمرة في الشرق الأوسط، بما في ذلك الهجمات الإسرائيلية المتوقعة على بيروت وطهران، والتي أدت إلى تكثيف المخاطر في المنطقة، وبالتالي انخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 2%. وحذر تقرير الشركة من أن استمرار الاضطرابات، وخاصة في غزة وعلى طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية، قد يؤدي إلى استمرار حالة عدم الاستقرار، وبالتالي زيادة مخاوف المستثمرين بشأن التوقعات الاقتصادية في مصر.

وكان بنك الاستثمار الدولي، لفت إلى أن وقف إطلاق النار في غزة، ربما يحسن الوضع الاقتصادي بشكل كبير في مصر، مرجحاً أن يؤدي ذلك إلى استعادة حركة الملاحة الطبيعية في البحر الأحمر، وتعزيز السياحة، وهو ما قد يرفع قيمة الجنيه المصري، ويدفع سعر الدولار إلى مستوى 47,5 جنيهاً. وأوضح البنك الدولي أن تراجع الجنيه المصري، يعود بشكل أساسي إلى زيادة الطلب على الدولار، في ظل الاحتياجات المالية الخارجية الكبيرة لمصر، بالإضافة إلى العجز التجاري الكبير، وكذلك أعباء سداد الديون المرتفعة.

سيناريوهات المستقبل

بالنظر إلى المستقبل، من المستبعد أن يخرج الأمر عن سيناريوهين لسنة 2025:

السيناريو الأول متفاءل ويعتمد على التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، وبالتالي عودة الملاحة إلى قناة السويس بشكل طبيعي، وتدفق السياحة، الأمر الذي قد يؤدي إلى ارتفاع قيمة الجنيه المصري إلى نطاق يتراوح بين 46,50 و48,50 جنيهاً مصرياً للدولار.

يعزز من تلك الفرضية، البيانات الإيجابية الواردة حول انخفاض معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المناطق الحضرية في مصر إلى 25,7%، في تمّوز/ يوليو الفائت، من 27،5% في حزيران/ يونيو الفائت، وفقاً لأحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وانخفض معدل التضخم في مصر خلال الأشهر الخمسة الماضية، بعد أن وصل إلى أعلى مستوى قياسي له عند 38% في أيلول/ سبتمبر 2023، الأمر الذي أدى إلى تراجع الأسعار بنسبة 0,4% على أساس شهري في تمّوز/ يوليو الفائت، مقارنة بـ 1,6% في حزيران/ يونيو الفائت.

السيناريو الثاني يرتبط باستمرار التوترات وتصاعدها في الإقليم، حيث يرتبط الوضع الجيوسياسي، بجملة التحولات الاقتصادية، ما قد يؤدي إلى تراجع الجنيه أكثر إلى نحو 49,50، وقد يصل إلى 55 جنيهاً مصرياً مقابل الدولار الأميركي في الأمد القريب.

ويرتبط هذا السيناريو باستمرار الركود، وتباطؤ حركة التجارة العالمية، في ظل استمرار الحرب في غزة، بالإضافة إلى الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث من المتوقع أن تنخفض عائدات قناة السويس، بالإضافة إلى التأثيرات السلبية على قطاع السياحة، وقطاع الغاز الطبيعي والنفط.

وفي ظل هذا السيناريو، سوف تعاود مستويات التضخم صعودها، مع استمرار زيادة أسعار الفائدة، من أجل جذب الأموال الساخنة، الأمر الذي يصنع احتياطات نقدية وهمية، ويضع مصر في مهب تقلبات السوق العالمية.