انهيار الليرة اللبنانية بين العوامل الداخلية والخارجية

يشهد سعر صرف الدولار في لبنان ارتفاعاً أمام الليرة منذ بداية الأزمة الاقتصادية في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019. هذا الارتفاع فاق قدرة اللبنانيين على تحمّل تبعاته بعد أن وصل سعر الصرف في أواخر أيام سنة 2022 إلى قرابة 48 ألفاً للدولار الواحد، قبل أن يتراجع إلى حدود 42 ألفاً في آخر أيامها، في حين أن السعر الرسمي الذي تعتمد السلطات النقدية في البلاد لا يزال عند سقف 1500 ليرة لبنانية، أي بفارق 32 ضعفاً.

وأسباب ارتفاع سعر الصرف إلى هذا الحدّ، كثيرة جداً: منها السياسي ومنها الاقتصادي؛ منها أيضاً الداخلي وكذلك الخارجي، ويمكن تلخيصها بما يلي:

تأخر الإصلاحات الاقتصادية

تأخرت الإصلاحات لما يزيد عن 3 أعوام، وذلك نتيجة الانقسام السياسي، ودخول البلاد في فراغ حكومي لأشهر طويلة خلال تلك الأعوام، ناهيك عن الفراغ في سدة الرئاسة بعد إصرار “حزب الله” على تعطيل الجلسات، محاولاً فرض مرشحه. هذا الفراغ أدى إلى شلّ العمل الحكومي نتيجة استقالتها بفعل الشغور، فعجزت عن تنفيذ الإصلاحات التي يوصي بها صندوق النقد الدولي:

كذلك لم ترفع السرية المصرفية التي تعيق محاسبة الفاسدين والكشف عن حركة الحسابات المصرفية والتدقيق في بنية الودائع المحتجزة في المصارف (أنجز مع الكثير من التحفظات من الصندوق على الصيغة والفعالية).

ولم يتم تشريع قانون “الكابيتال كونترول” الذي يضبط السحوبات من المصارف اللبنانية ولجم تهريب الأموال إلى الخارج.

ولم يتم إقرار قانون “هيكلة المصارف”، وهي عملية تعيد التوازن إلى القطاع المصرفي الذي يشكل عاموداً فقرياً للاقتصاد اللبناني وحركة دخول العملات الصعبة إلى لبنان.

وأخيراً ولي آخراًـ لم يتم تحرير سعر الصرف، وعدم التخلي كلياً عن سياسة التثبيت التي سادت لما يزيد عن 30 سنة وأدت إلى تآكل احتياطات المصرف المركزي من العملات الصعبة.

عجز السلطة اللبنانية عن تسديد التزاماتها

عجزت السلطة اللبنانية في تسديد التزاماتها، إن كان في الخدمات (مثل الكهرباء والمياه والانترنت) أو في دفع رواتب الموظفين والمصاريف التشغيلية للإدارة والمؤسسات العسكرية، وذلك نتيجة تراجع إيرادات الدولة بشكل كبير بعد انخفاض سعر الصرف. هذا الأمر دفع السلطة إلى الاستعانة بمصرف لبنان الذي تحول إلى “حكومة مصغّرة” هي تقرر متى تشتري الأدوية لوزارة الصحة أو تصرف الاعتمادات من أجل تزويد شكرة كهرباء لبنان بالفيول، أو كيف تدفع رواتب موظفي القطاع العام وبأيّ عملة… وذلك من خلال طبع الليرات وضخّها في الأسواق، إمّا لسد إلتزامات الدولة بالنيابة عنها، أو بحثاً عن الدولارات لشرائها بالليرات اللبنانية من المواطنين، متبدلة بذلك المصارف التجارية، بالصرافين والمضاربين.

هذه المسؤوليات فرضت على المصرف المركزي التحول إلى مضارب في السوق، يشتري الدولارات من المواطنين بسبب شح احتياطاته ويعيد ضخها في السوق على الخدمات والرواتب، في لعبة شراء وقت لا متناهية، تمهيداً لعودة الحياة السياسية إلى طبيعتها، من خلال انتخاب رئيس جديد للبلاد ثم تشكيل حكومة تتسلّم مسؤولياتها وتقوم بالإصلاحات.

تحوّل لبنان إلى إقتصاد "الكاش"

تحول لبنان إلى اقتصاد “الكاش” بعد تعثر القطاع المصرفي الذي أمسى مثل “حصالة نقدية”، يقصدها الناس لسحب الأموال منها فقط، وليس لإيداع الاموال في خزائنها، وذلك نتيجة الأزمة.

لعبة مصرف لبنان في الأسعار المتعددة

هناك ما يزيد على 5 أسعار صرف وهي: سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة)، سعر سحوبات الدولارات المحتجزة لدى المصارف (سعران لنوعين من الودائع الأول 8000 ليرة، والثاني 12 ألف ليرة) سعر منصة مصرف لبنان (صيرفة) القريبة من سعر “السوق السوداء” (38 ألف ليرة للدولار الواحد)، وسعر “السوق السوداء” وهو اليوم قرابة 42 ألف ليرة، إضافة إلى سعر الدولار الجمركي للواردات (15 ألف ليرة)، والسعر الرسمي الجديد الذي سيبدأ العمل به مطلع شهر شباط / فبراير المقبل من سنة 2023.

هذه السياسة أدت إلى تآكل القدرة الشرائية لدى المواطنين، وخصوصاً من الذين يتلقون رواتبهم بالليرة اللبنانية، وكذلك إلى تبخّر جزء كبير الودائع في المصارف (Haircut بحدود 80%). كل هذه الاسعار المتعدّدة، يصر مصرف لبنان على الاحتفاظ بها من أجل إطفاء خسائره وخسائر المصارف على حساب المودعين والمواطنين العاديين.

تفلّت "السوق السوداء"

شهدت السوق السوداء تفلتاً بشكل كلي، ونمت المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات على الهواتف الذكية، فضلاً عن تحول الكثير من اللبنانيين إلى صرافين غير شرعيين وإلى مضاربين وظيفتهم متابعة أسعار الصرف لبيع وشراء العملات من أجل التربّح، فبات هؤلاء قادرين على التأثير بسعر السوق من خلال تلك المجموعات والتطبيقات الخاصة بأسعار الصرف والمضاربة. فالسعر يحدّده عدد قليل من التطبيقات على الهواتف، لا يُعرف من يديرها ومن يتحكم بها، كما لا يُعرف ما هي المعايير التي تؤدي إلى ارتفاع السوق أو انخفاضه، فيما الدولة عاجزة/ أو لا تريد توقيفهم أو تعقبهم. وهذا كلّه حوّل نحو 5 ملايين لبناني إلى صرافين غير مُعلَنين، يتابعون أخبار الدولار ويضاربون كل بحسب حجمه وقدرته.

زيادة حجم الاستهلاك

زاز حجم الاستهلاك بشدة في السنتين الماضيتين بشكل كبير. وبما أن 80% من السلع في لبنان مستوردة، فإن زيادة الاستهلاك تعني زيادة في الاستيراد، وتعني أيضاً زيادة في الطلب على الدولار.

بلغ الاستيراد سنة 2020 نحو 11,3 مليار دولار، ثم زاد في سنة 2021 إلى 13,6 مليار دولار، فيما تشير تشير إحصاءات التجارة الخارجية في إدارة الجمارك اللبنانية، إلى أنه قد بلغت حتى نهاية تشرين الثاني / نوفمبر 2022 نحو 17,7 ملياراً، ومتوقّع أن يرتفع مع نهاية 2022 إلى 19,5 مليار دولار، أي بزيادة نسبتها 30% وبمتوسط استيراد شهري بنحو 1,5 مليار دولار.

وتحتل المحروقات رأس قائمة المستوردات، وتليها السيارات والجرارات والدراجات، ثم المعادن الثمينة (!!)، ومن بعدها الأجهزة الكهربائية، التي تشكل كلّها أكثر من 60% من مجمل المستوردات.

هذا الاستهلاك الزائد مردّه إلى 4 أسباب:

أ- حاجة اللبنانيين والسوريين (في سوريا ولبنان) إلى المحروقات.

ب- استباق التجار لرفع سعر الدولار الجمركي من 1500 ليرة إلى 15 ألف ليرة، بزيادة الاستيراد من أجل تحقيق المزيد من الأرباح.

ج- ارتفاع حجم التحويلات من الخارج إلى نحو 6,8 مليار دولار سنوياً (تحويلات عبر المصارف على شكل رواتب للموظفين مع جهات خارجية، وعبر شركات التحويل على شكل مساعدات عائلية)، وهذا كان محفّزاً إضافياً على الاستهلاك، خصوصاً لدى الطبقات دون الوسط والفقيرة التي تتلقى التحويلات من شركات تحويل الأموال على شكل مساعدات عائلية، ومعدلها قرابة 450 دولار للتحويلة الواحدة.

د- زيادة التهريب إلى سورية، نتيجة العقوبات الأميركية والأوروبية على نظام الأسد وغياب الأجهزة الرقابية في لبنان.

الحدود المشرّعة مع سورية

تفاقمت عمليات تهريب السلع والبضائع، وعلى رأسها المحروقات لزوم التدفئة والنقل وتوليد الطاقة الكهربائية بغياب الكهرباء الحكومية في البلدين. التوقعات تفيد بأن فاتورة استيراد المحروقات في لبنان لسنة 2022، ستتجاوز 5 مليارات دولار مقارنة مع 3,7 مليارات في سنة 2021، وذلك نتيجة تهريبها من لبنان إلى سورية، بعد أن أوقف النظام السوري الدعم عن المحروقات قبل مدة. ويُستدّل إلى ذلك من خلال انهيار الليرة السورية إلى نحو 7000 ليرة للدولار الواحد نتيجة الطلب على الدولار في سورية لزوم شراء المحروقات من لبنان. أما حصة الاستيراد عموماً للسوق السورية من الميزان التجاري اللبناني، فيقدرها الخبراء بنحو 7 مليار دولار.

كل هذه الأسباب أدت إلى انهيار الليرة… والانهيار يبدو مستمر على الرغم من محاولات مصرف لبنان ضبط سعر الصرف بأساليب غير معهودة مثل التدخل في السوق شارياً للدولارات، ثم تدخله بائعاً لها. لكن هذه الأساليب تخفّف سعر الصرف لأيام ثم يعود إلى الارتفاع مجدداً.

فضلاً عن ذلك، فإنّ هذه الأسباب ظاهرها إقتصادي ونقدي صرف، لكن باطنها يخفي في طياته أسباباً سياسية عميقة، تُلخّصُ بهيمنة محور إيران (حزب الله) على مفاصل الدولة ومؤسساتها: الحزب يمنع الإصلاحات ويبارك تعطيلها على يد حلفائه، ويعطل عمل المؤسسات الدستورية لفرض مرشحه الرئاسي، ويغطي التهريب عبر الحدود أو يغض الطرف عنها نتيجة تدخله في الحرب السورية منذ أكثر من عقد، كما يغطي مع حلفائه أغلب الصرافين غير الشرعيين والمضاربين المنتشرين في مناطق نفوذه، ناهيك عن تغطيته للفساد في مؤسسات الدولة.

وبالتالي، يمكن القول إن الانهيار المالي في لبنان هو مزيج ما بين الاقتصاد والنقد والسياسة، كما أنّه يشبه إلى حد بعيد انهيار العملات في الدول العربية التي يسيطر عليها محور إيران، تماماً مثل سورية، والعراق وحتى مثل إيران نفسها.