النوايا الأميركية وراء التسريب عن تزويد مصر لروسيا بالصواريخ
مفاجأة ربما تكون مربكة، فجرتها صحيفة “الواشنطن بوست” الأميركية التي زعمت، نقلاً عن وثيقة استخباراتية قالت إنها مسربة، أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمر بإنتاج ما يصل إلى 40 ألف صاروخ لمصلحة الجيش الروسي. وبحسب المزاعم، فإن الوثيقة المؤرخة بتاريخ 17 شباط / فبراير الفائت، كانت ملخصاً لتفاصيل لقاء تم بين السيسي وكبار المسؤولين العسكريين المصريين، لمناقشة آليات تزويد روسيا سراً بهذه الصواريخ. وسواء صحت الأمر أم كانت القصة مُلفّقة، فإن وراء أكمة هذا التسريب ما ورائها.
القاهرة نفت على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، ما ورد في “الواشنطن بوست”، وأكدت أنّها منذ البداية قررت عدم التدخل في الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، والمحافظة على مسافة متساوية من الطرفين. وبدوره، وصف المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، هذه التسريبات بالهزلية والمخادعة.
على الجانب الآخر تحفظت واشنطن على الأمر، فهي إذ لم تنف الرواية المسربة، نفت علمها بأي تنفيذ لخطط تهدف إلى تصدير الذخائر المصرية إلى روسيا. ورفض المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي التطرق إلى محتوى الوثيقة، مشدداً على أهمية مصر كشريك أمني لواشنطن في الشرق الأوسط. وفي سياق متصل قالت المتحدثة باسم البنتاغون سابرينا سينغ، أن تكون وزارة العدل الأميركية قد فتحت تحقيقاً في الأمر.
وأي يكن المقصد وراء التسريبات، يمكن الخوض في عدة سيناريوهات لمستقبل العلاقات المصرية الأميركية، في ضوئها، على النحو التالي:
التسريبات صحيحة وتحتمل معاقبة القاهرة
تفترض صحّة هذه التسريبات أن تكون القاهرة قد قررت التخفف من أعباء التحالف الاستراتيجي مع واشنطن، والسعي لتطوير التعاون الاقتصادي والعسكري مع روسيا؛ هذا الأمر سيعني أيضاً أن واشنطن تتجسس على حلفائها، فتضعالنظام المصري، وفق هذا الافتراض، في حرج شديد، لأن التسريب تم عن طريق شخصية نافذة في القيادة العسكرية.
هذا الافتراض، إن صحّ، وإذ يكشف عن الهوة التي باتت تفصل القاهرة عن واشنطن التي فشلت في حماية تحالفاتها المستقرة، وفي دعم أبرز حلفاءها في الشرق الأوسط، فإنه يضع واشنطن أمام احتمال معاقبة القاهرة، من خلال وقف المساعدات العسكرية السنوية، أو تعليقها، وهو الأمر الذي عبّر عنه السيناتور الديموقراطي كريس مورفي، عضو لجان العلاقات الخارجية والمخصصات في مجلس الشيوخ، والذي قال “إذا كان صحيحاً أن السيسي يصنع الصواريخ سراً لروسيا، فنحن بحاجة إلى حساب جاد بشأن علاقتنا.” كما طالبت سارة مارغون، مديرة السياسة الخارجية الأميركية في مؤسسات المجتمع المدني، بمعاقبة القاهرة في حال أثبتت التحقيقات صحة الوثيقة. وأضافت: “إن البيع والتسليم المتعمدين للصواريخ المصرية إلى الحكومة الروسية، أمر يتجاوز حدود المتوقع، وخصوصاً بالنسبة إلى حليف مقرب ظاهرياً للولايات المتحدة مثل مصر؛ إن ما تم الكشف عنه في الوثيقة، إن كان صحيحاً، فإنه يثير التساؤل بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة، يجب أن تستمر في الدفاع عن مصر ودعمها.”
وتثير تصريحات مارغون جملة من التكهنات، بشأن مستقبل العلاقات المصرية الأميركية، ولا سيّما أن علاقات مصر مع الإدارات الديموقراطية لطالما كانت غير مشجعة على الإطلاق، وقد بلغت ذروة التدهور في عهد إدارة أوباما.
ويفترض هذا السيناريو أيضاُ احتمال اتخاذ مصر خطوات إضافية تجاه روسيا، بحثاً عن تعويض الخسائر التي ربما تنجم عن العقوبات الأميركية، كما يَفترض أن تتحرر القاهرة كلياً من أولويات السياسة الأميركية، وعلى رأسها العلاقات مع طهران التي تشهد انفتاحاً سعودياً عليها، سوف يدفع مصر إلى اللحاق بالركب بشكل أو آخر (انظر تقدير الموقف السابق: “الاحتمالات المصرية بعد الاتفاق السعودي الإيراني” بتاريخ 18 آذار / مارس 2023).
تزييف الوثيقة للضغط على مصر
إن كذب محتوى هذه الوثيقة، يعني وجود نوايا حقيقية لأطراف في الإدارة الأميركية الحالية لاستهداف القاهرة، وخصوصاً أن حسابات القاهرة الدقيقة، تتناقض مع محتوى الوثيقة المزعومة، ذلك بأنّها، وعلى الرغم من علاقاتها الجيدة مع موسكو، لا تزال تستثمر بعمق في شراكتها مع الولايات المتحدة.
يفترض هذا السيناريو وجود مبرر قوي لدى واشنطن لممارسة الضغط على القاهرة التي حاولت دائماً البقاء على مسافة في المواجهة بين الدول الغربية وروسيا بشأن أوكرانيا، سعياً لضمان أمنها الاقتصادي والعسكري، وربما يكون هذا الحياد هو السبب وراء هذا الضغط.
وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال”، قد أفادت في وقت سابق بأنّ وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، طلب خلال زيارة إلى القاهرة في آذار / مارس الفائت، من القادة المصريين تزويد أوكرانيا بذخيرة مدفعية، لكنه لم يصل إلى اتفاق واضح بشأن هذا الأمر. وبالتالي فإن الهدف قد يكون الضغط على مصر، للتخلي عن حيادها، وإيجاد مصدر شرق أوسطي لإنتاج ذخائر للجيش الأوكراني من جهة، وإبعاد مصر عن الدخول في شراكات اقتصادية مع روسيا من جهة أخرى.
إثبات اليد الطولى لواشنطن
يمكن القول إن مصر هي أكبر المتضررين من الحرب الروسية الأوكرانية، إذ يأتي نحو 80% من واردات غلالها من منطقة الصراع، ومع تراجع الدعم الأميركي والأوروبي، ومماطلة الأصدقاء في الخليج، اضطرت القاهرة إلى معاودة التعاون الاقتصادي مع موسكو، فاستقبل الرئيس السيسي وفداً روسياً رفيعاً في 19 آذار / مارس الماضي، ضمّ كلا من دينيس مانتوروف نائب رئيس الوزراء/ وزير التجارة والصناعة الروسي، وميخائيل بوغدانوف الممثل الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتن، ونائب وزير التجارة والصناعة الروسي، ونائب رئيس البنك المركزي الروسي، وسفير روسيا لدى القاهرة، وتناول الاجتماع الاستثمارات الروسية والمشروعات المشتركة في مصر، وخصوصاً ما يتعلق بإنشاء المنطقة الصناعية الروسية في المنطقة الاقتصادية في قناة السويس، وتمهيد الطريق أمام بدء مشاريع التصنيع المشترك بين البلدين، وتوطين الصناعة والتصدير لأسواق العديد من الدول، وكذ. كما تم التطرق إلى أزمة الغلال، وبحث سبل توفيرها ونقلها إلى مصر. ووقعت موسكو والقاهرة أيضاً على عدة اتفاقيات مهمة أخيراً، لبناء ورشة ضخمة للسكك الحديدية في مصر، وبدأت شركة روساتوم الروسية الحكومية للطاقة الذرية، العام الماضي، بناء أول محطة للطاقة النووية في مصر.
وعليه، ووفقاً لهذا السيناريو، ومع اختراق القاهرة للعقوبات الأميركية والغربية المفروضة على روسيا، قررت واشنطن إثبات يدها الطولى للقاهرة، والتلويح بوجود عملاء لها داخل القيادة العسكرية المصرية، وخصوصاً أن الوثيقة المزعومة تحتوي على علامات تشير إلى أنّها صادرة عن ذراع استخبارات هيئة الأركان المشتركة، والمعروفة باسم (J2).
وتقول الوثيقة إن الرئيس السيسي أصدر تعليمات في الأول من شباط / فبراير الماضي، للإبقاء على سرية توريد القذائف إلى روسيا، من أجل “تجنب المشاكل مع الغرب”، وأن شخصاً يُشار إليه باسم صلاح الدين، هو على الأرجح محمد صلاح الدين، وزير الدولة للإنتاج الحربي، لفت إلى ضرورة إخبار العمال بأن القذائف للجيش المصري، بداعي الحفاظ على السرية. ولفتت الوثيقة إلى أن المواد المطلوبة للتصنيع سوف تأتي من “مصنع 18” الحربي. ونقلت الوثيقة عن صلاح الدين قوله إنه “سيأمر العمال بالعمل بنظام الورديات إذا لزم الأمر، لأن ذلك أقل ما يمكن لمصر أن تفعله، لسداد الدين لروسيا التي ساعدتها في وقت سابق.” ولا توضح الوثيقة ماهية المساعدة الروسية السابقة لمصر، لكنها تقول أن صلاح الدين، أكد أن الروس أخبروه عن استعدادهم لشراء أي شيء.
وعليه، فإن ورود تفاصيل صحيحة داخل وثيقة ملفقة، مثل اسم أحد مصانع الانتاج الحربي، الهدف منه إرباك القيادة المصرية، وتكريس مقولات قديمة عن اليد الطولى لواشنطن، لدفع القاهرة بعيداً عن الدخول في شراكات اقتصادية مع موسكو، ذلك بأن الأمر بات محرجاً لواشنطن، كون القاهرة أبرز حلفاءها في الشرق الأوسط.