تونس وأوروبا وأزمة الهجرة غير الشرعية

يُعد ملف الهجرة غير الشرعية، أحد أهم الملفات الشائكة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بالنسبة للاتحاد الأوروبي. وقد كثر الحديث عن وضع هذا الملف على رأس أولويات السلطة في الدول الأوربية، عقب وصول العديد من الأحزاب اليمينية إلى سدة الحكم، في عدد لا بأس به من الدول الأوروبية، إذ جاء هذا الملف على قمة الخطط الانتخابية لتلك الأحزاب، وضمن وعودها التي دفعت بها إلى كرسي السلطة، بعدما تعهدت بالتخلص من اللاجئين غير الشرعيين عبر اتفاقيات تعيدهم إلى بلادهم، أو إلى بلدان ثالثة لا تمثل خطورة عليهم، وذلك استغلالاً لمخاوف المجتمعات الأوربية المتزايدة بشأن الهوية الوطنية، فضلاً عمّا يتعلق بأزمة تكلفة المعيشة، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، من ناحية تدني معدلات الأمان، والطلب المرتفع من طالبي اللجوء، ومآسي المهاجرين على حدود الاتحاد الأوروبي.

انفجار الأزمة

على تلك خلفية، انفجرت خلال الفترة الأخيرة أزمة المهاجرين الأفارقة عبر تونس، والذين يسعون نحو عبور البحر المتوسط صوب الدول الأوربية، إذ تعاني ولاية صفاقس التونسية من تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين، من دول أفريقيا جنوب الصحراء، على أمل اجتياز البحر المتوسط باتجاه أوروبا، بحثاً عن حياة أفضل، في ظل أزمات سياسية واقتصادية تعصف ببلادهم.

كانت الاحداث التي عصف بتونس، خلال  سنة 2011، وأدت إلى  سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، دافعا لاستغلال 28800 تونسي انهيار ضوابط الحدود التونسية، وعبورهم وسط تلك الفوضى البحر المتوسط إلى أوروبا.

ومنذ ذلك الوقت استقرت تدفقات المهاجرين من تونس، بما في ذلك غير التونسيين العابرين للبلاد، بمتوسط سنوي يبلغ 2500 وافداً إلى أوروبا، قبل أن تبدأ الأرقام في الارتفاع ببطء منذ  سنة 2017، إذ وصل 12900 مهاجر تونسي، بشكل غير قانوني إلى إيطاليا، بينما تمّ اعتراض 13500 آخرين. وتسارعت الزيادة في سنة 2021، مع وصول 15700 مهاجر غير شرعي من تونس إلى إيطاليا، وتمّ منع 25700 مهاجر من القيام بذلك. وفي سنة 2022، استمرت الهجرة غير الشرعية من تونس بالارتفاع، ووصل 18100 شخصاً إلى إيطاليا، ومُنع 38400 آخرين من إكمال العبور.

وتفيد بيانات رسمية صادرة عن وزارة الداخلية الإيطالية، عن تدفق ما يقارب 49 ألف شخص إلى السواحل الإيطالية، منذ بداية شهر كانون الثاني/ يناير، وحتى شهر أيار/ مايو 2023، أغلبهم وافدون من دول إفريقيا جنوب الصحراء، الذين استخدموا تونس كنقطة عبور، بهدف تحقيق حلمهم  بالوصول إلى أوروبا.

الجغرافيا والفوضى السياسية

تبدو الجغرافيا، واحدة من الزوايا التي يمكن الارتكان إليها في فهم أزمة المهاجرين الأفارقة، فالموقع الجغرافي لتونس في أقصى شمال أفريقيا، يُعد نقطة انطلاق مثالية للمهاجرين الراغبين في الوصول إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، ولا سيما مع الفوضى السياسية والميدانية التي تعيش فيهة دولة ليبيا، خلال سنوات العقد الفائت، الأمر الذي أثقل كاهل الدولة التونسية، وفرض عليها تحديات ضخمة، في إطار ضبط وتأمين الحدود البرية والبحرية.

هذا الوضع دفع الاتحاد الأوروبي، إلى توقيع اتفاقيات مع الدولة التونسية للحد من الهجرة غير القانونية، أبرز تلك الاتفاقيات، اتفاقية الشراكة في مجال التنقل التي وقعت في سنة 2014، والتي سيوفر الاتحاد الأوروبي من خلالها فرصاً أكبر للهجرة القانونية لسكان بعض الدول ومنها تونس، مع إتاحة الفرصة أمام المواطنين التونسيين للحصول على تأشيرة دخول إلى الاتحاد الأوروبي، وفي المقابل ستبذل تونس المزيد من الجهود لمكافحة الهجرة غير القانونية.

في سنة 2016، أطلق الاتحاد الأوروبي برنامجاً بقيمة 11,5 مليون يورو لخلق فرص اقتصادية في تونس، ومكافحة الهجرة غير القانونية، وكان الهدف منه أيضاً دعم إدماج المهاجرين في سوق العمل التونسي، فضلاً عن كافة الزيارات والتصريحات الداعمة التي أطلقتها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني نحو تونس، وحتمية دعم اقتصادها، ومساندتها في مفاوضات صندوق النقد الدولي، وكذلك فعلت فرنسا والرئيس ماكرون.

من جانبه، تمسك الرئيس التونسي قيس سعيّد، خلال لقاءاته مع الوفود الأوروبية التي زارت تونس مؤخراً، بالتوصل إلى حل وصيغة نهائية، تواجه تدفقات المهاجرين، وهو يواصل تصريحاته التي تذهب نحو رفضه أن تلعب بلاده دور الحارس لحدود أوروبا، أو أن تتحول إلى مكان لتوطين الأفارقة.

أمّا  الاتحاد الأوروبي فيواصل دعمه تونس عبر توقيع مذكرة تفاهم لمساعدتها في مواجهة أزمتها المالية، مدفوعاً بمخاوف من حدوث انهيار مالي، قد يطلق موجات هجرة إلى ايطاليا، ومنها إلى دول التكتل.

تهديدات اجتماعية

ربما يفاقم ما جرى مؤخراً في ولاية صفاقس جنوب تونس، على خلفية جريمة قتل جرت على يد أحد المهاجرين الأفارقة، أزمة الهجرة غير الشرعية، سواء لتونس، أو لدول الاتحاد الأوروبي. فالتوتر الذي ضرب أرجاء صفاقس، على مدى عدة أيام، دفع الرئاسة التونسية إلى إصدار بيان رئاسي، نفى فيه الرئيس سعيّد وقوع أيّ انتهاكات منظمة ضد المهاجرين، وقال إن “قوات الأمن التونسية، قامت بحماية هؤلاء الذين جاءوا إلى تونس، ويريدون الاستقرار فيها، بعكس ما تروج له الدوائر الاستعمارية وعملاؤها، من الذين لا همّ لهم سوى خدمة هذه الدوائر.” وأضاف بيان رئاسة الجمهورية: “ليس أدل على ذلك، من أن مواقفهم هي مواقف الأبواق المسعورة نفسها في الخارج، والتي تمهد إلى استيطان من صنف جديد، وتزييف الحقائق ونشر الأكاذيب.”

البيان في حد ذاته ومضمونه، يعيد إلى الذاكرة ما جاء على لسان الرئيس سعيّد، في مطلع شهر شباط/ فبراير، حين دعا إلى اتخاذ اجراءت عاجلة لوقف تدفق المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى بلاده، مشيراً إلى وجود خطة لتوطينهم وتغيير التركيبة الديموغرافية في تونس.

يبدو الأمر أنه ثمّة استثمار وتوظيف من دول الاتحاد الاوربي للأزمتين الاقتصادية والسياسية اللتين تعيشهما ليبيا وتونس، عبر الضغط على الدولتين بغية مجابهة تدفقات الهجرة، ودفع هؤلاء المهاجرين بعيداً عن حدودهم المباشرة، وعن تكلفة ذلك من الناحية السياسية، ولا سيما أن تأزم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في تونس، يدفع تجاه بزيادة أعداد المهاجرين نحو أوروبا، كما أنّها من جهة أخرى تضيف أعباء ضخمة على كاهل الحكومة التونسية اقتصادياً.

وتطالب تونس بدعم مالي واقتصادي، وتحث القوى الأوروبية على الضغط على صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على تمويل قدره 1,9 مليار دولار، غير أنّ الولايات المتحدة على وجه الخصوص، تطالب تونس بضمانات تتعلق بالقيام بإصلاحات اقتصادية، واحترام الديمقراطية.

وتحظى تونس بدعم إيطالي، ويطالب المسؤولون الإيطاليون الجهات الأوروبية بضرورة العمل على دعم تونس مالياً، لأنّ انهيار اقتصادها سيؤدي الى تصاعد ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وسيهدد أمن دول الاتحاد الأوروبي.

ولا ريب في أن ملف الهجرة غير النظامية يتفاقم بشكل ملحوظ خلال الآونة الأخيرة، يضيف ثقلاً على الحكومة التونسية، إلى جانب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد، الأمر الذي يزيد التحديات التي تواجهها مؤسسات الدولة، في ظل الظرف السياسي داخلياً وإقليمياً ودولياً، والذي بدوره يفرض تحديات معقدة ومتشابكة على كافة المستويات، ولا سيما مع متابعة التطورات التي تجري على الساحة الليبية، باعتبارها أيضاً واحدة من مناطق العبور التي يتم اللجوء إليها في تدفق موجات الهجرة غير النظامية.