حماسة البيروتيين على الانتخابات البلدية اللبنانية مفقودة

لم تظهر المرحلتان الأولى والثانية من الانتخابات البلدية حماسة لدى اللبنانيين للمشاركة في الاقتراع، وهذا ينسحب على العاصمة بيروت التي يُفترض أن تجري الانتخابات فيها في 18 أيار/ مايو. وتشير تقديرات الخبراء الانتخابيين والمتابعين للشأن البيروتي إلى أن لا تتعدى نسبة التصويت 20% في أحسن الأحوال، وذلك لجملة من الأسباب.

خمس لوائح مكتملة

اللوائح المتنافسة يبلغ عددها (حتى كتابة هذه المقالة) 5 لوائح رئيسية “مكتملة”: الأولى لأحزاب السلطة وهي أكثر اللوائح قوة؛ الثانية ألفتها قوى التغيير (جماعة انتفاضة 17 تشرين الأول)؛ اللوائح الثلاث الأخرى لمستقلين مدعومين من نواب عن بيروت، وجميع اللوائح الخمس مقسمة مناصفة بين المسلمين والمسيحيين (12 مرشحاً مسلماً و12 مرشحاً مسيحياً من باب العرف)، مع وجود عدد لا بأس فيه من المرشحين المنفردين.

أسباب عدم الحماسة

عدم حماسة الناخبين البيروتيين وأسبابها، نابعة مجملها من اعتبارات سياسية، تبدو أعمق من مشكلات الانتخابات البلدية نفسها، ونذكر منها التالي:

1 – سطوة المحافظ على صلاحيات المجلس البلدي في بيروت: يتمتع المحافظ في مدينة بيروت بخلاف جميع المحافظين في بقية المحافظات اللبنانية، بصلاحيات واسعة تجعله حاكماً “شبه مطلق” للعاصمة. صحيح أنّ المجلس البلدي هو الجهة التقريرية في المدينة، لكنّ المحافظ هو الجهة التنفيذية التي تملك صلاحيات تمكنه من رمي أيّ قرار يتخذه المجلس البلدي بالدرج من دون تنفيذ.

وكانت المجالس الفاسدة التي تعاقبت على بلدية بيروت (أغلبها من أحزاب السلطة) قد عزّزت، عن غير قصد، صلاحيات المحافظ، الذي كان يُصوّر نفسه “بطلاً” عند تعطيل كل مشروع يتقدم به المجلس وتفوح منه رائحة فساد… وعلى هذا المنوال، أصبحت آلية العمل في البلدية، وبين المجلس والمحافظ، قائمة على قاعدة “التعطيل” وليس “الإنماء”. ناهيك عن عدم تجانس المجالس المنتخبة وافتقادها للبرامج الإنمائية للعاصمة نتيجة تحاصص أحزاب السلطة المرشحين من باب إثبات الحضور في العاصمة. وعلى هذا الحال، أمست المجالس البلدية في العاصمة عبارة عن مجلس وجاهة، لا عمل له.

– إخفاق السلطة في تعديل القانون في بيروت: صلاحيات المحافظ تلك جعلت من وصول أيّ لائحة أو مجموعة مرشحين متجانسين (مسلمين أو مسيحيين) بلا نفع، طالما أن المحافظ هو الجهة التي تنفذ القرارات أيياً كانت. وعليه، ومن بات فضّ هذه الأزمة، حاولت مجموعة من النواب التقدم باقتراح قانون يفضي إلى نزع صلاحيات المحافظ. إلاّ أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي وبعض الكتل المسيحية رفضوا طرح الاقتراح على الهيئة العامة بحجة أنّ الوقت داهم ولا يسمح بتعديل قانون الانتخابات.

ويتمتع محافظ مدينة بيروت، الأرثوذكسي،  بتلك الصلاحيات منذ خمسينيات القرن الماضي. ويشير مؤرخون بيروتيون كثر، إلى أن تلك الصلاحيات لم تُمنح للمحافظ من باب إرضاء الروم وتحاصصهم مع السنّة على المحافظ ورئيس البلدية. بل الأمر أبعد من ذلك، إذ يعتبر هؤلاء المؤرخون ان الزعامات السنية كان لها دوراً في إيلاء محافظ بيروت تلك الصلاحيات من باب قطع الطريق أمام المنافسة على الزعامة البيروتية، باعتبار أن رئيس بلدية العاصمة قادر على خلق حيّز سياسي لنفسه من خلال الإنماء في العاصمة.

– غياب “تيار المستقبل” الذي يُعتبر أقوى التيارات السنّية في لبنان، على الرغم من تعليق زعيمه سعد الحريري العمل السياسي بضغط من السعودية. لم تستطع الأحزاب ولا حتى الدول الاقليمية مثل السعودية أو قطر أو فرنسا أو حتى الولايات المتحدة، من سدّ ثغرة الفراغ في الطائفة منذ رحيل الحريري. فالرجل حتى اللحظة مازال في ضمير أبناء الطائفية التي ترتأي أغلبيتها أنّ زعامة الطائفة ما زالت بيد الحريري الابن. وفي ذكر 14 شباط/ فبراير الفائت (ذكرى استشهاد والده الرئيس رفيق الحريري) ألمح سعد الحريري لجمهوره عن إمكانية العودة إلى العمل السياسي، رافعاً شعار “كل شي بوقته حلو”. إلاّ أن مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية عاد وأعلن عدم مشاركة تياره بأي عمل سياسي. وقد فسّر البعض في بيروت هذا القرار على أنه نابع من ضغوط سعودية لثنيه عن عدم تعليق العمل السياسي الذي سبق واتخذه قبل الانتخابات النيابية الماضية.

– خوف أحزاب السلطة من المرحلة المقبلة وعدم حماستهم على الانفاق الانتخابي: المدة الفاصلة بين الانتخابات البلدية وتلك النيابية هي قرابة سنة فقط. هذه المدة تجعل الانفاق على الانتخابات أمر بالغ الصعوبة، نظراً للأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. وعليه، فإنّ أغلب الأحزاب وجماعات المتحمسة للانتخابات في كل لبنان تفضّل رمي ذقلها المالي في الانتخابات الثانية (النيابية) وليس الأولى (البلدية)، وهذا انعكس سلباً على حماسة الناس في الانخراط بالعمل الانتخابي. أضف إلى هذا السبب أنّ الضغوط الغربية التي تمارس على لبنان من أجل مكافحة الفساد وتنفيذ الإصلاحات، منذ نهاية الحرب بين إسرائيل وحزب الله إلى اليوم، جعلت الأحزاب كلها في حالة حذر. هناك خوف من تطوّر الضغوط لبلوغها مرحلة فرض العقوبات، مثلما حصل إبان الولاية الاولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب. يومها ارتفع منسوب العقوبات الأميركية ضد “أزلام السلطة”، خصوصاً الجهات الداعمة لحزب الله وسطوته على الحياة السياسية في لبنان. أمّا اليوم، فثمة خوف من أن يتكرّر هذا المشهد على وقع الاخفاقات الإصلاحية التي تظهرها السلطة (الحكومة ومجلس النواب) والعجز في حلّ مسألة سلاح حزب الله.

كل هذه الأسباب تجعل الانتخابات البلدية في لبنان عموماً، وفي بيروت خصوصاً، مسألة ثانوية، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور في الأشهر المقبلة، ولهذا لا يكثر أغلب اللبنانيين بالانتخابات البلدية، ويراهنون على تغيير مقبل قد يبصر النور في الانتخابات النيابية المقبلة، التي يُحكى أنّ المجتمع الدولي سيكون منغمساً فيها بالعمق من أجل تغيير المشهد السياسي اللبناني.

التقرير العربي الشعار

عماد الشدياق

مايو 11, 2025In مقالات