توترات البحر الأحمر تغلق شريان مصر الحيوي

تؤثر الحرب الإسرائيلية على غزة سلباً على الاقتصاد المصري، وخصوصاً حركة العبور في قناة السويس التي تُعد شرياناً حيوياً استراتيجياً، وخصوصاً بعد دخول الحوثيين على مسار الحرب عبر تهديد حركة الملاحة في البحر الأحمر، وذلك في ظل تركيبة اقتصادية تعتمد على إيرادات السياحة ورسوم عبور قناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج، الأمر الذي يجعل الاقتصاد المصري معرض بشدة للصدمات الخارجية.

شريان استراتيجي

تعد قناة السويس مصدر الدخل الثابت الأكثر أهمية في مصر، وقد أدى حفر القناة إلى إنشاء ثلاث مدن رئيسية، هي: السويس والإسماعيلية وبورسعيد، وفيما بعد تم إنشاء عدة مناطق صناعية جديدة في المنطقة، مصحوبة ببنية تحتية حديثة، وبنيت الجسور والأنفاق الحديثة على طول مدن القناة التي تربط بشكل فعال الضفتين الغربية والشرقية.

وعلى مدار قرن ونصف هي عمر القناة، استثمرت مصر في التنمية الصناعية والزراعية في المناطق المحيطة، ومع حفر التفريعة الجديدة ارتفع سقف التوقعات، نحو جذب استثمارات مليارية، في محيط المجرى الذي لا تكاد تنقطع فيه حركة مرور السفن.

ويمكن القول إنّ الموقع الجغرافي والأهمية الاستراتيجية، يحملان إمكانات كبيرة لتعزيز الاقتصاد المصري بشكل عام، من أجل تنمية منطقة القناة، والتي تعد المصدر الأهم للعملة الصعبة في مصر، وقد أعلنت هيئة قناة السويس المصرية أنّ عائدات الممر الملاحي الحيوي في عام 2022، بلغت 8 مليارات دولار، متخطية بذلك كافة الأرقام التي تم تسجيلها من قبل.

آثار الحرب الروسية الأوكرانية

تأثرت حركة الملاحة في قناة السويس بشكل طفيف، بالحرب الروسية الأوكرانية، بعد توقف عبور سفن النفط والقمح والحديد القادمة من البحر الأسود، بسبب الصراع الدائر، إلا أن السفن الأوروبية التي توجهت إلى دول الجنوب، ومنها دول الخليج، للحصول على الغاز الطبيعي، عوّضت النقص في حركة الملاحة البحرية في القناة. الأمر الذي أدى إلى ارتفاع حركة الشحن بنسبة 14,3%، كما أدى قيام هيئة قناة السويس بزيادة رسوم العبور لجميع السفن العابرة، بنسب تتراوح بين 5 و10%، اعتباراً من أول أيّار/ مايو 2022، إلى ارتفاع دخل القناة بشكل قياسي في نهاية العام.

وعليه، لم تعان قناة السويس من الاضطرابات حول البحر الأسود، الذي يُعد بوابة روسيا الاقتصادية إلى الأسواق العالمية، حيث استقبلت قناة السويس العديد من ناقلات الغاز المسال القادمة من دول الخليج والجنوب باتجاه أوروبا، وقد عوضت هذه الناقلات بل وتغلبت على خسائر حركة الملاحة من البحر الأسود التي سببتها الحرب.

تداعيات الحرب على غزة

يمكن القول إن اعتماد مصر على الإيرادات الأجنبية المتقلبة، مثل إيرادات السياحة ورسوم عبور قناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج، يجعلها معرضة بشدة للصدمات الخارجية. وقد أدت حرب غزة إلى تضخيم هذه التحديات، وفرضت ضغوطاً إضافية على موارد البلاد المحدودة.

كان العامل الأكبر في تهديد مدخلات الاقتصاد المصري، هو التحرك الحوثي في جنوب البحر الأحمر، وما أدى إليه من تراجع إيرادات قناة السويس بشكل غير مسبوق، الأمر الذي ساهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية، إذ كان من المتوقع أن تمثل إيرادات الضرائب وأرباح القناة 8% من إجمالي الإيرادات للعام المالي الحالي 2023/ 2024، وفقًا للبنك المركزي المصري، ونتيجة لحرب غزة، أعلنت هيئة قناة السويس أن إيرادات القناة انخفضت بنسبة 46% (على أساس سنوي) في كانون الثاني/ يناير 2024.

وشهدت إيرادات قناة السويس انخفاضاً قياسياً بنسبة 64,3% خلال أيّار/ مايو 2024، لتبلغ نحو 337,8 مليون دولار، مقارنة بـ 648 مليون دولار خلال نفس الشهر في سنة 2023، إذ بلغ عدد السفن العابرة للقناة في أيّار/ مايو الفائت 1111 سفينة، وهو أقل بكثير من 2396 سفينة عبرت في الفترة المقابلة من عام 2023، وبالتالي سجل في أيار/ مايو 2024، انخفاض قدره 1285 سفينة.

وبالإضافة إلى انخفاض حركة السفن، حدث أيضًا انخفاض كبير في الحمولة الإجمالية، بنسبة 68.5% في أيّار/ مايو 2024 إلى نحو 44,9 مليون طن بانخفاض قدره 98 مليون طن، مقارنة مع شهر أيّار/ مايو من العام السابق، والذي سجل مرور 142,9 مليون طن..

وكان وزير المالية السابق، محمد معيط، توقع أن تنخفض إيرادات قناة السويس بنحو 60% بسبب التوترات في منطقة البحر الأحمر، وذلك في تصريحات على هامش اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن، بسبب استمرار التوترات في البحر الأحمر.

أما البنك الدولي، فتوقع في 12 حزيران (يونيو) الفائت، أن يبلغ معدل النمو في مصر للعام المالي الحالي (2023/ 2024) 2,8% مع انخفاض حركة المرور عبر قناة السويس، وبطء انتعاش السياحة بسبب الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط.

وتستهدف جماعة الحوثي اليمنية، منذ نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، السفن في البحر الأحمر ومنطقة باب المندب، بداعي أنها “تملكها أو تديرها شركات إسرائيلية”. وذلك رداً على حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة، وهو ما أجبر شركات الشحن العالمية على تحويل مسار سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، على الرغم من زيادة تكلفة الشحن والوقت الذي تستغرقه.

وتوقع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في دراسة له تحمل عنوان “الآثار الاجتماعية والاقتصادية المحتملة لحرب غزة في مصر: تقييم سريع”، أن تصل التكلفة الاقتصادية الإجمالية للحرب على الاقتصاد المصري خلال العامين الماليين 2023/ 2024 و2024/ 2025 إلى 5,6 مليارات دولار في ظل سيناريو منخفض الشدة، و14،6 مليار دولار في إطار سيناريو الشدة المتوسطة، و19,8 مليار دولار في إطار سيناريو الشدة العالية.

حلول وسيناريوهات معقدة

وفي محاولة للتغلب على الانخفاض الحاد في إيرادات القناة، أعلنت هيئة قناة السويس، في حزيران/ يونيو الفائت، أنها سترفع رسوم السفن التي تستخدم الخدمات الإلكترونية أثناء مرورها في القناة إلى 300 دولار أميركي، بدلاً من 50 دولاراً، اعتباراً من الأول من أيلول/ سبتمبر 2024. ومن المتوقع أن ترتفع الرسوم مرة أخرى في كانون الثاني/ يناير2025 إلى 500 دولار أميركي، على أن تظل الرسوم الحالية البالغة 50 دولار أميركي، سارية حتى نهاية آب/ أغسطس 2024.

ويبدو قرار رفع الرسوم، غير مناسب في مثل هذه الظروف، بوصفه عامل إضافي من عوامل الطرد، وكان الأجدى زيادة حوافز المرور عبر القناة، التي كانت تنقل، قبل الحرب على غزة، نحو 12% من إجمالي التجارة العالمية.

ولا تخرج الخيارات السياسية المتاحة أمام القاهرة، لمواجهة أزمة المرور في القناة، عن بذل المزيد من الجهد السياسي، لوقف إطلاق النار في غزة بأي ثمن، الأمر الذي يسهم بدوره في مواجهة التوترات في البحر الأحمر وتعزيز فرص الاستقرار في المنطقة.

ولا تستطيع القاهرة، بمفردها، تأمين المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، ويمكن القول إنّها في أمس الحاجة لتوافق دولي من أجل تأمين حركة السفن في المنطقة، وهو أمر شديد التعقيد، ذلك بأن توازنات السياسة المصرية الحالية، تفرض على القاهرة عدم الدخول في صراعات خشنة، كما أنّ أي مواجهة ضدّ الحوثي، سوف تستدعي بالضرورة مواجهة مع طهران، أضف إلى ذلك الرفض الشعبي لأي مواجهة مع جبهة الإسناد والممانعة، في ظل استمرار الانتهاكات الصهيونية.

وكان من اللافت، أن ترسل القاهرة وزير خارجيتها السابق سامح شكري، في أيّار/ مايو الفائت إلى طهران، للمشاركة في مراسم العزاء الرسمي للرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسيي، حيث التقى على هامش الزيارة، بالرئيس الإيراني بالإنابة محمد مخبر، وقال: “أحمل رسالة التعازي من الرئيس المصري، وشيخ الأزهر إلى حكومة وشعب إيران. إنّ النظام الإيراني له جذور وأسس قوية، مصر تريد تعزيز العلاقات مع إيران.”

ويبدو أن القاهرة، أرادت أن تطرق أبواب الحوثي على استحياء، عبر حليفه الإيراني، في سياق جهد دبلوماسي مضاعف، ربما يشهد تقارباً أكثر مع طهران، بالتزامن مع التقارب المصري/ الروسي، وهو ما قد يساعد على تخفيف قبضة الحوثيين على المضيق، وتأمين الممر الملاحي بعد توقف إطلاق النار في غزة.

وكان وزير الخارجية المصري السابق، سامح شكري، أجرى محادثات هاتفية مباشرة، مع رئيس الوزراء اليمني أحمد بن مبارك (الحكومة الموازية لحكومة الحوثي)، في آذار/ مارس الفائت، لبحث التوتر المتزايد في البحر الأحمر. وذكرت وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) أنّ المباحثات دارت حول تأثير التصعيد الحالي في منطقة البحر الأحمر على اليمن ومصر ودول المنطقة.

ويظل التواصل المباشر مع الحوثي، مرتهناً بمغامرة سياسية كبرى، في ظل موقف السعودية التي تقود تحالف دعم الشرعية المناوئ للحوثي، وكذلك الإمارات التي تدعم الانتقالي الجنوبي، الذي يخوض صراعاً مع الحوثي والشرعية في الوقت نفسه، الأمر الذي يشي بتحولات حادة في اتجاهات الاستثمار الخليجي، الذي يعد رئة التنفس الأخيرة للاقتصاد المصري.