تأييد حزب الله في إسناده لغزة يتراجع

الحماسة والإلتفاف الشعبي حول حزب الله لم يعودا كما كانا بداية عملية طوفان الأقصى وحرب المساندة التي أطلقها الحزب في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

في حينه أكد حزب الله أن المعركة التي افتتحها في جنوب لبنان هي لـمساندة حركة حماس وإشغال إسرائيل عن قطاع غزة. في حينه أيضاً، اعتبر جزء كبير من اللبنانيين، وخصوصاً المسلمين (سنّة وشيعة)، من بين الموالين والمعارضين، أن موقف الحزب كان مشرفاً بحق أهل قطاع غزّة. لكنّ الحال اليوم بعد مرور أكثر من 10 أشهر، تبدل كثيراً.

فما الأسباب خلف هذا التبدّل في المزاج الشعبي؟ وهل يمكن اعتبار أن حزب الله قد خسر المعركة الشعبية؟ الإجابة عن هذين السؤالين تُختصر بمجموعة نقاط تفسّر ما حصل:

1- ضعف التأثير: منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر، استطاع حزب الله أن يُصالح أهل السُنّة في لبنان من خلال جبهة المساندة. في الأشهر الأولى للحرب، ظهرت أصوات سُنيّة لبنانية وأخرى عربية على مواقع التواصل الاجتماعي تثني على موقف الحزب وتعترف بأن ما قام به لم تتجرأ أي دولة عربية (بخلاف الحوثيين في اليمن) على فعله من أجل نُصرة أهل غزة. لكن لاحقاً تبدل الموقف مع اكتشاف أن المساندة لم تُثمر أي شيىء، وخصوصاً بعد تدمير قطاع غزة بالكامل وتشريد الفلسطينيين منه، وقتل ما يزيد على 50 ألف منهم.

في حينه، ظن أغلب اللبنانيين (مسلمين ومسيحيين) أن المساندة قد تمنع الجيش الإسرائيلي من اقتحام القطاع، وخصوصاً أن الحزب ومن خلفه إيران، حذرا تل أبيب في الأسابيع الأولى من ذلك. حتى أنصار الحزب في لبنان اعتبروا أن الفرصة مؤاتية من أجل إزالة إسرائيل، وذلك عملاً بالأدبيات التي روّج لها محور الممانعة على مدى سنوات، إلاّ أن ذلك لم يحصل، وأصيب أنصار المحور بخيبة أمل كبيرة واعتبروا في مجالسهم المغلقة، أن إيران والحزب خذلا حركة حماس مثلما خُذل الحسين في كربلاء قبل قرون.

اقتحم الجيش الإسرائيلي قطاع غزة، ولم تستطع إيران ولا جماعاتها في المنطقة من ردع إسرائيل أو منعها من فعل ذلك. هذا الأمر ترك انطباعاً لدى أغلب الرأي العام اللبناني، يفيد بأن حرص حزب الله على عدم اقتحام اسرائيل للقطاع كان نابعاً من خوفه على عدم انهيار مبدأ وحدة الساحات الذي تحدث عنه الأمين العام حسن نصرالله لسنوات، أكثر من حرصه على غزة نفسها.

2- عامل التردّد: على مدى 11 شهراً تقريباً، كان الجيش الإسرائيلي يخرق قواعد الاشتباك ويصعّد عسكرياً في مواجهة حزب الله: يستهدف المدنيين والمنازل والمواقع العسكرية؛ يغتال قيادات الحزب وعناصره بواسطة المسيرات مطوّعاً أحدث وسائل التكنولوجية الحديثة التي تتعتمد على الذكاء الصناعي.

في المقابل، كان حزب الله يؤكد على احترامه لقواعد الاشتباك، مكتفياً بقصف مراكز الجيش الإسرائيلي، من دون القدرة على استهداف القيادات بالوتيرة نفسها، وذلك لتفاوت القدرات التكنولوجية. هذا الأمر أظهر أن الاستراتيجية العسكرية التي انتهجها حزب الله منذ نهاية حرب تموز/ يوليو 2006 إلى اليوم كانت خاطئة، أو في أحسن الأحوال كانت مصممة لـحرب شاملة وليس لعملية إسناد.

فبينما اعتمد الحزب في الردع على تعظيم ترسانته من الصواريخ بعيدة المدى والدقيقة، كانت إسرائيل تبني قدراتها الاستخباراتية على التجسّس بواسطة التكنولوجيا الحديثة، متكئة على قدر هائل من المعلومات، استقتها من خلال مشاركة حزب الله نفسه في الحرب السورية، منذ سنة 2012، إذ إن تلك الحرب كشفت ظهر الحزب وقدمت الكثير من المعلومات الاستخبارية عن العناصر والقيادات.

هذا الواقع أظهر أن توازن الردع الذي تحدث عنه حزب الله منذ سنوات، كان وهماً وسقط عند أول معركة بين الطرفين. ولعل هذه الحقيقة هي ما دفع بالحزب صوب التأكيد على التزامه بقواعد الاشتباك على الرغم من عدم التزام إسرائيل بها، وهو ما فُسّر ضعفاً، قرأته الجماهير بشكل واضح وجلي.

3- حجم الخسائر: لا شك أن الخسائر البشرية والمادية التي مُني بها لبنان خلال حرب تموز/ يوليو 2006 (في غضون 33 يوماً) كانت أكبر بكثير من الخسائر اليوم. إلاّ أن الفرق بينها وبين تلك اليوم هو في النوعية وليس في الكمية. خلال حرب تموز/ يوليو، دمرت إسرائيل الضاحية الجنوبية، ثم أعاد حزب الله بناءها بعد أن دفع التعويضات لجميع المتضررين. في حينه لم تتضرر قرى الجنوب، ما خلا بعض القرى التي شهدت معارك على مسافة صفر بين الطرفين.

منازل الضاحية الجنوبية أغلبها مستأجرة في أبنية قديمة ومترهلة نسبياً، ولها خصوصية دقيقة: أغلب سكان الضاحية من بين أهالي الجنوب والبقاع الذين تركوا قراهم ولجأوا إلى ضواحي العاصمة من أجل تحسين ظروف العيش. خسارتها لم تكن ذات قيمة، بقدر ما كانت ما يشبه الفرصة من أجل تحسين شروط السكن.

أمّا في الجنوب اليوم، وخصوصاً في قرى جنوب نهر الليطاني وعند الحدود، فالأمر مختلف. تلك المنازل المدمرة كلياً دفع الجنوبيون الغالي والنفيس من أجل بنائها، وهي بالإجمال قصور وفيلات أو منازل كبيرى مع حدائق وأراض زراعية واسعة. مع تدميرها يشعر الجنوبيون بأنّهم خسروا أملاكهم الحقيقية وليس أبنية مؤقتة كتلك في الضاحية. خسروا جنى أعمارهم وأرزاقهم التي قد لا تُعوّض مستقبلاً، وأغلبهم بدأ بالتفكير ملياً بتركها إلى أماكن جنوبية أخرى أقرب من العاصمة بيروت طالما أنها محكومة بالدمار كل عقد ونصف العقد من الزمن.

هذا الواقع أثّر على معنويات جمهور المقاومة، كما أثّر كذلك على قدرة حزب الله على التحرك، لأن حساباته الاقتصادية تجاه بيئته الحاضنة باتت أصعب وفاقت أيّ حسابات عسكرية أخرى.

4- السلوك الإيراني: لم يسلم حزب الله من سلوك السلطات الإيرانية، وخصوصاً بعد الأحاديث التي سُربت مؤخراً عن اختلاف في وجهات النظر بين طهران وأذرعها في المنطقة. فبينما كانت طهران تدعوهم إلى التريّث وعدم الانخراط بـحرب شاملة، كانوا هم يتلقون الضربة تلو الأخرى، وهو ما أعتُبر نوع من التخلي لصالح المصالح الإيرانية العميقة.

كذلك لم يسلم المحور من تغريدات المرشد الإيراني علي خامنئي، الذي قسم العالم إلى قسمين في أخر تغريدة له قبل أيام بين: يزيدي (نسبة ليزيد بن معاوية) وحسيني نسبة للحسين بن علي. اعتبر خامنئي أن من يقف إلى جانب إيران هو حسيني فيما بقية العالم من أتباع يزيد، الذي تسبب بمقتل الحسين.

هذه التغريدة أثارت حفيظة السُنّة في المنطقة على الرغم من عدم حبهم ليزيد، إلا أن السردية الإيرانية ظهرت كمن ينكأ جراء التاريخ. اعتبروا أن المرشد الإيراني يعيد إحياء عداوات عمرها 1400 سنة في حمأة حرب المسلمين ضد إسرائيل. وعلى الرغم من أن خامنئي لم يقصد السُنّة بتغريدته، وإنما قصد المحور الغربي ووقوفه الأعمى إلى جانب إسرائيل، إلاّ أن أغلب الجماهير انساقت خلف الغرائز الطائفية والخلافات القديمة… وهو ما أثر على مشروعية الحرب التي يقودها المحور برمته  ضد إسرائيل. بل أثرت كذلك على حركة حماس نفسها، وعلى زعيمها يحيى السنوار الذي بات محسوباً على الحرس الثوري الإيراني بشكل أو بآخر.