الوساطة المصرية بين مخططات تل أبيب ومناورات القاهرة

مع اقتراب حرب الإبادة الصهيونية في قطاع غزة، من عامها الأول، بات الأمن القومي المصري على المحك تماماً، في ظل استمرار التهديدات الإسرائيلية بدفع أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء، وانتهاء بتداعيات الحرب على الاقتصاد المصري الذي أصبح يعاني بشدة جراء تضرر حركة الملاحة في البحر الأحمر.

ويمكن القول إن القاهرة حاولت قلب المائدة لصالحها، من خلال الوقوف بقوة أمام المخطط الإسرائيلي الرامي إلى طرد الفلسطينيين إلى سيناء، والعمل على تعويض الخسائر الاقتصادية من خلال الضغط على الشركاء الغربيين والخليجيين، من أجل استمرار التدفقات النقدية، لكنّها واجهت في المقابل ضغوطاً من أجل تنفيذ جملة من الإصلاحات القاسية، وأبرزها تخفيف قبضة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد.

تقارير داخلية أكدت المخاطر الناجمة عن استمرار الكارثة الإنسانية على حدود مصر الشرقية، واحتمالات امتداد تأثيرها نحو إلى الداخل، في ظل تصاعد الغضب الشعبي، واستمرار حملات المقاطعة الواسعة للمنتجات الغربية. وهو ما تماهى معه الإعلام الرسمي، بتأكيد التضامن المبدئي مع القضية الفلسطينية، والهجوم المستمر على إسرائيل، مع استمرار بيانات الإدانة الرسمية للجرائم الإسرائيلية، حد ذهاب مصر إلى محكمة العدل الدولية تضامناً مع دعوى جنوب أفريقيا، وهو ما يبدو ترجمة حقيقية لرغبة رسمية في احتواء الغضب الشعبي، والاتساق معه. وخصوصاً أن التعبير عن الغضب الشعبي إزاء الإبادة الإسرائيلية، قد يخلق مجالاً للاحتجاج ضدّ الحكومة، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة.

اقتناص الفرص المتاحة

حتى اللحظة، تشارك مصر بنشاط مركزي، في الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إنهاء الحرب. فإلى جانب قطر، توسطت مصر مراراً، بين إسرائيل وحماس، سعياً للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، من شأنه أن يسمح بتبادل الأسرى والرهائن، وزيادة المساعدات الإنسانية المقدمة إلى قطاع غزة.

وتُعد الوساطة الدبلوماسية، فرصة لمصر لإظهار أهميتها المستمرة للولايات المتحدة وغيرها من الأطراف الدولية الفاعلة، باعتبارها وسيطاً مهماً، يسعى تجاه تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.

وبحسب مصادر سياسية تحدثت إلى موقع التقرير العربي، فإن القاهرة تنشط كذلك ضمن جهود صياغة ترتيبات سياسية وأمنية جديدة محتملة، في مرحلة ما بعد الحرب، ربما تتضمن دوراً أمنياً غير مباشر في قطاع غزة، حيث نجحت القاهرة في الحفاظ على علاقات متزنة مع حركة حماس، حتى الآن، في ظل وجود قناة اتصال مباشرة، مع الحركة في الداخل.

وترفض القاهرة المشاركة في القضاء على حماس، فهي لا تريد، من جهة، أن يُنظَر إليها باعتبارها شريكاً في تدمير المقاومة الفلسطينية، ومن جهة أخرى، هي غير مستعدة لمواجهة الفراغ المحتمل في قطاع غزة، في حال القضاء على الجسم السياسي للحركة.

ومع أهمية الوساطة القطرية، إلّا أن وجود مكتب سياسي لحركة حماس في الدوحة، اكسب الدور المصري أهمية أكثر مركزية في الجولات الأخيرة من المحادثات. وبحسب مصدر سياسي مصري مطلع، فإن القاهرة تدرس مقترحاً جديداً مع الأطراف الفاعلة، يقضي بتنازل حماس عن السيطرة على القطاع، لحكومة تكنوقراط فلسطينية مستقلة، مقابل إخراج القيادات العسكرية بشكل آمن، ومشاركة حماس، كجناح سياسي، ضمن العملية السياسية في القطاع، مستقبلاً. لكن كل هذا يأتي في مرحلة لاحقة، بعد التوصل إلى وقف نهائي لإطلاق النار.

ضغط باتجاه واحد

حتى اللحظة، لا توجد ترتيبات طويلة الأجل للقطاع، في ظل عدم وقف إطلاق النار، وفي ظل غياب رؤية واضحة لكيفية الوصول إلى تصور للمستقبل، وهو ما دفع القاهرة إلى رفض الربط بين وقف إطلاق النار، وكيفية إدارة القطاع بعد الحرب، حتى وإن كان لديها تصور ما للأمر، بهدف عدم إطالة أمد الحرب. وبحسب المصادر فإنّ القاهرة تؤكد دوماً أنّ تفاصيل اليوم التالي للحرب ليست أكثر أهمية من وقف إطلاق النار، وأنّها منفتحة على كل السيناريوهات، شريطة إنهاء الحرب فوراً. بما في ذلك نشر قوة عربية في غزة لتوفير الضمانات الأمنية، رغم كل المحاذير.

من جهتها، ترى واشنطن أنّ مفاوضات وقف إطلاق النار، يمكن أن تجري بالتوازي مع محادثات ما بعد الحرب، وكيفية إدارة القطاع.

بالنسبة لمصر، يمكن القول إنها ترى أن الترتيبات الأمنية المستقبلية، لا ينبغي أن تأتي على حساب مفاوضات وقف إطلاق النار بشكل نهائي، الأمر الذي دفعها إلى إهمال مفاوضات فتح وحماس التي جرت في الصين. وربما ترى القاهرة أن الحل السياسي يكمن في إنشاء سلطة فلسطينية موحدة، بعد إجراء إصلاحات جذرية، لا يمكن إتمامها في الوقت الراهن، في ظل تكلس حركة فتح، والضغط العسكري الهائل الذي تتعرض له حماس، كما أن الضغط على حماس لتغيير مسارها السياسي، يبدأ من الحصول على ضمانات إسرائيلية، بتجميد مخطط تدمير حماس. ومن ثمّ فإن القاهرة تبدو أكثر فتوراً في هذه اللحظة، تجاه ملف الوساطة بين الفصائل الفلسطينية المختلفة لتحقيق المصالحة.

وتدرك القاهرة أهمية الوقت الراهن، وخصوصاً مع اقتراب موسم الانتخابات الأميركية، وحاجة الإدارة الديموقراطية إلى تحقيق إنجاز سياسي، يدفع بمرشحتها نحو كرسي الرئاسة، إلّا أن التحديات المحيطة بما يسمى اقتراح الجسر، قوضت من جديد التفاؤل الحذر بشأن التوصل إلى اتفاق وشيك، حمله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، أواخر آب/ أغسطس الفائت.

وكان مسؤول مصري رفيع، أكد لوكالة أسوشيتد برس، أن حماس لن توافق على اقتراح الجسر لعدد من الأسباب، بالإضافة إلى الحذر المستمر منذ فترة طويلة، بشأن ما إذا كان الاتفاق من شأنه إنهاء تواجد القوات الإسرائيلية في غزة وإنهاء الحرب. مضيفاً أن الاقتراح الذي يهدف إلى سد الفجوة بين الجانبين، يتطلب تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، والتي تقضي بإطلاق حماس سراح الرهائن المدنيين الأكثر ضعفاً. ثم تتفاوض الأطراف خلال المرحلة الأولى على المرحلتين الثانية والثالثة من دون أي ضمانات لحماس من إسرائيل، سوى وقف إطلاق النار لمدة ستة أسابيع. وقال أيضاً إن الاقتراح لا ينص بوضوح على أن إسرائيل ستسحب قواتها من ممر فيلادلفيا على طول حدود غزة مع مصر، وممر نتساريم من الشرق إلى الغرب عبر القطاع.

وبحسب مصدر أمني تحدث بشكل خاص إلى موقع التقرير العربي، فقد أخبرت القاهرة الجانب الأميركي، أنّها غير متحمسة للمقترح الأخير، والذي لا يضمن انسحاب إسرائيل من ممر فلادلفيا، وأن القاهرة مصرة على عدم التعاون مع تل أبيب، فيما يتعلق بإدارة المعبر. الأمر الذي دفع نيتنياهو إلى اتهام مصر بتسهيل تدفق الأسلحة إلى حماس، وهو ما ردت عليه مصر ببيان رسمي صارم، اتهمت فيه نيتنياهو بمحاولة تبرير فشله العسكري.

وبحسب المصدر، فإن مصر أبلغت الولايات المتحدة وإسرائيل، بشكل قاطع، بأنّها لن تعيد فتح معبر رفح، من دون الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من الجانب الفلسطيني ومن ممر فيلادلفيا ـ وكذلك العمل نحو صياغة اتفاق جيد الإطار، مع مواعيد نهائية واضحة، وأهداف واضحة لتشجيع حماس على الموافقة.

وكان المسؤول السياسي لحركة حماس، باسم نعيم، أكد في حديث تلفزيوني، أن اقتراح الجسر يتبنى مطالب جديدة لإسرائيل، من بينها بقاء القوات الإسرائيلية في رفح وفيلادلفيا ونتساريم، وتفتيش النازحين الفلسطينيين العائدين إلى شمال غزة. بالإضافة إلى تغييرات غير محددة في ملف تبادل الرهائن المحتجزين في غزة مقابل الفلسطينيين المسجونين في إسرائيل، ولا يضمن كذلك وقف إطلاق النار، خلال المفاوضات بشأن الانتقال من المرحلة الأولى من التسوية إلى المرحلة الثانية.

تأهب لمواجهة الأسوأ

مع تعثر المفاوضات، وإصرار نيتنياهو على تفضيل حماية مستقبله السياسي، باستمرار الحرب، وعلى الرغم من أنّ القاهرة نجحت إلى حد كبير، في بناء موقف دولي رافض للتهجير، وداعم لجهود القاهرة، الرامية إلى التوصل إلى تسوية عاجلة للحرب. تزيايدت المخاوف مرة أخرى، مع اقتحام رفح، وسيطرة الجيش الإسرائيلي في 7 أيار/ مايو الفائت، على الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي.

وترفض القاهرة بإصرار هيمنة تل أبيب على ممر فلادلفيا، كما رفضت بصرامة، مطالب إسرائيل بتحويل شحنات المساعدات التي كانت في طريقها بالفعل إلى معبر كرم أبو سالم، تجاه معبر رفح، لأنّ في قبول ذلك اعتراف ضمني بأن إسرائيل هي صاحبة السيادة المطلقة على المعبر.

في المقابل، تمارس تل أبيب ضغوطاً كبيرة على القاهرة، باستهداف نقاط حدودية مصرية، وإجبار الفلسطينيين على التجمع في الجنوب، ممّا يمثل ضغوطاً متزايدة على مصر، التي قد تضطر في أي لحظة إلى استقبال أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، في ظل حرب التجويع والإبادة.

وعلى ما يبدو، اتخذت مصر التدابير التحضيرية للتعامل مع هذا السيناريو، حيث بدأت في بناء منطقة عازلة على طول الحدود مع قطاع غزة لاستيعاب ما يصل إلى مئة ألف لاجئ. لكنّها بالطبع لم تصرح بذلك، تفادياً لفرض مبدأ الأمر الواقع من قبل إسرائيل، زاعمة أنّها تشيّد مركزاً لوجستياً للمساعدات الإنسانية.

وكان وزير الخارجية السابق سامح شكري، أشار إلى أن نزوح الفلسطينيين إلى سيناء أمر غير مقبول، لكن مصر مستعدة للتعامل معه بشكل إنساني.

وعليه، فإنّ تقديرات الموقف الأولية، تشير إلى أنّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار، يبقى مرتهناً بالضغوط الأميركية على إسرائيل، في ظل استشعار الإدارة الأميركية للخطر، جراء استمرار الحرب، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، ويبقى كذلك مرتكزاً على المبادئ العامة التي صاغتها مصر، وعلى رأسها رفض التهجير، ومواجهة التواجد العسكري الإسرائيلي في الجانب الفلسطيني من معبر رفح، ولا تملك القاهرة من أوراق الضغط، سوى قدرتها على التواصل المباشر مع حماس، والضغط عليها، ورفض التعاون سواء فيما يتعلق بإدارة معبر رفح، أو بإدارة القطاع مستقبلاً، وهي ورقة ضغط تشكل أهمية كبيرة للولايات المتحدة، في ظل التقارب المصري الروسي المستمر، وأهمية أمنية لإسرائيل، في ضوء غموض المستقبل السياسي لنيتنياهو، الذي يواجه في تلك الآونة، ضغوطاً هائلة في الداخل الإسرائيلي.