المتغيرات في شرق ليبيا وغربها تعقد الأزمة الليبية

تراوح الأزمة الليبية في مواضعها، الثابت منها والمتغير، بفعل عناصر وآليات ترتبط بخصوصية الأزمة الليبية، لجهة طبيعة القوى الداخلية، وسياقات تكويناتها وخصائصها المميزة، والأطراف الفاعلة إقليمياً ودولياً، وكذلك ما يتصل بتغير تموضع بعض الشخصيات داخل حيز السلطة، وما يترتب على ذلك من آثار وتداعيات، ولا سيما عندما يحدث ذلك في توقيتات مفصلية وحاسمة.

وقد جاء انتخاب محمد تكالة، رئيساً للمجلس الأعلى للدولة، خلفاً لخالد المشري الذي حافظ على منصبه طيلة سنوات مضت، نقطة فاصلة في خارطة الأزمة الليبية، ومسار الحل، وخصوصاً أن الأخير أدرك لغة الحوار والتفاوض مع مجلس النواب، واستطاع عبر اللجنة المشتركة “6+6” الوصول إلى مخرجات توافقية تختص بالقوانين الانتخابية، وفقاً للتعديل 13، الذي أصدره مجلس النواب.

الدبيبة والبناني يطيحان المشري

بيد أن ذلك الطريق الطويل الذي قطعه كل من المستشار عقيله صالح، وخالد المشري، اصطدم بقدرة تيار آخر داخل المجلس الأعلى للدولة، أو بالأحرى داخل الغرب الليبي، وتمثل في رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، ورئيس حزب العدالة والبناء عماد البناني اللذين تمكنا من الإطاحة بخالد المشري وتنصيب محمد تكالة بدلاً منه.

عُرف عن الأخير مناهضته للتعديل 13، الذي أصدره مجلس النواب، وأيضاً رفضه كل محاولات خالد المشري تمرير سيناريوهات مجلس النواب عبر المجلس الأعلى للدولة، الأمر الذي يضع الأمور في ليبيا مرة أخرى امام سؤال الحل، ومدى نجاحه في تجاوز تناقضاته وتركيباته المعقدة.

جانباً من جوانب تشابك الأزمة الليبية، أن ثمة تصور استقطابي بين الأطراف المحلية الفاعلة، يقع فيما بين الشرق والغرب، حكومة هنا وأخرى هناك، مجلس نواب لبنغازي وآخر أعلى للدولة في طرابلس، وهكذا على طول الخط والمسافة التي من خلالها تقرأ كافة تفاصيل الأزمة، ومدى تشبث كل طرف بموقعه وتمسكه بقدراته وامكانياته، إلى الحد الذي لا يمانع فيه أي طرف بالعودة إلى المربع صفر، من دون أخذ الاعتبار أو الاهتمام بتراكم الايجابيات والبناء عليها، وفقاً لتصورات وطنية تتماهى مع الدولة الوطنية الحديثة.

من الواقعية القول إن كلا من القوى الفاعلة في الشرق الليبي أو العاصمة طرابلس، أضحت بشكل أو آخر، تتباين في تحالفاتها المشتركة، إذ لم يعد مجلس النواب والقيادة العامة للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر حليفان استراتيجيان، ولم يعد المجلس الأعلى للدولة والحكومة في العاصمة طرابلس حليفان، وبالتالي استطاعت الحكومة استعادة المجلس عبر تجاوز المشري الذي سلط كل انتقاداته وإمكانيات غرفته التشريعية ضدّ الحكومة ورئيسها عبدالحميد الدبيبة.

في الشرق مثل الغرب

في الشرق، استطاع الجيش وقائده خليفة حفتر، تعزيز حضوره السياسي عبر تجاوز رئيس الحكومة فتحي باشاغا، وإقالته لصالح مرشحه أسامه حماد، ويُمكن رؤية ذلك من جانب سياسي، إذ إن ذلك يضعف من رصيد مجلس النواب السياسي، ولا سيما رئيسه المستشار عقيله صالح الذي رفض إقالة باشاغا، وتنصيب حماد بديلاً عنه.

الآن تبدو الخريطة السياسية المحلية في وضع استثنائي، إذ أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، يرى موضعه وأفق تصوراته على المحك تماماً، مرة حين خسر حليفه التكتيكي في المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، لصالح آخر يرفض البتة التعديل 13 للإعلان الدستوري، والذي يمثل البنيان التشريعي الذي ينبغي أن يقوم عليه الاستحقاق الانتخابي، ويتمركز مع توجهات حزب العدالة والبناء، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، مع طرح أممي في صياغة لجنة دولية جديدة، على غرار لجنة جنيف، تقوم بصياغة القوانين الانتخابية، وتجاوز الأجسام التشريعية القائمة، مما يدفع تأويلات عديدة نحو الظن بقرب سيناريو إزاحة المستشار عقيلة صالح من كرسي رئاسة البرلمان، متى ما وقع التوافق بشأن صياغة توحيد السلطة التنفيذية بين الشرق والغرب من خلال الدبيبة وحماد، غير أن هذا السيناريو يصطدم برغبة الأول في الترشح للانتخابات الرئاسية.

موقف المبعوث الأممي

إلى ذلك، يبدو فحص الموقف الأممي والإقليمي مهماً ولافتاً، في مدى قدرة تلك القوى على دفع الأزمة  الليبية نحو الحل، وتفكيك تعقيداتها وتشابكاتها، الأمر الذي يعني أن معظم تحركات المبعوث الأممي عبدالله باثيلي، تذهب نحو الانفتاح على ضرورة الوصول إلى الاستحقاق الانتخابي عبر آليات مختلفة، تملك القدرة على الضغط على الأطراف المحلية الفاعلة، وتسمح بتمرير الاستحقاق الانتخابي وفقاً لتصوراتهم، الأمر الذي يمنع تكرار ما جرى في الاستحقاق السابق الذي شهد دخول بعض الشخصيات التي ترفضها القوى الدولية مثل سيف الإسلام معمر القذافي.

ثمّة ملاحظة ضرورية في اقتفاء مواقف باثيلي الذي أعلن لحظة وصوله لهذا المنصب عن إجراء الانتخابات خلال 2023، والذي يبدو تنفيذه خلال الشهور المتبقية أمراً بعيد المنال، وفقاً لاعتبارات عديدة واحتمالات تتباين تصوراتها، وخصوصاً ما يتعلق بشكل العلاقة بين مجلس النواب والأعلى للدولة، ولا سيما بعد انتخاب محمد تكال، وإلى أي مسار وطريق سيمضي عمل لجنة “6+6″، وما هي شكل الملامح والأسس القانونية التي من الممكن أن تنتجها اللجنة تبعاً لهذا التصور الجديد، واتساقاً مع معطيات القوى الجديدة.

هذا المسار من السياسات والخطوات المتلاحقة والمتناقضة، دفع المبعوث باثيلي، إلى إظهار تذمره أكثر من مرة، من كافة السياسيين الليبيين، بعد لقاءه شخصيات مارست عملها في نفق الأزمة الليبية من دون نتيجة ملموسة، إلى الحد الذي جعله يؤكد أن جميع المؤسسات الحالية هي العائق أمام الوصول إلى الاستحقاق الانتخابي. وبالتالي يبدو أن عدم الوصول إلى نتيجة ملموسة مع تلك الأطراف الفاعلة خلال الأشهر المتبقية من العام الجاري، سيضع الأزمة الليبية أمام تصور صياغة لجنة عليا، من شأنها صياغة التصور القانوني والتشريعي للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، غير أن ذلك لا يمنع البتة احترام قدرة الأطراف المحلية الفاعلة، على التحكم في مجريات الأمور، وقدرتها على ضبط الأزمة عند نقاط محددة؛ تبعاً لرؤاها الخاصة.