بزشيكان في العراق: إيران باقية وتتمدد

في رحلته الخارجية الأولى بعد توليه منصبه خلفاً لسلفه ابراهيم رئيسي المتوفى بحادث سقوط طائرة قبل أشهر، انطلق الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان من بغداد إلى أقصى شمال وجنوب العراق، في رسالة إقليمية مفتوحة لمن يعنيه الأمر عن حجم الدور والنفوذ الإيرانيين والثقل الذي تتمتع به بلاده في هذا البلد.

لم تكن الحفاوة التي رافقت الرئيس الإيراني في حله وترحاله، سواء في القصر الرئاسي الذي كان قد بناه رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين في بغداد، أو في مدن كربلاء أو أربيل أو البصرة، استثناءاً في طبيعتها؛ فهي على ذات المنوال الذي حظي به أسلافه خلال زياراتهم المتعددة لعراق ما بعد الغزو الأميركي في 2003، إلى جانب السعي لإزاحة الصورة السائدة عن العداء الذي طحن البلدين خلال حرب الـ 8 سنوات الدامية، أو طبيعة الخطاب السياسي الذي كان يعبّر عن رؤية تصف إيران بأنه بلد توسعي معادي للعرب، واستبداله بخطاب سياسي يعبر عن اندماج “روحي” مع إيران “الشقيقة الكبرى” ومع محور المقاومة.

ويعد اختيار العراق كأول محطة دولية للرئيس الإيراني رسالة للعالم بأن العراق يمثل عمقاً استراتيجياً لإيران، وحليفاً وثيقاً وسنداً في الأوقات العصيبة، وساحة للالتفاف على العقوبات الأميركية، وممولاً للاقتصاد الإيراني عبر عشرات المليارات من الدولارات التي تدخل سنوياً إلى الخزانة الإيرانية، إلى جانب استخدام العراق كمنصة لإطلاق رسائل تهدئة مع دول الجوار.

وتحاول طهران الخروج من مأزق أوضاعها الاقتصادية الصعبة عبر الهرولة باتجاه الساحات الأخرى التي لها تأثير فيها، مثل العراق الذي يملك ما يملكه من إمكانيات هائلة، وقد تجسد ذلك في المباحثات الموسعة بين رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والرئيس الإيراني، والتي أثمرت توقيع 14 مذكرة تفاهم ثنائية في مجالات وقطاعات مختلفة، شملت: الاقتصاد، والتعاون التدريبي، والشباب والرياضة، والتبادل الثقافي والفني والآثاري، والتربية، والتعاون الإعلامي والاتصالات، وفي مجال السياحية الدينية، والتعاون في مجال المناطق الحرّة العراقية – الإيرانية، وفي الزراعة والموارد الطبيعية، والبريد، والحماية الاجتماعية، والتدريب المهني والفني، وتطوير القوى العاملة الماهرة، والتعاون بين الغرف التجارية.

الرئيس الإيراني جال في عدة مدن عراقية عديدة، في استعراض سياسي لافت وتسويق واضح للحضور الإيراني وانتشار أصدقاء إيران في جميع المحافظات العراقية، وازدياد حلفائها قوة، بينما تزداد واشنطن التي تملك قوات على الأرض، تقوقعاً في قواعدها العسكرية ولا تجرأ على مزاحمة النفوذ الإيراني الذي تم تظهيره في البصرة حيث ارتدى رئيسها في زيارته لهذه المدينة، العباءة العربية.

وفي كردستان، حيث تبادل الحديث مع الإعلام الكردي باللغة الكردية، استثمر بزشكيان خلفيته الكردية من والدته ليطلق إشارات مغارلة للأكراد، ويلمح إلى العلاقة التاريخية ورسوخها مع إقليم كردستان/ العراق، ومحاولة استمالة الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة عائلة البرزاني، وخصوصاً بالحصول على ضمانات لتثبيت الأمن على جانبي الحدود والحد من نشاطات المعارضين الأكراد الإيرانيين وفي مقدمتهم حزب الحياة الحرة الكردستاني الإيراني (بيجاك) الذي يخوض صراع كر وفر مع القوات الإيرانية التي تشن بين حين وآخر، كلما زادت الضغوط الشعبية عليها، هجمات صاروخية على المناطق الكردية في أربيل تحت ذريعة استهداف قواعد المعارضين من جهة، أو “مراكز التجسس الإسرائيلية” من جهة أخرى.

وأعطت زيارة الرئيس الإيراني ولقاءه زعامات شيعية بارزة، دفعة معنوية للقوى الشيعية المسلحة التي ترعاها إيران، وغطاءاً قد يجعلها تعاود استهداف المواقع الأميركية ومحاولة إجبار الولايات المتحدة على سحب قواتها، أو إجبارها على الدخول في مواجهة عسكرية لا تفضلها حكومة محمد شياع السوداني المتمسكة بلغة الحوار والتفاهم أساساً لمغادرة الأميركيين لقواعدهم العسكرية بسلام، على الرغم من الحاجة الملحة لهم لدعم القوات العراقية في مواجهة تنظيم داعش وخلاياه المتواجدة في بعض المناطق او الصحراء العراقية.

أما الحرب الإسرائيلية على غزة فقد منحت إيران فرصة مهمة عبر تلاقي موقفها مع مواقف العراق المبدئية الراسخة من دعم القضية الفلسطينية، وذلك عبر محاولة ركوب موجة التعاطف الشعبي وإظهار الأطراف العراقية على أنها متمترسة خلف الشعارات الإيرانية المعادية لإسرائيل، ودفع العراق إلى وضع يكون فيه كأحد أضلاع محور المقاومة عبر التشكيلات المنضوية في تجمع عسكري يستهدف المواقع الأميركية أو الإسرائيلية بالتعاون مع حلفاء طهران في سورية ولبنان واليمن.

ويلخص المحلل السياسي العراقي فراس الياس أبعاد زيارة بزشيكيان إلى العراق واستعادة الدور الإيراني في المنطقة بعدة نقاط:

1 إن الأجندة المزدحمة لزيارة بزشيكيان في العراق، تعكس اهتماماً إيرانياً لتوجيه رسائل عديدة للداخل والخارج.

2 تمثل الزيارة مرحلة جديدة من مراحل السياسة الخارجية الإيرانية في العراق، إلا أن الأهم هي الطريقة التي سيتعامل بها بزشيكيان في العراق، وهل سيفرض رئيس مؤسسة الرئاسة رؤيته كما فعل الرئيس الأسبق روحاني، أم أنه سيكون مجرد مؤدي لأدوار الحرس الثوري في العراق، كما فعل الرئيس السابق الراحل رئيسي.

3 إن نظرة بسيطة لطبيعة مذكرات التفاهم الموقعة بين طهران وبغداد، تشير بما لا يقبل الشك، إلى أنها مذكرات تفاهم تعكس علاقات إقتصادية من جانب واحد، إيرانية طبعاً، وهذا يعني أن حكومة السوداني لم تركز على الأهمية الاقتصادية لهذه المذكرات، قدر تركيزها على تهذيب السلوك الإيراني في العراق المرحلة المقبلة، كما أنها راعت حساسية إيران من مذكرات التفاهم التي وقعها العراق مع تركيا أو غيرها، ولذلك فإن المقاربة الاقتصادية التي تنطق منها إيران، تقابلها مقاربة سياسية تنطلق منها حكومة السوداني.

4 يحاول بزشيكيان وعبر رؤيته الإنفتاحية على الخارج، الاستثمار في الدور العراقي، وتحديداً على مستوى توسيع خارطة التوافقات الإقليمية مع الدول العربية، وكذلك الحوارات غير المباشرة مع الجانب الأميركي، وبالشكل الذي يعيد إدماج إيران في المنطقة، وإنتاج مسار جديد لرفع العقوبات الأميركية عن إيران.